الشيخ العلاّمة عبد القادر الياجوري.. رجل الوطنية والفكر والاجتهاد
بقلم: بشير خلف-
الشيخ العلاّمة المجاهد عبد القادر الياجوري كان من بين رجال الثقافة والفكر والدين والفن الذين عايشوا حقبًا عديدة ومختلفة من تاريخ هذا الوطن، فقد عاش فترة الاستعمار والاستقلال، ثم فترة حكم الرئيس ابن بلة ثم الرئيس بومدين، وكذا الرئيس الشاذلي بن جديد، وفترة اللاستقرار، وبروز ظاهرة التطرّف الديني التي أحزنته، وآلمته كثيرًا.
وإنْ عُرف من طرف الكثير على أنه رجل دين فحسب، فهو في الحقيقة شاعر له ديوان شعري لم يُنشر.. جزْءٌ منه بحوزة حفيدته، وجزء آخر عند ابنه يحتوي على قصائد كثيرة تحدّث فيها العلاّمة الياجوري عن الوطن..عن المقاومة..عن الجمال والمرأة..عن التفلسف والدين، فقد قال في إحدى قصائده:
توهّمتم أن التفلسف حكمة *** وأنّ خلود الدين رهن التفلسف
ألا إن دين الحق دين محمد *** يشيد بأعمال الصلاح ويكـتفي
هو مفكّرٌ أيضا، اتّسمت مواقفه بالانفتاح والحوار في جميع مسائل الدين، كما تميّز بموهبته الخطابية، فأسلوبه بسيطٌ وخالٍ من التكلّف.
ولادته ..وملاحقته للعلم دارسًا ومدرِّسًا
وُلد الشيخ عبد القادر الياجوري سنة 1912م، بقرية قمار بوادي سوف درس القرآن الكريم على يد والده الفلاح،ثم انتقل إلى مدينة توزر بالجنوب التونسي أين أتقن حفظ القرآن ، وتلاوته، وتجويده وأخذ عن مشايخ منطقة الجريد مبادئ العلوم الشرعية. في سنة 1925 التحق بـجامع الزيتونة في تونس، وبقي حوالي تسع سنوات حيث تحصّل على شهادة التطويع سنة 1934.(1)
تعرف إثر عودته إلى الوطن مباشرة على الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة ، وانخرط في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كلّفه رئيسها بالإمامة، والخطابة، في المساجد، والتعليم في مدارس الجمعية. ما مكث طويلا بقسنطينة إذْ قرّر العودة إلى مسقط رأسه مدينة قمار حيث درّس هناك مدة ثلاث سنوات من سنة 1935 إلى سنة 1937 لينتقل إلى قرية البياضة بنفس المنطقة بطلب من المرحوم الشيخ عبد العزيز الشريف، فعمل بمسجدها، ومديرا للمدرسة الحرّة بها.
نزيل سجون ومعتقلات المستعمِر
أُلقي القبض عليه من طرف فرنسا سنة 1938 مع مجموعة من العلماء إثر حوادث سوف الأليمة،وأُفرج عنه في 16 اجوان 1940 فنُفي يعدها إلى مدينة مليانة ليمكث بها سنتيْن تحت الرقابة، ونُقل من مكان إلى آخر، وما تحرّر من الإقامات الجبرية إلا سنة 1944م ليقبض عليه من جديد يوم 07 ماي 1945م لكنه تمكّن في اليوم الموالي وبمساعدة الدكتور سعدان رحمه الله، وبقي متخفّيا إلى غاية صدور العفو سنة 1946م(2).
في سنة 1947م عيّنته جمعية العلماء أستاذا بمعهد عبد الحميد بقسنطينة، كما تولّى عدة مهام أخرى؛أصبح فاعلا في جمعية علماء الجزائريين. ألقي عليه القبض ثلاث عشرة مرة حتى يقال أنه قضى نصف حياته في السجون منها سجن الكدية بقسنطينة، كما فرضت عليه الإقامة الجبرية في مليانة: 1940 م – 1942 م كما سبق أعلاه، وفي بني عباس بعد العام 1943م حيث تزوج. وفي سنة 1954 استقرّ بمدينة وهران مع عائلته ليقوم بإدارة وتسيير مدرسة الفلاح بعد نقل شيخها سعيد زموشي إلى قسنطينة.
