مالك بن نبي.. فيلسوف الحضارة وملهم المفكرين العرب

بقلم: أسامة حيان-

ذكر الدكتور وليد فتيحي أن "كل المفكرين العرب اليوم هم بشكل أو بآخر تلاميذ لمالك بن نبي"، وأثنى على مالك الأستاذُ محمد المبارك قائلاً "أنا لا أقول إنه "ابن نبي" ولكني أقول إنه ينهل من نفحات النبوة وينابيع الحقيقة الخالدة".. مسار متميز وإنتاج فكري فريد أكسب مالك كل هذه المكانة المرموقة بين مفكري العرب والعالم أجمع، نتناول هذا المسار وشيئا ً من موروثه الفكري المتميز في الفقرتين التاليتين:

مالك بن نبي مسيرة شاهد للقرن

ولد مالك بن نبي في الخامس ذي القعدة 1323هـ الموافق للفاتح جانفي 1905م بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، لكنه قضى سنواته الأولى في مدينة تبسة لاشتغال والده في سلك القضاء بهذه الولاية. بدأ مالك دراسته في تبسة في مدرسة قرآنية ثم أخذ بقية العلوم في المدرسة الفرنسية الوحيدة بالمدينة بداية من عام 1913م. بعد سنتين عاد إلى مسقط رأسه قسنطينة ليواصل الدراسة بمدرسة جول فيري ثم بمدرسة قرآنية أخرى بالمدينة ذاتها تحصل بعد الدراسة فيها لثلاث سنوات على شهادة إتمام الدراسة عام 1925م. زار مالك بن نبي فرنسا في رحلة ً أولى عاد بعدها سريعا إلى الجزائر ليشتغل كوالده في محكمة آفلو بولاية الأغواط وسط الجزائر عام 1927م ثم تقلد المنصب ذاته في محكمة بولاية ميلة شمال شرق البلاد. كما التقى بن نبي في خضم تنقله في ربوع الجزائر برائد النهضة العلمية الشيخ عبد الحميد بن باديس لأول مرة عام 1928م.

بعد عام فقط انتقل مالك مجددا إلى فرنسا في رحلة علمية خاضها بالمدرسة الخاصة للميكانيك والكهرباء، مدرسة ٌ تعتبر اليوم "مدرسة مهندسين" أكمل بها دراسته دون أن يُمنح شهادة إتمام الدراسة عام 1936م. في العام ذاته التقى بن نبي مرة أخرى بعبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الابراهيمي عند قدومهما إلى باريس للمطالبة بالإصلاحات التي خلص إليها المؤتمر الإسلامي الذي نشطته أطراف فاعلة في المشهد السياسي والثقافي في الجزائر، كما التقى المفكر الفرنسي روجيه جارودي خلال تردده على العاصمة الجزائر عام 1938م. وفي مرسيليا أطلق مالك بن نبي مدرسة لمحو الأمية عام 1939، مدرسة ٌ لاقت إقبالا ً وعرفت نجاحا ً في أشهرها الأولى، لكن سرعان ما قررت السلطات الفرنسية إيقافه عن العمل بها.

سمحت كل هذه التجارب لمالك بالاطلاع على التراث الفكري للحضارة الغربية والتعرف أكثر على تفاصيل الحياة اليومية للشعوب الأوروبية ومختلف عاداتها خاصة بعد انتقاله للعمل في ألمانيا صيف 1942م ليعود مجددا إلى فرنسا نهاية 1943م ولم يمضِ على عودته إلى فرنسا سوى بضعة أشهر حتى اعتقل هو وزوجته بتهمة التعاون مع المحتل الألماني فالبَلَدان في هذه الفترة يعيشان على وقع الحرب العالمية الثانية.  اندلعت الثورة الجزائرية عام 1954م، فاشتد التضييق على الجالية الجزائرية بفرنسا واضطر مالك للانتقال للعيش بالقاهرة، فطور مستواه في اللغة العربية وواصل نشاطه الفكري والعلمي والدعوي فذاع صيته وتلقى دعوات من العديد من البلدان العربية فانتقل للمحاضرة ببيروت ودمشق والتقى بعدد من الشخصيات كشكيب أرسلان وسعيد جودت. عاد مالك إلى الجزائر بعد الاستقلال عام 1962، فـَـعـُـيـِـّـن مديراً للتعليم العالي، منصب تقلده إلى غاية سنة ‏1967م ليستقيل منه ويتفرغ للكتابة فيما بعد إلى أن توفي في 31 أكتوبر 1973م وقد خلـّـف مجموعة قيمة من الكتب وكمـّــًا هائلا من الأفكار والنظريات نسلط الضوء على شيء منها في الفقرة القادمة.

