معالم تربوية في الفكر الحضاري عند مالك بن النبي
بقلم: علي صباغ-
لقد اقتنع المهتمون بالتربية، أن العملية التربوية متشعبة ومتعددة الأبعاد. وصار من المستحيل اليوم فهم عملية التدريس مثلا، إن نحن حصرناها في قضايا المحتويات وطرق تبليغها.
فالعلاقة التربوية التي تربط الأستاذ بالتلميذ، تتعدى العملية الظاهرة للتواصل، كي تندرج في إطار نسق واسع من العلاقات، ينطلق من الفصل الدراسي، ليربط هذا الأخير بالمجتمع و الثقافة والقيم الحضارية السائدة.
إن مشكلة أي مجتمع من المجتمعات، هي في جوهرها حضارية. ولا يمكن لمجتمع أن يفهم أو يحل مشكلة، ما لم يرتفع بفكره إلى الأحداث الانسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.
إن للأفكار أهمية بالغة في عملية التغيير في البنية الداخلية لأي مجتمع. فهي التي تؤثر في المجتمع إما كعوامل نهوض، وإما كعوامل معوقة للتحرك والنمو.
ويعود ذلك لنوعية الأفكار، وإلى الطرائق التربوية المعتمدة في تنفيذها. فالمجتمع المتخلف ليس حتما المجتمع الذي يعاني من نقص الوسائل المادية، وإنما المجتمع الذي يفتقر للأفكار. ويتجلى لنا ذلك في طريقة استخدام الوسائل المتوفرة، وفي عجزه عن إيجاد غيرها إذا ما واجهته عقبات أو صادفته عراقيل.
مشكلة الدراسة و أهميتها:
إن مشكلة طبيعة الأفكار ووظيفتها، هي من أشد المشكلات تحديا لعقل الرجل المثقف. ولعل السبب في ذلك أن الفكر والأفكار، هما الميزة الأساسية للإنسان وما تصنع كرامته. ومن أجل هذا أصبحنا نجل الفكر والأفكار، لأننا نجل الإنسان وكرامة الإنسان. وإننا من خلال عملنا هذا، نسعى إلى تبيان المعالم التربوية في الفكر الحضاري لصاحب (مشكلات الحضارة). ومن أجل ذلك حددنا بعض المعالم العامة التي تدخل في بناء أي فكر تربوي.
وتكمن أهمية هذه الدراسة أيضا، في كونها تحاول تسليط الضوء على مكونات الفكر التربوي عند أحد أعظم رجالات الفكر في تاريخ الجزائر المعاصر. وذلك بإبراز المعالم الكبرى لفكره التربوي الذي تضمنه مشروعه الإصلاحي والحضاري، لعلنا نجيب على بعض التساؤلات المطروحة وعلى رأسها الأطروحة العلاجية التي قدمها المفكر (مالك بن نبي) لواقعنا التربوي إن وجدت؟ وإذا كان كذلك، فما هي الخلفية النظرية التي انطلق منها في هذا البناء الفكري؟
أسئلة الدراسة :
- وللإجابة على تساؤلات مشكلة الدراسة يقتضي الأمر، صياغة الأسئلة الفرعية التالية:
1) ما هي طبيعة التربية ومفهومها عند مالك بن نبي؟
2) ما علاقة الفكر التربوي بمشكلة الأفكار عند مالك بن نبي؟
3) ما مدى أهمية الاتجاه العلمي في العملية التربوية عند ملك بن نبي؟
4) ما أهمية التعليم المستمر عند مالك بن نبي؟
5) ما علاقة التربية بالتغير الاجتماعي عند مالك بن نبي؟
6) ما علاقة العملية التربوية بالقيم الثقافية عند مالك بن نبي؟
أهداف الدراسة:
- يسعى الباحث من خلال هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية :
1- التعريف ببعض جوانب الفكر التربوي في المشروع الاصلاحي والحضاري لمالك بن نبي.
2- الإسهام في إبراز النظرة المستقبلية لصاحب مشكلات الحضارة في العملية التربوية.
3- الكشف عن بعض الأبعاد التربوية في الفكر الحضاري لمالك بن نبي وإمكانية الاستفادة منها في واقعنا العملي.
4- الكشف عن مدى توافق المضامين التربوية في الفكر الحضاري عند مالك بن نبي مع الاتجاهات التربوية المعاصرة.
محاور الدراسة:
وحتى يتمكن الباحث من الاجابة على الأسئلة الفرعية للدراسة بأبعادها المختلفة فقد وضع المحاور التالية:
1) التربية: الطبيعة والمفهوم.
2) التجديد التربوي ومشكلة الأفكار.
3) الاتجاه العلمي في التربية.
4) التعليم المستمر وأهميته التربوية.
5) التربية والتغير الاجتماعي.
6) التربية والقيم الثقافية.
أولا- التربية، الطبيعة والمفهوم:
لقد بذل علماء التربية محاولات متعددة من أجل صياغة معاني مصطلح التربية. والواقع أن هناك صعوبة في تعريف التربية، حتى أن بعض العلماء والمفكرين قد تجنبوا الحديث عن معنى التربية. وتعود تلك الصعوبة إلى اتساع كلمة تربية، فهي الحياة بكل مناحيها.إذ أنها تشمل جميع القوى والعوامل المؤثرة في الإنسان.
