مولود قاسم نايت بلقاسم: الأمازيغي الأصيل الذي دافع عن لغة الضاد

بقلم: عبد الحكيم أسابع-

«... وما وجدت معرّبين اثنين يتحدثان في جزائرنا الحديثة إلاّ ومولود قاسم نايت بلقاسم ثالثهما»، مقولة تحيلنا تاريخيا على العبارة العظيمة المُعظّمة لشأن شاعر العرب مطلقا وإلى ما لا نهاية أبي الطيب المتنبي، بنصّها الحرفي الموحي: "ما وجدت اثنين يتحدثان إلا والمتنبي ثالثهما!".

إنّ قيمة مولود قاسم نايت بلقاسم، لا تقل أهمية ودرجة عن بقية عظماء العالم الذين أحبوا شعوبهم بعمق، وذادوا عن هويتهم وتاريخهم بالنفس والنفيس...

أحب العربية، وعشقها عشق الصوفيين الضارب في أعماق النفوس وبواطن الذوات الحائرة، فكان – كما هو معروف عند عامة الناس وخاصتهم- لا يطمئن ولا يهدأ له بال لمّا يرى خطأ في الكتابة العربية عالقا في اللافتات وعلى جدران محلات البيع، وفي الفضاءات الإشهارية... فيتدخل مسرعا قصد تصحيحه وتصويبه...، وهكذا شهدت له وتشهد شوارع بعض مدننا التي أصابها الخطأ اللغوي عن قصد أو عن غيره...، فكانت الظاهرة خطأ وخطيئة وجريمة كبرى بأركانها القانونية في نظر مفكرنا الفاضل مولود قاسم نايت بلقاسم.

من هنا كان اختيارنا لهذه الشخصية المتميزة التي سكنت ذاكرة الجزائريين بخاصة، وعرب لغة الضاد بعامة.
يعتبر مولود قاسم نايت بلقاسم المولود في السادس جانفي 1927 ببلدية بلعيان بأقبو بجاية، من خيرة ما أنجبت الجزائر، من العلماء والمفكرين والمثقفين العظماء ولا يمكن لأي جاحد أن ينكر ذلك، وقد دافع عن اللغة العربية باستماتة وكان حريصا على أن تسترجع هذه اللغة مكانتها ومركزها، كما ترك رصيدا علميا ومعرفيا كبيرا حول وجود الأمة الجزائرية، لكنه للأسف هُمّش إعلاميا، وكان من الأجدر أن يُقدم كقدوة على الدوام، لأنه قدوة  بحق، فهو إنساني  ووطني أصيل وعصري وصارم وصبور ومنهجي وصريح، وسطي معتدل، معتز بدينه ومهتم بنهضة أمته، موسوعي مبهر ومبدع غزير الإنتاج.
...كان المرحوم مولود قاسم، حريصا كل الحرص على أن تستعيد اللغة العربية مكانتها ومركزها، ورغم انخراطه في التعريب أكثر من غيره، وخوضه معركة تعميم استعمال اللغة العربية بشراسة، إلا أنه ‘’ظل رافضا لكل النظريات الفكرية القومية والبعثية التي أرادت أن تجعل من اللغة دينا، وقد جلبت له مواقفه الكثير من الخصومات من التيار القومي، فهو يرى أن الدفاع عن العربية لغة للجزائريين، يرافقه التمسك بالأصول الأمازيغية للشعب، الذي قال أن عليه الافتخار بتاريخ أجداده’’ (1).

وفي سياق دفاع الأستاذ العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم المستميت عن اللغة العربية، أنه عمل على إنشاء مجمع اللغة العربية الجزائري على غرار الدول الصديقة والشقيقة التي سبقتنا في إنشاء مجامعها الوطنية كالمجمع اللغوي الفرنسي الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1635 والمجمع السوري (أقدم المجامع اللغوية العربية) عام 1919 والمصري عام 1932 والعراقي عام 1946 والأردني عام 1976 .

اللغة العربية رمز الهوية الوطنية

مما لا ريب فيه أن تركيز مولود قاسم على اللغة العربية كرمز من رموز الهوية الوطنية يأتي لإدراكه أنها المقوّم الحاسم في بناء الفكر وإرساء الدّعائم المعنوية للمجتمع، فاللغة عامل يصون الكيان ويصنع التربية وينتقل بالهوية أينما سار الإنسان وأينما حل وارتحل.