أُلقي القبض عليه في 29 مارس 1956م وما أُفرج عنه إلاّ بوقف إطلاق النار في 19 مارس 1962م .استغلّ الياجوري فترات التدريس عبر مختلف مناطق الوطن لتقديم محاضرات ودروس معادية للوجود الفرنسي في الجزائر..بل حتى في السجون والمعتقلات التي أُدخل إليها المرّات والمرّات..
مبادئ راسخة وعملٌ دؤوب
بعد الاستقلال التحق الياجوري بوزارة الأوقاف وعمل بها إلى غاية 1964م ثم التحق بسلك التعليم كأستاذ للتعليم الثانوي إلى غاية تقاعده سنة 1977م..لكنه واصل التدريس ، وإلقاء دروس الوعظ والإرشاد، حيث ما توقف عن المشاركة والعطاء الفكري؛ فقد قال في حوار له لأجراه الصحفي رويبي صالح عام 1987م :« … وأنا الآن أعمل حسما أعتقد من مبادئ دينية، أو سياسية وأجدني في الخط الذي آمنت به منذ 47 عامًا، وأرجو أن يوفقني الله لأعمل بقية العمر للإسلام، والعروبة، والجزائر، وللثورة الجزائرية دائمُا.»(3)
كان شديد التردد على المكتبات، فقد كان يقضي أكثر من 12 ساعة لمطالعة كتب عديدة في ميادين مختلفة، كما وهب الكثير من وقته للنشاطات البيداغوجية حيث كلن يدرّس لجميع الناس، سيّما في السجون دون الاهتمام بقناعاتهم، وتوجهاتهم السياسية.
صورة مشرّفة لرجل الدين العالم الفقيه المعتدل
سعى الشيخ الياجوري من خلال كل ذلك إلى إعطاء صورة أخرى عن الفقه الديني، وعن دور الرجل المتديّن، أو " الإمام " حيث ذكر أن :« " الإمام " ليس تاجرا، ولا حاكمًا، ولا سياسيا، بل هو شخصٌ يدعو الجميع إلى أن يكونوا عباد الله إخوانًا، وأن يتعاملوا على أساس التعاون والتراحم، ونصرة الحقّ وإغاثة الضعيف.»
هو علاّمة استوعب تحوّلات التاريخ، واستوعب جيّدا مقاصد العصرنة، فلم يتزمّت أبدا في تحريم كل شيء لمجرّد أنه جديد، كما كان أيضا مدافعًا وقريبًا جدا من الفكر الاشتراكي، فقد أبرز في إحدى محاضراته التي ألقاها بولاية سعيدة أنه: « لا فرْق بين الثورتيْن، فالإسلام دينٌ وضعه الله وأوحاه، والاشتراكية من صُنْع الإنسان، وتنظيمه الذي توخّاه.. والاشتراكية ليست شيوعية تقاوم الدين وتتهمه، وليست المادية الإلحادية، بل هي العمل الجاد، والالتزام بالعهد…»(4).
كما اتبع الياجوري المذهب المالكي، لكنه وفي نفس الوقت فهم أنّ :« …الإمام مالك الذي عاش منذ قرون لا يمكنه أن يأتينا بحلول لقضايا نعيشها اليوم، وليس من المعقول أن نتبع اليوم بالتدقيق ما تركه أسلافنا »(5)
يُعتبر الياجوري من دعّاة الاجتهاد بالحوار فقد قال: « الاجتهاد يعني أن نتحاور بكل ديمقراطية ، وأن نبحث عن الحقيقة بواسطة طرقٍ علمية، وذلك من أجل خير الإنسانية.»