إن الأديان والآمال القومية لمجتمع من المجتمعات، تؤدي إلى مفهوم للتربية يختلف عـنه في مجتمع آخر. وعليه اختلف الناس في نظرتهم إلى التربية، لأنهم ببساطة يختلفون في نظرتهم إلى الحياة. فالتربية ليست إعدادا للحياة بقدر ما هي الحياة ذاتها.
أما (ابن نبي) فإنه يرى أن التربية هي تربية للحرية عن طريق الحرية، حتى يتمكن الإنسان المتربي من أن يفهم ويشعر أنه هو نفسه صانع مصيره، عن طريق فسح المجال لأفكاره، لأن تتبلور وتظهر في سلوكياته وتتفاعل مع النسق العام لحركة المجتمع.
ولن يتأتى ذلك في أية أمة من الأمم من دون سياسة عليا وتحديد واضح للأهداف، ومن ثمة إنتاج مناهج تعليمية وتربوية، تنسجم مع هذه السياسة العليا وهذه الأهداف، حتى تكون المحصلة والثمرة، شعوبا تحمل قدرا كبيرا من الانسجام والترابط والوحدة.
أما نحن، فإما نملك أهدافا سلمية و لكنها تبقى في إطار النظرية والبعد عن التطبيق، وإما نضع أهدافا تضاد عقيدة الأمة وروحها وتراثها ونريد تطبيقها قسرا وقهرا. وإما لا توجد لدينا سياسات عليا أصلا، والأمر متروك للاجتهادات والتيارات المختلفة، والمدارس الفكرية المتباينة. ولذلك يكون نتاج العملية التعليمية ونظامنا التربوي مستواه عقيما.⁽¹⁾
من هنا يتساءل (ابن نبي) عن ماهية الأهداف التي نتوخاها من التربية والتعليم، والجواب أننا نتعلم لمجموعة من الأهداف و المقاصد، ومنها أن التعلم هو وسيلتنا لفهم الكون والحياة والخلق. فلابد للإنسان أن يعلم لماذا هو موجود على هذا الكون؟ وإلى أين يسير؟ وما الغاية من وجوده؟ لأنه بغير ذلك تبقى الحياة لا معنى لها، أو عبثية لا غاية منها.
وإننا نتعلم أيضا لنحيا حياة كريمة، ولنتغلب على المشكلات والكوارث والأخطار التي تعترضنا، ولن يتسنى لنا ذلك إلا بالعلم و المعرفة. وبالتالي تكون التربية، هي الطريق إلى الإيمان والمعتقد والرقي المادي، بل هي السبيل للبقاء. فلا بقاء للأمة في زحمة الحياة وطوفان البشر ومزاحمة الأمم بعضها بعضا، إلا بعلم وتربية يحفظان لها كيانها، بل بقاءها ووجودها.
ويخلص (ابن نبي) إلى نتيجة أن التربية لا تؤتى ثمارها، إلا إذا ارتبطت بالواقع. أما إذا كانت التربية تعليما فلسفيا بعيدا عن الواقع، أو اجترارا معادا لأخبار الماضي، فلن يكون لها أثر يذكر، ولن تحقق الأهداف المرجوة منها. وبالتالي لابد للتربية الجيدة والناجحة أن تتصدى للمشكلات والعقبات التي تعترض مسيرة الأمة والمجتمع والفرد، وتحاول علاجها والخروج منها بطريقة علمية ورؤية صحيحة.
وانطلاقا من ذلك، يلتقي (ابن نبي) مع الفكر التربوي الحديث، الذي يرى أن المسؤوليات الأساسية للتربية تكمن في تمكين الإنسان المتعلم من فهم طبيعة المواقف والمشكلات التي يواجهها على الصعيدين الفردي والاجتماعي وإعداده بالتالي للتكيف مع العصر الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.وإذا كانت حاجتنا ماسة إلى تربيـة تحفظ للأمـة هويتها وتميزها، فإننا في حاجة أمس إلى تربية تخرج النظام التربوي من الحيز الضيق في البحث النظري، إلى التوسع في الاستفادة من معطيات التجارب العصرية، التي تتناسب مع أصالة الأمة وبناء حاضرها ومستقبلها.
وإن ما يمكن استخلاصه من الفكر الحضاري (لمالك بن نبي) فيما يتعلق بمفهوم التربية وطبيعتها، أن الأصالة والمعاصرة هما عنصران متلازمان للعملية التربوية. فالأصالة بقدر ما تعبر عن التراث والانتماء، فإنها تكفل التعايش مع المستجدات ومتطلبات العصر من دون عوائق. وإن التمسك بالأصالة لا يعني رفض المعاصرة والعكس صحيح أيضا. فلا بد من المزج والتكامل بين ما هو أصيل ومعاصر، وهذا ما يساعد على إثراء العملية التربوية والنهوض بها.