وفي هذا السياق يؤكد مولود قاسم نايت بلقاسم أن «اللغة هي رمز وجود الأمة، وبقدر أصالة اللغة، والمحافظة على اللغة الأصيلة أو فقدانها تكون المجموعة البشرية أمة وشعبا أصيلا أو مجرد أشتات فحسب».
فاللغة – حسبه - هي التي تحافظ على هوية كل مجتمع وكيانه وتحميه من التمزق والتشتت والاندثار وهو ما أكده الفيلسوف فريديريك نيتشة بقوله « اللغة تلزم الإنسان في حياته وتمتد إلى اعماق كيانه وتبلغ إلى أخص رغباته وخاطراته، إنها تجعل من الأمة الناطقة بها كلا متراصا خاضعا لقوانينها... ».(2)

فاللغة إذا هي الرابط الموحد للأمة والحام لها من الزعزعة والانكسار والتفكك، وضمن هذا الطرح يتجلى موقف مولود قاسم من مكانة اللغة ودورها في حياة الأمم، وهي تلك الصورة التي تعطي محتواها لونا وشكلا وقواما، هي المحملة بتلك العناصر المكملة للذاتية، للشخصية الوطنية، وهي ذلك التيار الذي يبعث الروح في جميع أركان الكيان الوطني، وذلك الإسمنت الذي يضمن وحدة البنيان القومي والذي بدون تلاحمه لا يمكن أن يكون أي كيان لأمة من الأمم.

تبنى مشروع التعريب كمشروع إصلاحي وواجه المد الفرنكوفوني

إن ولع مولود قاسم نايت بلقاسم باللغة العربية هو ما دفعه إلى تبني مشروع التعريب كمشروع إصلاحي للهوية الوطنية باعتبار أن اللغة في نظره من أهم المرتكزات الأساسية الإنية الجزائرية، واللغة كما يؤكد « كائن حي يعيش مع الإنسان ويخضع لمختلف مظاهر التطور التي يمر بها الإنسان في بيئته فأي تغير أو تطور يطرأ على حياة ذلك الكائن البشري يجب أن ينعكس على لغته التي لا تنفصل عن لحظة من الزمن»(3).

وقد شغل مولود قاسم نايت بلقاسم عدة مناصب سامية أبرزها، استوزاره في التعليم وتعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية، في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين كما كان مسؤولا في جبهة التحرير الوطني مكلفا بتعميم استعمال اللغة العربية ومسؤولا عن المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر.
و كان مولود قاسم نايت بلقاسم –حسب مختلف المصادر - يحوز مكانة مهمة في الحكومة، كونه مترجما بارعا، تولّى ترجمة كلّ ما يكتب عن الجزائر في الصحف الأوربية، إذ كان يتقن خمس لغات عالمية ويحسن أربع أخرى من بينها السويدية التي تعلمها في أسبوع من أجل إلقاء محاضرة في ستوكهولم دون حاجة للمترجم، وحتى القديمة منها كاللاتينية.

وسخّر هذه القدرة على تعلم اللغات وإتقانها، في خدمة البلد في فترة الاستعمار وبعد الاستقلال، إلى درجة أنّه كان يشتغل في بيته ليبقى متابعا لكلّ ما يكتب عن الجزائر.