كما دعا إلى تجنّب اجتهادات الغير،وبصفة خاصة اجتهادات دول الخليج التي وصفها أنها شوّهت الإسلام؛ أمّا عن رأيه في الشخصيات الدينية البارزة، صرّح الياجوري :« أن الشيخ " كشك "يتحدث عن مسائل ثانوية في الدين، كتحدثه عن اللحية، وكأن اللحية من القضايا الأساسية في الإسلام .»
أمّا الغزالي فقال عنه: « أنا لا أحبّه فقد أراد أن يجعل الإسلام وهْمًا ، كما أراد أيضًا أن يفرض نموذجًا لحياة لا تُطاق.«
كان صريحًا ..متواضعًا..حليما ..وفيا لبلدته مسقط رأسه قمار فما انفكّ يزورها باستمرار للقاء إخوته، وأقاربه، وأبناء جيله يجالسهم، ويمازحهم، ويستذكر معهم الأحداث..هي الصفات التي تميّز بها الشيخ الياجوري الذي تُوفّي يوم 12 أوت 1991 بمدينة وهران أين كان يقيم مع عائلته ..توفّي رحمه الله في مرحلة صعبة كانت الجزائر في أشدّ الحاجة إلى أمثاله ذوي الفكر المعتدل البعيد عن التطرّف والغلوّ ، والقريب من التسامح والحوار البنّاء.
شهاداتهم عنه
الأستاذ عثمان سعدي رئيس الجمعية الوطنية للدفاع عن اللغة العربية، الذي يعتبر أحد تلامذة الشيخ عبد القادر الياجوري في ندوة عنه بالمركز الثقافي الإسلامي بالجزائر حضرها مجموعة من رفاقه وتلامذته، وعلى رأسهم الشيخ عبد الرحمن شيبان، أشاد سعدي بنضال هذا الشيخ الذي لم يعرف الاستقرار طيلة حياته، وراح يدافع عن اللغة العربية في أعز قوة الاستعمار الفرنسي، و هو الذي كان أحد الأعضاء البارزين داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث اعتُـقل مرات عديدة غير أنه كان يعود إلى مزاولة نشاطه في كل مرة إلى أن وافته المنية عام 1991 عن عمر يناهز 79 سنة. وأضاف الأستاذ عثمان سعدي أن الياجوري رجل عظيم قام بتدريس اللغة العربية إبان الاستعمار كي لا تتلاشى هذه الأخيرة، كون اللغة هي أحد المقومات الأساسية لقيام أي مجتمع، فلم يكن أستاذا في اللغة فحسب بل كان أستاذا في النضال أيضا، حيث كان يحثّ طلبته على النضال في سبيل تحرير هذا الوطن، وهذا الشيء الذي ميزه عن باقي الزملاء داخل الجمعية . كما عرّج الأستاذ سعدي حول أبرز محطات هذا الرجل خاصة تلك المتعلقة بالسجون، كونه عاش طيلة حياته قابعا فيها إلى أن نسي عائلته، وحتى أولاده حسب ما أكده نجله رشيد ياجوري.(6)
وقال عنه الشهيد رضا حوحو: « الشيخ الياجوري لا يصلح لا للتجارة، ولا للسياسة؛ فهو في التجارة يستحي من طلب حقوقه المادية، وفي السياسة غضوبٌ.»
رحم الله الشيخ وغفر له وجازاه قربة منه على ما قدّمه لهذا الوطن وأهله.
بشير خلف- أديب وكاتب جزائري، عمل في التربية والتعليم ـمتقاعد ـ من مدينة الوادي
حواشي:
(1) ـ أ.أ سعد بن البشير لعمامرة، أحمد بن الطاهر منصوري/ أعلام من سوف.ص89 ط1 شركة مزوار بالوادي
(2)ـ المرجع السابق ص89
(3)ـ أ.سلاف بن حفودة / الشبخ عبد القادر الياجوري ..رجل الفكر والاجتهاد ـ مقال ـ الخبر الأسبوعي
(4)ـ المرجع السابق.
(5)ـ أسبوعية " الجزائر الأحداث ". أفريل 1983
(6)ـ صحيفة البصائر/ انتظمت الندوة بتاريخ: 25/11/ 1429 هـ