فكر مالك.. فلسفة حضارة وضمير أمة

كان الدين الإسلامي والقرآن الكريم الملهم الأول لمالك في رحلته، فألقى أول محاضرة له بفرنسا بعنوان "لماذا نحن مسلمون"، ثم ألّف أوّل كتاب له بالفرنسية كتاب "الظاهرة القرآنية" عام 1946م ليطرق بعدها بابا أدبيا جديدا عليه وعلى التراث الجزائري كافة بإطلاقه أول رواية جزائرية باللغة الفرنسية "لبيك.. حج الفقراء" تلاها كتابه الأبرز في سلسلة "مشكلات الحضارة" الذي أطلقه عام 1948م واختار له اسم "شروط النهضة"، أبرز فيه دور "الجهل" وإسهامه في الانحطاط والركود الذي ساد العالم الاسلامي: "وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناما فلم يكن من باب الصدفة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة.. ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح أحيانا"، كما طرح في هذا الكتاب مفهوم "دورة الحضارة" وحلل مركباتها، فالحضارة عند مالك هي إنسان وتراب ووقت، غير أن هذه المكونات لا بد لها من عامل يمزج بينها كي تتفاعل وتصنع "الحضارة" وهو ما عبّر عنه بالعقيدة أو "الفكرة الدينية".

أما عن المراحل المكونة لـ"دورة الحضارة" فقد جعلها ثلاثا أولاها الصعود والبناء وهي مرحلة تتميز بإخضاع الغرائز البشرية لـ"الروح" ثم مرحلة الاستقرار التي يتقدم فيها "العقل" ليوضح الفلسفة التي تقوم عليها تلك الحضارة فتنضج بذلك وتستقر وتسود.. ثم ما تلبث "الغريزة" حتى تنتفض من جديد لتهدم بنيان العقل وتهمل المنطق الذي قامت عليه أسس تلك الحضارة فتأتي مرحلة الركود والأفول، والفيصل هنا بين هذه المراحل كلها هو القيم النفسية والاجتماعية وتجلياتها وتطوراتها. استعمل مالك في هذا الكتاب لأول مرة مصطلح "قابلية الاستعمار" الذي أراد أن يوضح من خلاله أن الاستعمار ليس هو السبب في تخلف البلاد المستعمـرة بل هو نتيجة حتمية لسنوات من الهدم لكل مقومات الحضارة في هذه البلاد.

بعد استقراره في القاهرة وتطوّير مستواه في اللغة العربية، راجع مالك كتبه التي ترجمت إليها مواصلا في الآن ذاته التأليف بطريقته المنظمة العميقة موغلا هذه المرة في التخطيط والبناء بشكل أكبر فأطلق في العام نفسه كتاب "وجهة العالم الإسلامي" ثم كتاب "الفكرة الإفريقية الآسيوية" بعده بعامين ثم "فكرة كومنوولث إسلامي" بعد عامين آخرين. وفي العام 1959م طرح مالك واحدا من أبرز كتبه في سلسلة "مشكلات الحضارة" وهو كتاب "مشكلة الثقافة" الذي وضع فيه التماسك الاجتماعي والوحدة بين المسلمين كعامل أساسي لاسترداد مجد الحضارة الإسلامية والرُقي بها جديد: "فقُوّة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام.. الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.. وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة وفي يدها ضمان لذلك تجربة عمرها ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة وسط البدو رجال الفطرة والصحراء".

أما خلال اشتغاله مديرا التعليم العالي بعد عودته إلى الجزائر فقد ألـف كتابا عنوانه "آفاق جزائرية" ثم شرع بعد استقالته من هذا المنصب في كتابة مذكراته "مذكرات شاهد للقرن"، كما كتب في هذه الفترة: "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" محاولا إيجاد مكمن الداء في عالـم مسلم قريب عهد باستعمار بغيض أتى فيه على عالَمي "الأفكار والأشياء"، فكان من أهم ما ذكر من العـلل "بقاء روح مقاومة الاستعمار وكراهيته" رغم خروجه من كثير من بلاد المسلمين وكذا "غياب روح العمل" وانتشار المعارك الكلامية في أوساط الطبقة المثقفة: "وهذا أحد كبارهم مولانا أبو الكلام أزاد قد تفضل فأعطانا شخصيا الدليل حين أكد لنا فخامته: إن مسؤولية التربية خطيرة، إذ ينبغي أن لا تدع الحقد يتأصل في قلوب الجيل الجديد في الهند وعقولهم تحت ستار النزعة المعادية للاستعمار".

يبرز في كتابات بن نبي موازنته الدقيقة بين قوة العقل وإعمالـه وعمق الطرح وشموليته وبين العاطفة الإيمانية الصرفة وكذا تفريقه بين "العقل المجرد" و"العقل التطبيقي" وموضع توظيف كل منهما وضرورته في كل موضع أو مرحلة.. ورغم أن مالك بن نبي كان يفضل فن الرواية والكتابات الأدبية إلا أن حال أمته صرفه عنها، ففضّل أن يصُبّ كافة تركيزه وحِسّه في الكتابة بشكل مباشر ليكـون ضمير عالم يتخبط بين "الرشاد والتيه" وأراد أن تكون أعماله "ميلاد مجتمع" يُؤَسـّـَـس بنيانه على تقوى من الله فكان بحق "شاهد للقرن" بل سابقا له في بعض الأحيان وكان يردد كلما استشعر ذلك قائلا "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس" مُؤَمـّـِـلا أن يجد مَن يستلهم مِن أفكاره مِن أصحاب "المنطق العملي" ليـخرج بلادنا من حيز "الصراع الفكري" ويواجهَ التحديات التي يعيشها "المسلم في عالم" اليوم ويطهرَه مما تراكم فيه من "العفن" الذي يعيق حركته ونهضته.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.