ثانيا- التجديد التربوي و طبيعة الأفكار:
إننا لا نملك حتى الآن فكرا تربويا خاصا بنا. كما أننا كثيرا ما نأخذ من مجتمعات أخرى مظاهر مختلفة من التجديد التربوي دون دراسة واعية بمدى صلاحيته واتساقه مع طبيعة مجتمعنا وتكوينه الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
إن المعرفة ليست غاية في حد ذاتها، ومن ثمة لابد من الدراسة والانتقاء والتطويع بما يتفق مع أهدافنا الاجتماعية وظروفنا وإمكاناتنا الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. ولذلك فإن دراسة الواقع لابد أن تستند إلى المنظور العلمي، بحيث لا تضللنا النواحي الشكلية، فنتصور أن التجديد جار وأن الأمور تسير على أفضل ما يرام.
إن نسيان أو تناسي الواقع، والبدء في عملية بناء جديدة قائمة بذاتها، إنما ينطوي على أخطاء وأخطار لابد من تفاديها. ولعل ذلك يشبه المجتمع الذي ينعزل عن جذوره التاريخية، حينما يستهدف تطوير حاضره ومستقبله، الأمر الذي يعرض بنيته الاجتماعية والسياسية لأخطاء جسيمة.
وهذا ما تفطن إليه (ابن نبي) عند تناوله إشكالية الأفكار الميتة والأفكار القاتلة. حيث رأى أن هناك استقطاب متنافر، إزاء مسألة الموروث والمستحدث، مما أدى في كثير من الأحيان إلى الاضطراب والخلل في عالم الأفكار، وانعكس بدوره كاضطراب في عالم السلوك. فبدلا من تكامل الأصالة بالاقتباس في شكل إيجابي وخلاق، وفي إطار يخدم حركة البناء العام للأمة، حدث انشطار يمثله اتجاهان. الأول يهدف إلى الحفاظ على الأفكار القديمة حتى وان كانت ميتة، والثاني يسعى إلى استيعاب الأفكار المستحدثة حتى وإن كانت قاتلة. ⁽²⁾
ان ظاهرة الأفكار الميتة وما تلعبه من دور سلبي، ينبغي أن تواجه بنقل الفكر وأساليبه إلى المجال التربوي لاكتشاف مواطن الظاهرة المرضية في الثقافة. وإلا فإن الأفكار الميتة ستواصل عملها في المجال الاجتماعي والسياسي، وتلك هي المشكلة البارزة التي تعاني منها حركات التغيير التقليدية، التي يحاول بعضها تجزئة الأمور والنظر للقضايا بشكل ذري، دون نظرة موضوعية شاملة.
وفي المقابل تطرح قضية الاقتباس والاستيراد والاستعارة، كمحاولة لإحياء العالم الثقافي المشحون بالأفكار الميتة، وذلك بالاستعانة بأفكار قاتلة مقتبسة من بيئة أخرى. هذه الأفكار حين تكون قاتلة وهي في موطنها الأصلي، تصبح أشد فتكا وقدرة على القتل عندما تنسلخ عن هذا المحيط.
ويرى (ابن نبي) أن مشكلة النقل القاتل، وهي المشكلة البارزة التي تعاني منها حركات التغيير التغريبية، ليست راجعة إلى الثقافة المقتبسة عنها. فليس مضمون هذه الثقافة هو الذي يحدد الاختيار، وإنما هو طريقة الصفوة في الاختيار الإرادي واللاإرادي. وبناء على ذلك، لابد من تصفية الأفكار الميتة وتنقية الأفكار القاتلة كأساس لأي نهضة منشودة.⁽³⁾
وينتهي (ابن نبي) إلى أن كل ما يناط بمفهوم التغيير والتجديد، ينبغي أن نتوخى فيه جانب الصحة وجانب الصلاحية. فلابد من التمييز بين الأفكار وتفحصها، حين تثار قضية التراث والاقتباس والاستيراد. لأن أي فكرة في التراث قد تكون صالحة في حينها، لكن نقلها إلى وسط غير مؤهل لاستيعابها قد يكون له مردود سلبي. فالفكرة التي كانت لها قيمتها الايجابية في السلوك في الماضي، قد تصبح مضرة عديمة الجدوى في الحاضر. ⁽⁴⁾
إن الفكرة التي قد تناسب مجتمعا ما، قد تصبح غير مؤهلة وعقيمة وقاتلة في غير مجتمعها. بل إن الفكرة في المجتمع ذاته قد تفقد مدعماتها الظرفية، وبالتالي تفقد فاعليتها.
ومن هنا أصبح من الصعب، بل وليس مقبولا من وجهة النظر العلمية، أن ينقل مجتمع ما، فكرا تربويا لمجتمع آخر، ليقدمه إلى أبنائه بحجة التجديد التربوي. فكل فكر يعكس رؤية المجتمع للصورة المستقبلية لأبنائه. ولذلك فإن سعي بعض المجتمعات النامية إلى نقل مناهج الدول المتقدمة، يعد خطأ من الناحية العلمية، فضلا عما يترتب عليه من أخطار على بنية المجتمع.
