الإصلاح الديني في مواقف ابن باديس من التصوف وأصحاب الطرق
بقلم: د. علي الصلابي-
أدرك ابن باديس أهمية إصلاح مسار التصوف ومواجهة العديد من أصحاب الطرق الذين خرجوا بمذاهبهم عن أصول الدين ومبادئه، كما أدرك أن القضاء على الخرافات وعوامل الجهل من أهم عوامل الإصلاح الديني وبناء المجتمع السليم، ولقد استطاع ابن باديس أن يصحح مسار التصوف الإسلامي في بداية القرن العشرين عائداً بشعبه إلى الحقيقة القرآنية وطريق الحياة، واستطاع أن يواجه الطرق المنحرفة وأصحاب الفساد الخلقي والاجتماعي.
لقد عاش ابن باديس حياته شاباً وشيخاً كمعظم من عرفهم تاريخ الفكر الإسلامي من الخلفاء الراشدين إلى المصلحين المعاصرين محباً للزهد السني والتصوف السلفي، متجملاً بأخلاق أصحابهما.
ولقد حدد ابن باديس موقفه من التصوف عموماً ومن أصحاب الطرق على الخصوص، كما حدد الخطوات العملية للإصلاح الديني والتصوف بوجه عام في:
– ضرورة التمييز بين الدين والتصوف، وبين التصوف الحقيقي وما يدعيه أصحاب الطرق بأنه من الدين أو من التصوف، لأن التصوف الحقيقي هو التصوف السني، أو هو التصوف القرآني الذي يقوم على أصول ثابتة وواضحة من القرآن والسنة، ويتطلب تحققه قراءة القرآن وفهم معانيه واستيعاب أحكامه وتطبيقه لها، فالقران فيه علاج القلوب وشفاء النفوس.
– إن التصوف الحقيقي هو الذي يبعد عن الشرك وينقذ صاحبه من الضلال، ويحقق الوعي الديني ويسهم في إصلاح المجتمع وتطوره.
– إن التصوف الحقيق لا يقف عند غاية الوصول إلى الله أو المعرفة بالله عن طريق المجاهدة، بل يجب أن يتعدى ذلك ليكون أسلوباً للحياة وأداة لبناء الإنسان وتحقيق سعادته وتوازنه المادي والروحي لكي يؤدي وظيفته الاجتماعية.
– إن التصوف الحقيقي لا بد أن يقوم على التذكير والتفكير في القران، فالقران أفضل الأذكار وتلاوته تطهر القلوب من الغفلة والقسوة والأوهام والشكوك والجهالات.
– إن التصوف الحقيقي لا بد أن يرتبط بالحياة والمجتمع، ولهذا لم يسمح ابن باديس بانتشار صور الغلو في التصوف أو الدين بين العامة أو الخاصة، وعمل على بيان خطرها عند إنتشارها، وأنها السبب في هلاك الأمم وتأخرها، ولذا أوجب ضرورة مواجهة أعمال الشرك والجاهلية التي يأتيها بعض أدعياء التصوف وبيان خطرها على الدين والمجتمع.
– ضرورة استخدام العقل لكي يفرق به بين الحق والباطل، والخبيث والطيب، عند مواجهة أصحاب الاتجاهات الفكرية الضالة والتي تدعي النبوة والصلاح وتمارس كافة مظاهر الشرك والوثنية ؛ وذلك اقتداء بما في القرآن والسنة ومواقف رجال السلف الذين تأسوا بموقف النبي في الاقتداء بمن سبقه إستجابة لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90].
– الإشادة وإنصاف بعض المتصوفة لما كانوا عليه من استقامة وصدق التدين وصالح الأعمال، فقد أشاد ابن باديس في هذا المضمار بما حفل به تراثنا من عاطر شذى بعض المتصوفة من المتقدمين وطيب مآثرهم في خدمة الدين وقضايا الأمة، كما نوَّه بما تبرزه بعض أعمال هؤلاء من المتأخرين من تأثيرات حسنة على مجريات الواقع المعيشي، وقدم هؤلاء وأولئك كنماذج قدوة حسنة للتصوف السني والتدين الصحيح، وممن ذكرهم من المتقدمين «الإمام أبي القاسم القشيري» صاحب الرسالة القشيرية في التصوف. ومن المتأخرين جملة من أعلام الإصلاح في العصر الحديث محمد بن عبد الوهاب، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، والإمام المجاهد أحمد الشريف السنوسي، وقد أشاد خاصة بصدق تدين هذا الأخير فقال عنه: فقد كان على جانب عظيم من التمسك بالكتاب والسنة والتخلق بأخلاق السلف الصالح.
– وفي الجزائر نوه خاصة بصدق تدين إخوانه المصلحين وتمثلهم بسيرة السلف الصالح في الاعتقاد والسلوك، كما أشاد بحسن سيرة مجموعة كبيرة من شيوخ الزوايا ورجال العلم في أنحاء عديدة من الوطن من بينهم: شيخ زاوية غليزان، وشيخ زاوية بن طكوك بمستغانم وشيخ القادرية بها أحد شيوخ زاوية الشيخ المختار بأولاد جلال والشيخ «محمد علي ال خليفة» والد الشاعر محمد العيد.
وقد قام ابن باديس بمواقف عملية لإصلاح وتوجيه وتصحيح مسار التصوف ووقف ضد أدعيائه.
