مالك بن نبي.. ومشكلة الثقافة
بقلم: أسامة خضراوي-
ينطلق تعريف مالك بن نبي للثقافة من نقد المنظور الرأسمالي القائم على الفردانية، ومن المنظور الشيوعي القائم على الجماعية، ثم يبرز خطأ تركيز بناء مفهوم الثقافة على الفرد أو الجماعة فقط يبين مفهومها في الإسلام، القائم على تركيب أربعة عناصر أساسية هي:((الأخلاق، الجمال والذوق، المنطق العلمي، الصناعة والتكنولوجية))، ومكمن العلاقة القائمة بين هاته العناصر الأربعة في زمن فاعل يصنعه الإنسان نحو التحضر هي الثقافة. فالثقافة هي علاقة عضوية في سلوك الفرد، وأسلوب الحياة الاجتماعية، وهي نظرية في السلوك الاجتماعي، وليست نظرية في المعرفة. وعرفها مالك على أنها:((... مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه...)).
نستشف من هذا الكلام، أن مالك بن نبي يرى أن الثقافة فلسفة وقيم خلقية فردية واجتماعية تؤثر في تكوين وتنشئة الفرد منذ الطفولة، بحيث تصبح نمطاً لصيقاً بحياته، ووشماً مميزاً لسلوكه، يصنع بها كل دقائق حياته، وفق النمط الذي تشكل فيه. وبذلك فهي:((... المحيط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياتنا.. وهي تتمثل بوظيفة الدم في جسم الإنسان، فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد هو – البلازما- ليغذي الجسد، والثقافة في ذلك الدم، الذي في جسم المجتمع، يغذي حضارته، ويحمل أفكار الصفوة، كما يحمل أفكار العامة والخاصة. وكل هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المناسبة...)).
فالثقافة إذن هي: المحيط الفكري والنفسي والاجتماعي والأخلاقي والروحي..، الذي يحتضن الوجود الإنساني في المجتمع، ويدعمه بالخبرة المعرفية والسلوكية والأخلاقية والجمالية..، وفي هذا المحيط تتشكل طباع، وشخصية، وذوق الفرد الثقافي، محكومة بالسنن النفسية والآفاقية. فالثقافة إذن: نظرية في العرفة، ومنهج في السلوك وطريقة في العمل والبناء.
تيمات المنظومة الثقافية:
تتشكل المنظومة الثقافية عند الأستاذ مالك بن نبي، من أربع تيماتٍ أساسية وهي:
1- التوجيه الأخلاقي لتكوين نمط الصلات الاجتماعية الراشدة.
2- التوجيه الجمالي لتكوين الذوق العام السليم.
3- المنطق العلمي لتحديد أشكال النشاط العام.
4- الصناعة أو الفن التطبيقي الملائم لكل نوع من أنواع المجتمع.
وسنتطرق إلى هذه التيمات الاصطلاحية لمفهوم الثقافة عند مالك بن نبي بالتدريج وهي:
المبدأ الأخلاقي:
فطرية الاجتماع غريزة أصيلة في الإنسان، والمجتمع المتحضر هو الذي يطبع ويهدي هذه الغريزة ويرفع من مستواها بالأخلاق ليتجنب الفوضى والاضطراب، وأهدى القيم الأخلاقية المتنزلة على الأنبياء، لأنها تهدف إلى ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى مخبراً عن المهاجرين والأنصار: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
والارتقاء بالأخلاق والسلوك الإنساني هو الهدف الأساس للحضارة، وقد جاء رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم، ليتم مكارم الأخلاق ليعلو ويسمو بها الإنسان إلى درجة يتميز فيها عن باقي المخلوقات. ولذا فالثقافة عند مالك بن نبي نظرية في السلوك والأخلاق أكثر منها من أن تكون نظرية في المعرفة المجردة. وبذلك فالعنصر الأخلاقي يقوم ببناء وتشييد عنصر مهم من عناصر الحضارة، والإنسان هو الذي يتحكم في الأشياء والتراب في الزمن تحكمه وتنظمه الأخلاق، وبالتالي الجانب الأخلاقي هو المحدد الرئيسي لاتجاه المجتمع بشكل عام.
الذوق الجمالي
يرى ابن نبي أن الجمال له تأثير في الروح الاجتماعية، ويشرح هذه الفكرة بقوله:((إن الأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي فتنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة. فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات)).