ثالثا- الاتجاه العلمي في التربية:
لقد شاع استخدام الأسلوب العلمي في مجالات الحياة التي كانت بعيدة عنه، بحيث أصبحت النظرة العلمية هي أحد معايير التقدم والتحضر. ومن ثمة فإن السبيل إلى إحداث توازن بين التقدم المادي والاجتماعي في مجتمع نريد له أن يكون عصريا، هو أن يصبح المنهج العلمي، الأداة الرئيسية للتعامل مع كافة نواحيه. وهذا يعني أن إكساب المواطن الاتجاه العلمي في النظر والتفكير في كل مشكلاته الحياتية على المستويين الفردي والاجتماعي، أصبح أمرا حتميا، ولم يعد قضية محل نقاش أو جدل، وذلك على اعتبار أن هذا الاتجاه يشكل جانبا جوهريا في التكوين النفسي للمواطن العادي.
وبناء على ذلك، لم تعد المعارف و الحقائق غاية في حد ذاتها، وإنما أصبحت سبيلا لتكوين وتنمية هذا الاتجاه العلمي. إن الحقائق و المعارف إذا لم تترك بصماتها على فكر المتعلم واتجاهاته فهي لا تزيد في النهاية عن كونها مجرد قفزات طائشة.
لذا يعتقد (ابن نبي) أن التطور العلمي في المجتمع، لا يتوقف على مجرد القدرة على اكتساب المعرفة العلمية كمعلومات وأساليب، بل لابد من توافر المناخ الذي يساعد على منح الروح العلمية التي تحرك الشعور لتقبل العلم وتبليغه في آن واحد. فالتطور العلمي لا يناط بالمعطيات العلمية فحسب، بل بكل الظروف النفسية والاجتماعية التي تتكون في مناخ معين.⁽⁵⁾
ويستدل (ابن نبي) على ذلك بقوله، أن الثقافة الاسلامية وهي تشيع المناخ العقلي بكلمة (إقرأ) قد منحت التفكير حريته والعلم نموه، متبعة بذلك أساليب تربوية، كعمليات دعم للبناءات العقلية للفرد والمجتمع. فتنمية التفكير العقلي وتوفير فرص الابداع والابتكار العملي، يتوقف إلى حد كبير على المناخ الثقافي السائد في المجتمع، بما فيه من عناصر سالبة أو موجبة.⁽⁶⁾
ولما كان التخصص سمة من سمات هذا العصر، فلقد ظهرت الحاجة إلى أن يدرك المتخصص علاقة الجزء بالكل وعلاقة الجزء بالجزء في الإطار الكلي. وفلسفة التربية هي التي تربط هذه الفروع جميعها بالمعايير والقيم الفردية والجماعية.
وبذلك تصبح فلسفة التربية، هي المنسق للتخصصات التربوية المختلفة والوسيط الأساسي بين التربية وغيرها من فروع العلم والحلقة التي تربط بين ما أنجز في الماضي وبين آمال المستقبل. لأن دراسة بعض التخصصات المتناثرة من وجهة نظر (ابن نبي) تبقى لا معنى لها، بل هو عمل عبثي، يهدر الطاقات والجهود، إذا لم يكن التعلم متكاملا، يؤدي كل تخصص فيه إلى نتيجة واحدة مشتركة.⁽⁷⁾
وإذا كان الكائن الانساني لا يختلف عن غيره من الأفراد فحسب، بل إن خصائصه تختلف الواحدة عن الأخرى قوة وضعفا، سواء أكانت هذه الخصائص، جسمية أم استعدادات عقلية أم تحصيلا دراسيا أم أساليبا انفعالية ومزاجية. وإذا كان الفرد في نموه الدراسي والمهني، يخضع للمبادئ العامة للنمو، فإنه يخضع أيضا للمبادئ العامة للسلوك.
فالدراسات والمهن المختلفة تستلزم من الأفراد قدرات ومطالب مختلفة. كما إن الدراسات العلمية تتطلب استعدادات تختلف عن الدراسات الأدبية، فضلا عن تعدد الدراسات وتعدد المهن التي يمكن للفرد أن يواجهها في حياته، مما خلق الحاجة إلى توجيه الفرد في فترة ما أو أكثر من فترات حياته. وقد وصل الأمر إلى درجة أصبح معها من المستحيل على الفرد العادي أن يحيط بها، أو أن يقرر ما يراه بشأنها، دون مساعدة فنية من الأخصائيين.
وقد تفطن (ابن نبي) لهذا الأمر، فاعتبر التوجيه قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف. وترجع أهمية التوجيه إلى الكم الهائل من الطاقات والقوى التي لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف نوظفها، فضاعت ولم تحقق هدفها.
فالتوجيه حسب اعتقاده يجنبنا الإسراف في الجهد و في الوقت. إذ هناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة صالحة لأن تستخدم في أحسن الظروف الزمنية والإنتاجية المناسبة لكل عضو من أعضائه. وحين يتحرك هذا الجهاز سيحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود.⁽⁸⁾
إن عملية التوجيه ليست أمرا يتم بطريقة آلية وإنما هي عملية مقصودة، لكي يحقق المجتمع أهدافه التي يرجوها وينشدها لنفسه ولأفراده. فلكل مجتمع حاجاته المتعددة والتي لا يمكن إرضائها، إلا عن طريق التوجيه.
رابعا- التعليم المستمر وأهميته التربوية:
يعتبر مفهوم التربية المستمرة من أبرز المفاهيم التي دخلت حديثا إلى ميدان التربية، والتي لا تعتبر شكلا خاصا من أشكال التربية ونشاطا تربويا متميزا، وإنما تعتبر صيغة أساسية كفيلة بأن تقدم مبدءا للتوجيه والتجديد التربوي.