وترجم مولود قاسم حبّه ودفاعه عن العربية بقرار أصدره سنة 1970 بصفته وزيرا للتعليم الأصلي، بأن لا يمضي أية وثيقة بالفرنسية، كما قرّر أن لا يرد ولا يقرأ أية مراسلة مكتوبة بلغة أجنبية مهما كان مصدرها.(4)
وقال موظفو الوزارة التي كان يقودها – بحسب روايات متواترة ومتطابقة - أنّه كان صارما في التشديد على أهمية تشكيل الكلمات العربية باستخدام الآلة الرّاقنة لتوصيل المعاني الصحيحة بين مختلف القطاعات الحكومية، وقيل أنّه قام بجلب كتب اللغة العربية من دمشق وبغداد وزوّد بها مقرّ حزب جبهة التحرير الوطنيّ لرعاية مشروع تعريب الجامعة الجزائرية، لكنّه فوجئ باختفائها فيما بعد، فشاهد في دهشة مشروع التعريب وهو يفكّك أمام عينيه دون قدرة على التحرّك لوقف تلك المؤامرة.
وفي سياق ذي صلة فقد عمل مولود قاسم على استكمال جهود الشيخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، اللذين أسسا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مطلع ثلاثينيات القرن الماضي التي رغم أهميتها لم تستطع وقف المدّ الكبير للغة الفرنسية في الجزائر، وقال متحدّيا الفرنكوفونيين، حيث كان يعلم تماما كيف يفكّرون، فقال لهم: «إنّ اللغة العربية كانت لغة العالم في يوم من الأيام، وإنّها كانت تقود العقول وتطوّر العلوم»، وهو ما استفاض في شرحه والمرافعة عن اللغة العربية في مقال شهير له تم نشره في مجلة «الثقافة» الجزائرية، والذي حمل عنوان: «بجاية الإسلام علّمت أوروبا الرياضيات بلغة العروبة»، وهو البحث المهم الذي جاء فيه بقيمة مضافة على الصعيد الفكريّ، حين أثبت أنّ اللغة العربية قادرة على استيعاب كل العلوم.(5)

زد على ذلك فللأستاذ مولود قاسم، العديد من المقالات التي دافع فيها بشكل علمي وباستماتة، عن اللغة العربية كرمز من رموزنا الحضارية العليا، وكان لمقالاته تلك في كل مرة وقع موجع في نفوس «بعض» الفرنكوفونيين ممن تتملكهم نزعة استعلائية باثولوجية (مرضية)(6)

وقد يتصور من لم يتعمق في أطروحات الأستاذ مولود قاسم في هذا الشأن أنه «ضد» تعلم اللغات الأجنبية والفرنسية منها تحديدا، لكن هذا التصور الخاطئ سرعان ما يتبدد ويتلاشى (من المفروض) في ذهن صاحبه بمجرد قراءة مقالات ودراسات كتبها الأستاذ الراحل باللغة الفرنسية رأسا ومباشرة دون أي عقدة تذكر، وهو ما يعني أنه رجل يحتكم إلى المنطق أن الكتابة باللغات الأجنبية ليست عيبا في حد ذاتها، بل «هو» بالأحرى «ضد» كل من يقوم بذلك «تنكرا» وتهميشا للغته الوطنية.(7)

إهتمام لافت بتاريخ البلاد

ومن بين النقاط الفكرية التي خالف فيها مولود قاسم غيره، تناوله لتاريخ الجزائر وبدايته، ففي الوقت الذي ذهب البعض إلى اعتبار استقلال البلاد بداية لقيام الجزائر، وقال آخرون إن الفتح الإسلامي أو وصول العرب إلى الجزائر هو بدايتها، في تلك الأثناء، خرج مولود قاسم على الناس ببحث تاريخي أسماه «شخصية الجزائر الدولية قبل 1830»، عاد فيه إلى الأصول القديمة لهذه الأمة التي كان لها دوما دور في التاريخ.

ولأنه أمازيغي أصيل فقد تمعّن في إبراز الامتداد الأمازيغيّ في الجزائر، ووجد أنّ على الجزائريين الافتخار بأجدادهم الأمازيغيين، مذكّرا بدور القائد الإسلاميّ الكبير طارق بن زياد في الفتوحات الإسلامية وفتح الأندلس، ولشدّة حبّه للتاريخ الأمازيغيّ أطلق اسم يوغرطة على نجله الأكبر.
وقد سأله الكثيرون عن سبب اختيار اسم يوغرطة الأمازيغي لابنه فقال: «يوغرطة هو أعظم ملوك الجزائر عبر التاريخ»، كما أنّه كان يجيب المشككين بأن له ابنة أخرى سمّاها: «جزائر».

ومن مواقفه التي يشهد له بها أنه قال للرئيس هواري بومدين حين قال له الرئيس الفرنسيّ السابق جيسكار ديستان: «إنّ فرنسا التاريخية تمدّ يدها للجزائر الفتيّة»، قال للرئيس بومدين: «سيادة الرئيس إنّ جيسكار ديستان يشتمنا»، وكأنّي به مذكّرا الجزائريين بأنّ فرنسا تسعى للتشكيك في الكيان الجزائريّ الذي تدّعي أنّه لم يكن موجودا قبل سنة 1830، وقال مخاطبا الرئيس بومدين: «أفضّل أن أكون بوابا في السويد على أن أكون وزيرا في حكومة ضعيفة في الجزائر»(8).

