مالك بن نبي… فلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة
بقلم: هنادي طنطا-
يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث, خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية; انطلاقاً من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة, فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموماً متميزة; سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.
فهو من أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين رحمه الله, ولد في مدينة (قسنطينة) في (الشرق الجزائري) سنة (1905), في أسرة فقيرة, بين مجتمع جزائري محافظ, حيث فتح (مالك) عينيه على تحوّلات حوله في (قسنطينة) أو قريبة منه في (عنابة) أو بعيداً عنه, شرع يدرك آثارها لاحقاً في (الجزائر) العاصمة أو نذرها في الجنوب.
انتقل بعد مولده بصحبة أسرته إلى (تبسة) حيث زاول تعليمه الابتدائي والإعدادي, ونجح في امتحان المنح, ذلك الذي كان ذا دلالة لطفل من (الأهالي) ما كان في وسع أبويه أن يرسلاه إلى المدرسة الثانوية بقسنطينة, حيث قضى سنته الدراسية الأولى (1921-1922م) وقد شرعت (قسنطينة) ذاتها تمور بالحس الوطني, والفكر الإصلاحي بعد الحرب العالمية الأولى, فتتلمذ في المدرسة نفسها على أساتذة وطنيين, في العربية, زرعوا في نفسه بذرة العمل الوطني, كما درس على أساتذة فرنسيين عنصريين, أشعروه بالخط الاستعماري الفرنسي لمسخ الشخصية الإسلامية العربية في الجزائر, وتشويه تاريخ الوطن.
من هنا شرع فضوله يكبر, واهتمامه بالشيخ عبد الحميد بن باديس يزداد اتساعاً, لكنه ما كاد ينهي تعليمه في هذه الثانوية حتى عاد إلى العزلة في (تبسة) باحثاً عن عمل, مفكراً في مشاريع لذلك, ثم في (آفلو) بالجنوب الجزائري, موظّفاً بمحكمتها, راضياً بذلك, في محيط ما قبل الحرب العالمية الأولى, ولم يبق للشباب إلا الرغبة في الحصول على بعض المقاعد يتبوأونها في ظل الإستعمار.
تخرج (مالك) بعد سنوات الدراسة الأربع في (حزيران عام 1925).
سافر عام 1925 إلى مرسيليا وليون وباريس بحثاً عن عمل ولكن دون جدوى, فعاد إلى الجزائر حيث عمل في تِبسَّة مساعد كاتب في المحكمة, وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع أيام الاستعمار مما ساعد على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد.
وفي عام 1928 تعرّف مالك بن نبي على الشيخ عبد الحميد بن باديس (1887-1940 م), وعرف قيمته الإصلاحية, ثم سافر مرّة ثانية إلى فرنسا عام 1930, حيث سعى للدخول إلى معهد الدراسات الشرقية, ولكنه لم ينجح في الدخول, وسُمح له بدخول معهد اللاسلكي وتخرّج فيها مهندساً كهربائياً, بقي في باريس من عام 1939 إلى 1956, ثم ذهب إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من هناك, انتقل إلى الجزائر عام 1963- بعد الاستقلال- حيث عيّن مديراً للتعليم العالي ولكنه استقال من منصبه عام 1967 وانقطع للعمل الفكري وتنظيم ندوات فكرية كان يحضرها الطلبة من مختلف المشارب كانت النواة لملتقى الفكر الإسلامي الذي يُعقد كل عام في الجزائر, وظل مالك بن نبي يُنير الطريق أمام العالم الإسلامي بفكره إلى أن توفى في 31 أكتوبر عام 1973.
اتجه مالك بن نبي نحو تحليل الأحداث التي كانت تحيط به وقد أعطته ثقافته المنهجية قدرة على إبراز مشكلة العالم النامي باعتباره قضية حضارة أولاً وقبل كل شيء, يقول (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته, ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلى مستوى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها, لأن بناء الحضارة لا يتم عن طريق الصدفة, بل يتطلّب نظرة منهجية تعتمد على التحليل ومعرفة عوامل البناء.
اهتم مالك بعالم الأفكار بدلاً من عالم الأشياء وتساءل ما هي المشكلات؟ إنها تبدو هنا الجهل وهناك الفقر –أو إطار سياسي– الاستعمار والاحتلال الأجنبي وفي مجال آخر النقص في الإمكانات والثروات الطبيعية.
لقد طرح مالك بن نبي كل هذه الأعراض في مختلف كتبه وعالجها معالجات متعددة لكنها كما رأى تصبّ في إطار واحد: إنها مشكلة حضارة نحن خارجها ومشكلة ثقافة لم يتكامل إطارها في مختلف حياتنا اليومية ونحن لذلك نضيع في شتّى النوازع, إن القضية كامنة في أنفسنا, إن علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان فإذا تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ وإذا سكن, سكن المجتمع والتاريخ.