ويحمل هذا المفهوم في جوهره اعتراضا على انتهاء تعليم الفرد عند مستوى تعليمي معين. ويؤكد على استمرار تعليم الفرد طوال حياته وفي سياقها. أي أن حياة الفرد التعليمية لا تنتهي بتخرجه من مدرسة أو كلية أو معهد، وإنما تستمر باستمراره في الحياة.
وهذا يعني أن المجتمعات المتقـدمة أصبحت ترفض النظر إلى المواطن كإنتاج جاهز، يتم إعداده في مستوى تعليمي معين، وفي أثناء عدد من السنوات. بل أصبح من الضروري على التعليم أن ينمي في المتعلم وعيا ناقدا ييسر له فهم مجريات الأمور من حوله، سواء على المستوى المحلي أم على المستوى العالمي.
إن الفرد لا يستطيع أن يواصل التعلم طوال حياته، إلا إذا كان حريصا على تحقيق نموه الواعي والكامل. وهو الأمر الذي لا يمكن حدوثه من خلال تربية تنمي فيه اتجاهات الخضوع والاستسلام، وإنما تربية تحرر طاقات وإمكانات المتعلم، بحيث يكون له أدوراه في كل ما يبذل من جهد تعليمي في الحياة المهنية والاجتماعية والسياسية.
إن العالم يعيش عصرا جديدا، هو عصر التفكير المستقبلي، الذي يستهدف نزع الشكلية عن التربية. وإن مفهوم التربية المستمرة يؤشر على مراجعة بنيتها، بحيث تكون أقدر على إعداد مواطن قادر على ممارسة الحياة في مستقبل لا نستطيع أن نتصور أبعاده.
وتتوافق نظرة (ابن نبي) مع ما تقدم، إذ يرى أنه لا غنى لأمة تريد أن تحقق أهدافها في واقع الحياة، من اتباع سياسة التعليم مدى الحياة. وذلك لأن العمر الإنساني بوجه عام قصير، والإبداع العلمي والمعرفي لأي فرع من فروع العلم، لا يمكن أن يتحقق في سن الدراسة بمراحله المعهودة. فحتـى خريج الجامعة، لا يتخرج في أحسن أحواله إلا وقد حاز مفاتيح العلم الذي تخصص فيه.
ويؤكد (ابن نبي) على أن التعليم المستمر، لن يكون سياسة متبعة، إلا إذا اقترن بالثواب و العقاب. ومعنى ذلك أن يكون هناك ثمرات مادية للاستمرار في التعليم، بما يؤدي إلى تحسين المتخرج من مستواه باستمرار ويكون على دراية بالمستجدات التي تضاف إلى اختصاصه وبما يجري حوله من أحداث وأبحاث، ويكون مستعدا لخوض غمار العمل وقادرا على العطاء.⁽⁹⁾
خامسا : التربية والتغير الاجتماعي
بادئ ذي بدء، نقول أن الأسباب والعوامل المختلفة التي تؤدي إلى إقامة العراقيل والعقبات في سبيل التغير الاجتماعي، أساسها تربوي. وإن انتشار التغير الاجتماعي في يسر وسهولة، أساسه أيضا تربوي.
ولما كانت التربية وسيلة أساسية للقضاء على المشكلات الاجتماعية التي تنشأ عن انتشار هذه العناصر الثقافية الجديدة وصراعها مع العناصر الثقافية السائدة، فإن علاقة التربية بالتغير الاجتماعي علاقة متبادلة لا نستطيع إغفالها.
ويمكننا أن نجمل القول، فنقول أن مسؤولية التربية في فترة التغير الاجتماعي تتمثل في عملية إعادة البناء الاجتماعي وإعادة الفحص المستمر للآراء والأفكار والمعتقدات، حتى تلعب دورا هاما في الوصول إلى حل المشكلات الاجتماعية والصراع الاجتماعي.غير أن إعادة البناء للآراء والمعتقدات والمؤسسات الاجتماعية، لا يعني رفض التراث الثقافي، ذلك لأن إعادة البناء، تتضمن التغيير وتتضمن أساسا الاستمرار.
وهذا يقتضي من التربية أن تستند في عملها إلى القيم الأصيلة التي يستند إليها التراث والأساليب العلمية والإنسانية التي تعين على تطوير المجتمع، وفق قيمه الأساسية. وهذا التغير الاجتماعي – التربوي، لن يتم بالشكل المطلوب، ما لم تتفاعل التربية مع معطيات المجتمع وتستوعب أهدافه المرحلية والمستقبلية، وفق علاقة تبادلية وتكاملية، تتمثل في قيادة التربية عملية التنمية الاجتماعية الشاملة نحو الأفضل.
ويرى (ابن نبي) أن التربية الاجتماعية تستمد قواعدها العامة من علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس. وإن تاريخ أي مجتمع، هو شبكة علاقات ونظام وأفعال منعكسة لدى الفرد المتكيف.فهو يؤكد على أنه لبناء نظام تربوي واجتماعي، ينبغي أن تكون لدينا أفكار جد واضحة عن العلاقات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية على مستوى الفرد والمجتمع.