وفضلا على ذلك فقد كان يؤلمه كثيرا لجوء بعض الأشقاء العرب إلى التشكيك في عروبة الجزائر، ما جعله لا يفوت فرصة انعقاد مؤتمرات الفكر الإسلامي التي أشرف على تنظيمها وكذا خلال مختلف الملتقيات العربية، لإبراز جهود التعريب في قطاعي التربية الوطنية والتعليم العالي ومساعي ترقية لغة الضاد في الجزائر. 

ويقول الدكتور «يوغرطة نايت بلقاسم» إنّ أباه كان محبّا للغة العربية ومدافعا كبيرا عنها، وإنّه كان ينعزل وحده في حزن عميق حين تمّ التراجع عن «قانون التعريب» عام 1992، بعد أن كان قد أحرز تقدّما كبيرا في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وقد روى عنه ابنه أنّه كان شديدا مع أبنائه في دعوته لتعلّم اللغة العربية، فكان يأمرهم بالمطالعة حتى عند الحلاق.

شهادات
وفي شهادة قدّمها المجاهد والمناضل والسياسيّ الكبير عبد الحميد مهري في حقّ رفيق دربه وزميل دراسته، اعتبر مهري أن مولود قاسم نايت بلقاسم شخصية متعدّدة المواهب، وقال إنّه كان مكسبا للجزائر حقّا، ذلك أنّ إسهام نايت بلقاسم في إثراء الحياة السياسية بفكره كان بنيّة جمعه رحمه الله بين هدفي الدفاع عن الأصالة والانتماء العربيّ والإسلاميّ وللأمازيغية، والانفتاح على العالم، كما أنّه ساهم في تقديم صورة جميلة عن الجزائر العريقة التي تحافظ على التقاليد وتسعى نحو الحداثة والعصرنة، بمعنى أنّه كان يسعى للمزاوجة بين مسعى ترسيخ قيم الإسلام والعروبة وتوطين الحداثة والتقدّم، وقال عبد الحميد مهري إنّ مولود قاسم نايت بلقاسم: «كان يكرّس معالم النهضة في ملتقيات الفكر الإسلامي»(8) معتبرا أنّ من انتقده ذلك الوقت كان يريد أن يلصق به تهمة التشدّد، وهو لم يكن ليألو أيّ جهد في سبيل الوصول إلى ما كان يصبو إليه.

وقال الدكتور بوعلام بن حمودة الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطنيّ، رحمه الله «أجمل كلمة تصف الرجل أنّه خدم دينه ولغته ووطنه بشكل أسطوري».

كما أشاد رئيس المجلس الإسلاميّ الأعلى الراحل الشيخ بوعمران بما وصفه «عظمة مولود قاسم نايت بلقاسم».


* هوامش ومراجع

1 -من مقال لعصام بن الشيخ " العلامة الجزائريّ مولود قاسم نايت بلقاسم.. الأمازيغي المدافع عن العربية" الموقع الرسمي للمؤتمر الدولي للغة العربية.

2 -من مذكرة للطالبين هشام لطرش ووفاء فرحي  "التفكير الحضاري عند مولود قاسم نايت بلقاسم من منظور النقد الثقافي"، جامعة تبسة ص- 60-65

3 -من كتاب حول " مولود قاسم نايت بلقاسم" يضم سلسلة مقالات صادر عن المركز الثقافي الإسلامي بالجزائر

4 -الطيب بن ابراهيم، "مولود قاسم عراب التعريب في الجزائر"، جريدة أخبار اليوم 29/08/2017
5 -من كتاب حول "مولود قاسم نايت بلقاسم " يضم سلسلة مقالات صادر عن المركز الثقافي الإسلامي بالجزائر

6 -بتصرف عن مقال لرشيد فيلالي"مولود قاسم نايت بلقاسم رائد التعريب في الجزائر".

7 -الطيب بن ابراهيم مرجع سبقت الإشارة إليه.

8 -من مقال "مولود قاسم.. أمازيغي عشق العربية وفرَضها"، نشر بموقع أصوات مغاربية
9 -عصام بن الشيخ، مرجع سبق ذكره.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.