أ ـ موقفه من أصحاب العزلة وأدعياء الزهد:
أوضح ابن باديس لأدعياء الزهد والعزلة، أن العزلة في الإسلام تختلف عن العزلة الهندية أو الرهبنة المسيحية؛ لأن عزلة النبي (ص) واختلاءه في غار حراء بعيدة في معناها ومضمونها عن فكرة الاختلاء الهندية، حيث ينعزل أحدهم عن الناس تماماً ويذهب في أودية الخيال لتحصيل حالة نفسية خاصة به يعدها نعيماً روحياً، أما الاختلاء النبوي والعزلة كان للتفكير والتدبر لإيجاد طريق خلاص لهذا العالم من الضلال، والقيام بخدمة عظيمة عامة للبشر، وشتان بين الحالتين.
ب ـ موقفه من أصحاب الاتجاهات الحلولية وأدعياء النبوة:
كتب رسالة مكونة من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة بعنوان: مقام النبوة والرسالة ومخاطبة ذلك المقام بخطاب الجهالة. وفيها قام بالرد على أصحاب غلاة المتصوفة الذين غلوا في خيالاتهم وفلسفية وحدة الوجود والبرهمية الهندية، وقال واصفاً غلوهم وضلالهم: قد شغل بهذه الخيالات أفراد عن فطرة الله وشرعه معاً فجعلوها أعلى مراتب العبودية، وتأولوا لها بعض آيات الكتاب العزيز كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف : 28].
وما إرادة وجهه تعالى إلا الإخلاص له في كل عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا، وإرادة وجهه ليس معناه الوصول لذاته بعد التجرد من كل نعمة في الدنيا والاخرة جميعاً، فإن الاتصال بتلك الذات العلية القدسية التي لا تدركها العقول ولا تدنو من كنهها الأفكار ولا الأوهام مما لم يتعلق به تكليف ولم يرد به شرع.
وبيَّن ابن باديس أنه من المستحيل تعقل فكرة الاتحاد أو الامتزاج بين الله والإنسان.ثم كشف ابن باديس في وضوح حقيقة أدعياء النبوة مبيناً أنها ليست من الدين ولا من التصوف فقال: “قد ضلت وهلكت باتباع أشخاص ادَّعَوا النبوة من هذه الأمة طوائفُ كثيرة، وقد كان منهم أول الإسلام مسيلمة الكذاب والأسود العشي ثم كان المختار بن عبيد الثقفي، ثم كان منهم في عصرنا قبيلة الباب وإليه تنسب البابية، والبهاء، وإليه تنسب البهائية، وغلام القادياني وإليه تنسب القاديانية…”
ج ـ موقفه من أصحاب الغلو والبعد عن الدين:
الذين أدخلوا السحر والشعوذة، وأعمال الدجل والكهانة في الدين، فكان موقف ابن باديس الحازم في كشفهم وبيان زيف اعتقادهم فقال فيهم: أنهم كانوا يتخذون من القرآن وآياته وأسماء الرحمن هزواً، وكانوا يستعملونها في التمويه والتضليل والقيادة والتفريق، ويرفقونها بعقاقير سمية ويهلكون العقول والأبدان، وحاول ابن باديس أن يؤكد على أن التصوف الحقيقي بعيد عن كل هذا الدجل، وأنه يقوم على العلم والعمل الصالح، بدليل أن القرآن الكريم فيه نهي صريح عن السحر والكهانة والاعتقاد في الخيالات والأوهام.
ولهذا كان موقف ابن باديس من هؤلاء هو التحذير من خطرهم وكشف أخطائهم وما في أعمالهم من شرك وخرافة وبُعد عن صحيح الدين، وكان يحذر من ذلك بقوله: احذر كل دجال يتاجر بالرقى والطلاسم ويتخذ آيات القرآن هزواً، ويقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *} [البقرة : 186].
د ـ موقفه من جماعة ترك العبادة:
الذين يهدمون فكرة الخوف والرجاء، وكان يمثل رأي هذه الجماعة ما أعلنه شيخها المولود الحافظي من مقالة بجريدة البلاغ الجزائرية جاء فيه: أن العبادة يجب أن تكون لله دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب لأن كمال التعظيم لله ينافيه أن يصاحب العبادة خوف من العقاب أو رجاء الثواب.
فكان موقف ابن باديس هو الرد العملي في مقالة بجريدة الشهاب ـ عدد رمضان 1351هـ بعنوان: أيهما أكمل العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب؟ أم العبادة دونهما؟ وجاء فيه: “إن حقيقة العبادة هي غاية الذل والخضوع مع الشعور بغاية الضعف والافتقار، ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع، وأن العبادة في الإسلام وضعت على خوف العقاب ورجاء الثواب لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره أمام ربه المهيمن العظيم، فكيف يهدم هؤلاء فكرة الخوف والرجاء التي ترتبط بالثواب والعقاب ويقولون: إن رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص في عبادة الله”.
وقد ظل ابن باديس طوال حياته وفياً لهذا المنهج ناهضاً بواجب النصح، فاتحاً صدره لجميع إخوانه التائبين الآيبين إلى طريق الهدى الصادين عن طريق الضلال، مشيداً بذوي العلم والفضل والصلاح من أهل الزوايا، حريصاً على ربط صلات المحبة والتعاون معهم، عاملاً على رأب الصدع حاثاً على الاعتصام بعرى الأخوة والوئام.