فالتربية الاجتماعية السليمة، لا تستورد مفاهيمها وحلولها من مجتمعات أخرى، لأن المجال الاجتماعي ليس كمجال الميكانيكا. فمشكلات الإنسان ليست هي مشكلات المادة، وبالتالي فإن الأفكار والمفاهيم جزء من محيطها وقد تفقد قيمتها عند انفصالها عن ظرفها الاجتماعي.⁽¹⁰⁾
ومع ذلك، يبقى الاقتباس ممكنا حسب اعتقاد (ابن نبي) إذا كان مناسبا ويرد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعير. ويعني ذلك تهيئة المحيط اللازم لتطبيق ما نتصوره من حلول لمشكلاتنا التربوية والاجتماعية.
وإذا كانت التربية هي إعداد الفرد وتشكيل مهاراته وقيمه واتجاهاته، بما ينسجم وحاجات البناء، فإنها أيضا تربية للمجتمع، تتأثر بالبناء القائم وتؤثر فيه في حالة إعادة بناءه. فتشخيص المرحلة التاريخية للمجتمع وما إذا كانت هذه المرحلة محكومة بعوامل الضعف أو القوة، تشكل أساسا لتحديد مسار التربية الاجتماعية. إذ أي تربية تغييرية-بنائية، لا تتحرك ضمن الإدراك التاريخي لدورة المجتمع، تفقد التشخيص السليم.
وبهذا الصدد يقول (ابن نبي) أن التربية الاجتماعية لابد أن تنطلق من ضرورة تنظيم شبكة العلاقات الاجتماعية بما يتيح الانخراط في النشاط المشترك، كأساس يكسب المجتمع البشري صورته كمجتمع. فهو الذي يمنح التربية صفتها الاجتماعية. ودائما ضمن هذا السياق، يعتقد (ابن نبي) أن الثقافة لا تكتسب أهميتها ما لم تخلع على التربية الاجتماعية المضمون الضروري، الذي يتيح لها الاطلاع على وظيفتها المغيرة. لأن الهدف هو تعليم الفرد الإنساني كيف يحيا، وكيف يتحضر في المجتمع الإنساني.⁽¹¹⁾
ويوجد ارتباط عضوي بين الفرد وإطاره الاجتماعي. فمعطيات البيئة الاجتماعية سلبية كانت أم إيجابية، تنعكس فكريا ووجدانيا على تكوين الفرد وحياته من خلال تفاعله المستمر مع الآخرين. فالتربية الاجتماعية في نظر (ابن نبي) هي وسيلة فعالة لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو الإبقاء على الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الاجتماعية وأهدافه الإنسانية.
إن الأفراد في المجتمع يتعلمون عن بعضهم البعض، إذ يتأثر الجميع بالأشياء المحيطة. كما أن تيار المؤثرات قد يزعزع فيهم قيما واتجاهات، لذا فإن تنظيم الطاقة الحيوية للفرد وتكييفها ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية والأنشطة المنبثقة عنها يعد أمرا لازما، لأن كل فكرة عن التربية الاجتماعية حسب(ابن نبي) يجب أن تتحدد في تكوين الفرد وعلاقاته الاجتماعية.⁽¹²⁾
ومن المهم القول أن نجاح العملية التربوية في التغير الاجتماعي، يرتكز على الواقع الثقافي للمجتمع الذي نستهدف العمل فيه. وعليه كان لزاما على الثقافة الموجهة للتربية، أن تكون ثقافة أصيلة، نابعة من الواقع العقيدي والفكري والأخلاقي للمجتمع.
سادسا- التربية والقيم الثقافية:
إن الثقافة التي تعمل التربية في حدود إطارها، تختلف من مجتمع إلى مجتمع. وهذا الاختلاف نراه بين أفراد المجتمعات المختلفة. وتدل البحوث التربوية والأنتروبولوجية على أن طابع الشخصية له علاقة وثيقة بنمط الثقافة الذي تخضع له هذه الشخصية، وإن هذه الأخيرة هي مرآة تعكس بصدق صورة الثقافة. فما هي إلا نموذج مصغر للثقافة التي نشأت فيها. وفي هذه الحدود، يمكننا القول أن الثقافة تؤثر في بناء الشخصية من حيث الأفكار والقيم والمعارف والمهارات والخبرات والدوافع وطرق التعبير على الانفعالات والرغبات وأنماط السلوك المختلفة. كما تؤثر أيضا في النواحي الجسمية والعقلية والمزاجية والخلقية.
ومن هذا المنطلق يرى (ابن نبي) أن كل ثقافة هي بالضرورة تركيب وتأليف لعالم الأشخاص. وهذا التأليف يحدث طبقا لمنهج تربوي، يأخذ صورة فلسفية- أخلاقية. وبناء على ذلك تكون الأخلاق والفلسفة الأخلاقية هي أول المقومات في الخطة التربوية.
ومعنى هذا أن كل تربية تقوم على أساس فلسفة معينة بما تحتويه هذه الفلسفة من معرفة وقيم وأخلاق وطبيعة بشرية. ويتضح كل هذا بصفة خاصة في ميدان فلسفة التربية وفي قيامها بوظيفتها. فالعملية التربوية يمكن أن توضح العلاقات الأساسية التي تربط العلم بالحياة.