وبذلك، يعتبر بن نبي أن الذوق الجمالي من أهم التيمات الحيوية في مكونات الثقافة، لأنه حسب عزمه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة ويحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية، لأنه يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع ايجابية أخرى. وفي كتابه (مجالس دمشق) يشير ابن نبي إلى هذا العنصر داعياً الثقافة إلى تمنحنا الذوق الجمالي، وتنمي فينا هذا الذوق، بشرط ألا نظن حسب زعمه بأن الإسلام قد أهمل أو زهد في هذا الجانب، وذلك لترتيب شؤون مجتمعنا، لأن في رأيه أن النشوز إذا كان يحدث في المستوى الأخلاقي، فهو يحدث أيضاً في المستوى الجمالي.
المنطق العلمي:
يشير مالك بن نبي على أن النقص الذي يعاني منه الإنسان المسلم ليس منطق الفكرة، وإنما منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقولا كلاماً مجرداً، وأكثر من ذلك أنه قد يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، والسبب يعود:((.. لافتقادنا الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها، فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا، وفكرتنا لا تعرف التحقيق...)).
فالمنطق العلمي يعني أن يكون المجتمع ديناميكياً فاعلياً، فيستغل ما لديه من طاقات وإمكانيات ووسائل، وألا يدع الفراغ ينخر وقته، بل يستثمر الفراغ في أمور تعود عليه بالنجاح والنفع. وفي كتابه (مجالس دمشق) يشير ابن نبي إلى أنه يقصد بالمنطق العلمي الفعالية، لكنه يفضل تسمية المنطق العلمي بوصفه مصطلحاً ينسبه لنفسه، وظل يعرف به حسب قوله منذ ربع قرن.
التوجيه الفني أو الصناعة:
يعتقد ابن نبي أن المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العلمي، هذه التيمات لا تكوّن لوحدها شيءً من الأشياء حسب عزمه، إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه، والعلم أو الصناعة، كما في تعبير ابن خلدون هو الذي يمنحنا تلك الوسائل، ويكون عنصراً هاماً في الثقافة، لا يتم من دونه تركيب عناصرها وتحديد معناها، ويدخل في هذا المفهوم كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم، وهذه العناصر الأربعة هي التي بإمكانها أن تساهم في تحديد الثقافة وتركيبها وتحويلها إلى أسلوب حياة في أي مجتمع.
وعملية تحويل العلوم النظرية إلى مهن، وفنون، وصناعات عملية يدوية وتقنية إلى حيزها العملي التطبيقي، واستغلال الطاقات والقدرات والمواهب والإمكانات في العمل الصناعي ركن مهم في تكوين مفهوم الثقافة عند مالك بن نبي، لأن الصناعة وسيلة لكسب الأفراد ووسيلة للمحافظة على كيان المجتمع واستمراره ونموه.
ومن هنا نتبين أن مشكلة الحضارة هي مشكلة الثقافة، وإصلاح المنظومة الثقافية أساس لحلول مشكلات الحضارة. وإذا كانت شبكة العلاقات الاجتماعية سوية بين أفراد المجتمع، وإذا ما تكون للمجتمع عبر التاريخ قيم أخلاقية تحافظ على تماسك وانسجام أفراده معاً، فسيعيش متسقاً ضمن جو محكم من النظام والجمال والذوق، بحيث تشكل لأفراده منطلقاً أدبياً وعملياً يتفاعلون من خلاله بفاعلية ما يملكونه من طاقات ومواهب وإمكانيات فيبدعون أعلى وأقصى ما يمكن من الفوائد والوسائل المتاحة لهم، فيحولون كل هذه القيم النظرية والأخلاقية والجمالية الذوقية إلى صناعات ومهن وإنتاج سلعي، فإذا فعلوا ذلك أمكنهم حل مشكلة الثقافة، ومن ثم حل مشكلة الحضارة، ومن ثم التوقيع على صفحات التاريخ وتأكيد الشهود الحضاري. وبمثل هذا البناء المحكم، يمكن القول أن هذا التركيب للثقافة وتحديدها بهذه العناصر الأربعة، يمثل جوهر ولب النظرية الثقافية لمالك بن نبي، والتي يصبو من خلالها إلى تحقيق معالم الشهود الحضاري للأمة الإسلامية.