ما يريد مالك أن يصل إليه هو أن إحداث التغيير الاجتماعي للوصول إلى الحضارة (متوفر) ما دامت هناك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان والوقت, والتراب لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ (حضارة).
وإمكانية التغيير الاجتماعي لديه تستند إلى إمكانية (إعادة تطبيق المبدأ القرآني في النفس الإنسانية في أي مرحلة ترغب أن يحدث فيها هذا التغيير الإرادي) ذلك أن قوة التركيب لعناصر الحضارة (خالدة في جوهر الدين ) وليست (ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ فقط), فجوهر هذا الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان.
يقول مالك: (إن أول عمل يؤديه المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية, ويضرب لذلك مثلاً بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينة حيث آخى النبي ( بين المهاجرين والأنصار).
وعلى العكس من ذلك عند أفول المجتمع تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية, كما كانت حالة المجتمع الإسلامي المتفسخ الذي غزاه الاستعمار.
وهو يذكر الحديث الشريف المشهور: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم…). وفيه يصف النبي عليه الصلاة والسلام كثرة المسلمين آنذاك بأنها (غثاء كغثاء السيل) فيقول: ( لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية, أي عندما لايعود مجتمعاً بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل).
بالطبع لدى مالك في نظريته للتغيير الاجتماعي يحدد نطاقاً لهذا التغيير يبدأ بالإنسان عندما يتحول من (فرد) إلى (شخص) أي عندما تتم تهيئته علمياً وتربوياً وتقنياً وجمالياً من خلال آليات الثقافة المربية في المجتمع ويكون قادراً على الإسهام في هذا التغيير الاجتماعي وبالتالي ينتقل من مرحلة (الفرد) التي كان يرى أنها خصائص ذلك الإنسان عندما كان يتحدد دوره في المجتمع وفق معادلته البيولوجية خاضعاً لغرائزه خامداً ساكناً. ومالك اهتم بالإنسان اهتماماً كبيراً لأنه يرى انه أي الإنسان يتكون من معادلتين: بيولوجية وهي الصورة التي خلقه الله عز وجل عليها ولا تبديل فيها والأخرى اجتماعية وهي ما يكتسبه الفرد من مجتمعه باعتباره عضواً فيه وهذه المعادلة الاجتماعية هي القابلة للتغيير والتأثر بالظروف الاجتماعية والتأثير فيها.
إن من أهم الركائز التي أولاها مالك بن نبي اهتمامه هي الوعي بالذات الإسلامية, والوعي بخارطة الواقع الحضاري, وتكامل الأصالة والفعالية, ودخول التاريخ من باب الواجب, وتقديم نموذج عملي للإسلام مثلما كان عليه عهد السلف الصالح.
فالوعي بالذات الإسلامية كما يراه مالك أمر ضروري ومهم ودونه لا يمكن حل مشكلاتنا ولا أن نبلغ الهداية للآخرين ورسالتنا في عصر العالمية تتحدد بمدى فهمنا وتمثلنا للقيم الإسلامية ولا يمكن أن نحقق التغيير المطلوب إذا لم نرتفع إلى مستوى الإسلام. والوعي بالذات الإسلامية يعني أن يتمثل الفرد المسلم (الشاب) والمجموع المثل الإسلامية ويعيشها وأن تصبح صبغة لمفردات الحياة اليومية للمسلم وليس فقط التلفظ بعبارات التوحيد والتوكل والرضا والإتقان للأعمال.. وغيرها. ثم إن مواجهة أي غزو فكري تتطلب هذا الوعي بالذات حتى يميز المسلم بين تفوق ذاته الإسلامية وقصور مصدر هذا الغزو وبالتالي تحقيق الحصانة من الغزو والقضاء على عنصر القابلية للاستضعاف والغزو. فقبل أن نواجه الغزو الفكري لابد من بناء شخصياتنا وتحصين أنفسنا لنصبح ممنوعين من تأثير الغزو وليس عندنا قابلية له.. وكي يتم هذا لابد من أن نبني شخصيتنا بحيث تكون مصبوغة بصبغة الإسلام وموسومة بسمة الإيمان.
من أهم الآثار الفكرية لمالك بن نبي: الظاهرة القرآنية, شروط النهضة, وجهة العالم الإسلامي…. وغيرها من المؤلفات المطبوعة وغير المطبوعة.
ختاماً: إن تتبُّع مالك بن نبي لواقع الأمة الإسلامية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع; بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر, وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة, على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.
ويبقى (مالك بن نبي) خالداً في ذاكرة التاريخ… ويبقى قمة فكرية شامخة في حياة (الجزائر) والعرب والمسلمين عموماً علماً بارزاً, بجهده وجده وإخلاصه بأعماله المختلفة الشاهدة على ذلك الجهد…