ويقول (ابن نبي) في هذا المجال، أن الثقافة التي لا تدخل في عناصرها عقد الصلة بين العلم و الأخلاق،هي ثقافة تعاني من خلل جوهري، ينعكس تربويا على نحو غير إيجابي اجتماعيا وإنسانيا. فالعالم الذي يفقد في نشاطه المبرر الأخلاقي، قد يضعف لديه الحافز نحو تحقيق المعطيات العلمية لعمله.
ويذهب (ابن نبي) في تصوره لعلاقة المعرفة بالقيم الأخلاقية إلى أبعد من ذلك، فيرى بأن ربط العلم بالأخلاق لا تبررها الحاجات الاجتماعية فحسب، وإنما الحاجات الإنسانية أيضا. فالعلم حين يفقد تحصينه الأخلاقي، يتحول إلى نزعة آلية تستعبد الإنسان وتقوده إلى المادية التي تحول سلوكه إلى نفعية لا تعرف للفضيلة معنى. ⁽¹³⁾
وإذا كانت التربية هي إعداد المواطن الذي يستطيع التكيف مع المجتمع الذي نشأ فيه، فإنها تعمل أيضا على تشكيل الشخصية الإنسانية تشكيلا، يقوم على أساس ما يسود المجتمع من تنظيمات سياسية واجتماعية واقتصادية. ولهذا كان لابد للإطار الثقافي الذي يقوم عليه المجتمع أن يحدد أبعاد العملية التربوية واتجاهاتها بحيث لا تخرج التربية عن هذا الإطار،إلا تطويرا له وتقدما به.
ويرى (ابن نبي) أن القيم الأخلاقية في بعدها الاجتماعي، تلعب دورا هاما في قيام المجتمعات وتطويرها. وإن بناء شخصية الفرد لا يتحقق دون أساس أخلاقي. وإن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بمقدار ما يزيد فيها تأثير الأخلاق أو ينقص،لأن الأخلاق شرط أساس في تنظيم العلاقات الاجتماعية، بما يلائم المصلحة العامة.⁽¹⁴⁾
وعلى هذا الأساس تحتل القيم الثقافية والأخلاقية مركزا أساسيا في توجيه العملية التربوية. وفي هذا المجال تعمل التربية على المحافظة على التراث الثقافي ونقله من جيل إلى جيل، بما في ذلك القيم الأخلاقية، والعمل على تطوير هذا الواقع الثقافي بمقدار ما تستطيع نحو ما يجب أن يكون.
وفي هذا المقام يرى (ابن نبي) أنه من المهم أن يتضح، بأن الثقافة ما هي إلا محيط معين يتحرك في حدوده الإنسان. إنها جو من الألوان والعادات والتقاليد والأشكال والأوزان والحركات التي تطبع حياة الإنسان باتجاه معين وأسلوب خاص، يقوي تصوره ويلهم عبقريته، ويغذي طاقته الأخلاقية.⁽¹⁵⁾
وبناء على ذلك، فالثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس أو من الكتب، بل هي جو من العادات والأذواق والقيم التي تؤثر في تكوين الشخصية، فتحدد دوافع الفرد وانفعالاته وصلاته بالناس والأشياء.
الاستنتاج العام:
نخلص من كل ما تقدم أن الفعاليات الإنسانية العاقلة والذكية بوجه عام والظاهرة التربوية على وجه التحديد، تنبثق عن مفاهيم نظرية معينة، فإذا غابت النظرية الجيدة عن القيادة التربوية سيؤدي ذلك بفعالياتها إلى التخبط والعشوائية واعتماد أسلوب المحاولة والخطأ. فالفكر التربوي لأي جماعة اجتماعية معينة ينبغي أن يبنى بالاعتماد على مجموعة من الركائز أو المقومات وهي التراث والواقع المعيشي القائم والواقع العالمي ومستقبل الأجيال والنظرة التركيبية الموحدة والمؤلفة بين هذه العوامل.
وقد تبين لنا من خلال استعراض مكونات الفكر التربوي عند مالك بن نبي أننا بحاجة إلى ولادة فكر تربوي حضاري حتى نسهم من جديد في إغناء الفكر الإنساني، إن نحن عملنا جميعا له وبذلنا من أجله، بعض ما يستحق. وحتى يتحقق ذلك،لابد أن يتمتع الباحثون والعلماء بالحرية الأكاديمية المطلقة، لأن الفكر الموجه والمراقب خارج رقابة الضمير غير خلاق وغير مبتكر، بينما الفكر الحر المطلق هو القادر على الإضافة والإغناء والارتقاء.
إن النظام التربوي الفعال هو ذلك النظام الذي يحسن استيعاب الأفكار وفهم الواقع حتى يستطيع تحديد الأهداف بما يتناسب مع الظروف البيئية ومع القدرات البشرية والمادية المتوفرة. فمن تفاعل الفكر مع الواقع الاجتماعي والتطبيقي ومن تفاعل مجموع المجتمع مع طبيعة الأفكار التربوية السائدة، تنبثق معادلة جديدة تعتبر محكا صادقا لقياس مدى التوافق بين الأفكار والأشخاص والأشياء، وهي في الوقت ذاته ثمرة الانسجام بين العوالم الثلاث والدليل الصادق على السير في طريق صنع الحضارة.
الخاتمة:
تأسيسا على ما تقدم من استعراض واستقراء لبعض المعالم التربوية في الفكر الحضاري لمالك بن نبي نسمح لأنفسنا القول، أن الدراسة الحالية مهمتها هي إثارة الإشكالية وليس وضع الحلول أو إخراجها من حيز الأفكار إلى حيز الواقع، لأن إخراجها يحتاج إلى تضافر الجهود، ويحتاج إلى الإخلاص في العمل والإيمان به، ولعل تضافر الجهود على اختلاف مستوياتها يقربنا مما نهدف إليه ونسعى من أجله.
فقد يكون ما قدمه مالك بن نبي من معالم تربوية في فكره الإصلاحي والحضاري لا يفي بالغرض، ولكننا نزعم أنه قد يكون قديما-جديدا في مبناه ومنحاه إذا نظرنا إليه من أفق أوسع وانطلاقا من أن ما هو كائن له مبررات الوجود، وليس مبررات الخلود. وإن أساليب العمل ينبغي أن تتبدل بتبدل الأحوال، وأن العقل البشري بإمكانه أن يفكر في بدائل متنوعة لتحقيق المراد.
الوصية :
إننا في فترة خطيرة، تقتضي تغييرات ثورية. فإما أن نقوم نحن بالتغيير في مجتمعنا، وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج.
إن قولنا،بأن الثورة عبارة عن تغيير أوضاع معينة بطريقة استعجالية غير كاف، بل ينبغي القول، أنها عملية هادفة ومحددة الأهداف. فهي تعني ما هي الأشياء التي يجب أن تتغير، وتعني تحديد وسائل التغيير، ثم تحديد أهداف التغيير.
نحن في مواجهة حالة عالمية معينة، وإن أوضاعنا الاجتماعية في حالة يمكن أن نعبر عنها بكلمة واحدة هي:« التخلف ». والكل يدرك ما وراء الكلمة من أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية.
إننا أمام وضع خطير في حد ذاته، لأنه ربما يحمل في طياته مفاجآت وتغييرات عالمية جذرية. وبطريقة لم تعرفها الإنسانية في شتى مراحل تاريخها. بل وخطيرة أيضا، لكوننا لا نعلم هل نحن مهيؤون لمواجهة هذه التغيرات أم لا؟
إن مواجهة الشيء، يتطلب معرفة الشيء ذاته. إلا أن التيارات الفكرية عندنا غير مستعدة، والقيادات السياسية بعيدة عن هذا الميدان، لأنها منشغلة بأشياء تعتقد بأنها أساسية. وعليه فإننا غير مهيئين لا سياسيا، ولا فكريا لمواجهة المشكلات التي تعترضنا.
إن طبيعة المشكلات العالمية تنعكس على الأجزاء مهما استقلت هذه الأجزاء بذاتها، وانكمشت على نفسها. فالأحداث العالمية يصلنا صداها وتؤثر في حياتنا.
أوصيكم بشيء خطير، لا لأننا لا نراه، بل لأننا منشغلون بمشكلات أخرى. فالقيادات الثقافية لا ترتفع لهذا المستوى، لأنها لا زالت في محيط ضيق.
نتواصى بهذه الحقيقة، ونعمل بمقتضاها، وعلى كل واحد أن يصحح ما سمعه مني، ويكمل ما نقص في حديثي لأني اختصرت ولم أدخل في التفاصيل… – مالك بن نبي –
الهوامش:
(1)- مالك، بن نبي. مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. دار الفكر. دمشق :1986. ص:29.
(2)- نفس المرجع، ص:153.
(3) – مالك، بن نبي. وجهة العالم الإسلامي. دار الفكر. دمشق :1986.ص:74.
(4)- مالك، بن نبي. دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين. دار الفكر. دمشق: 1986.ص:60.
(5)- مالك، بن نبي. إنتاج المستشرقين. مكتبة عمار للطباعة والنشر والتوزيع. القاهرة :1970.ص:34.
(6) – مالك، بن نبي. في مهب المعركة. دار الفكر. دمشق :1986.ص:174.
(7) – مالك، بن نبي. دور المسلم و رسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين.مرجع سابق.ص:60.
(8) – مالك، بن نبي. شروط النهضة .دار الفكر. دمشق :1986. ص:78.
(9) – مالك، بن نبي. دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين. مرجع سابق. ص:42.
(10)- مالك، بن نبي. ميلاد مجتمع .دار الفكر. دمشق :1986.ص:46.
(11) – نفس المرجع، ص:93.
(12)- نفس المرجع، ص:72.
(13) – مالك ، بن نبي. تأملات. دار الفكر. دمشق: 1986. ص:145.
(14)- نفس المرجع، ص:44.
(15) – مالك، بن نبي .مشكلة الثقافة. دار الفكر. دمشق :1986. ص:100.
مقال نشر بالعدد الأول من مجلة جيل العلوم الإنسانية والإجتماعية ص 9.
للدكتور علي صباغ/ أستاذ محاضر(أ)، كلية علم النفس وعلوم التربية – جامعة قسنطينة 02، الجزائر