الاتجاه الإصلاحي في فكر الأستاذ عبد القادر القاسمي
بقلم: محمد بسكر-
يصعب الخوض في سيرة رجل إذا عمّت حياته الندرة في المصادر المتحدثة عنه، فتبقى آثاره هي الوسيلة الوحيدة الدّالة عليه، والمتناول لشخصية الأستاذ عبد القادر القاسمي يجد نفسه أمام هذه العقبة، فإذا خرج منها بالنّزر اليسير الذي لا يعطي تصورا واضحا عنه، تعذّرَ عليه تصنيفه في أي الفريقين هو؟
فهو تربية الزاوية القاسمية، تحدّث باسمها، ومثَّل مواقفها في شتى المناسبات، ومع ذلك، فكتاباته المعبرة عن فكره وآرائه - وإن قلَّت- هي أقرب نهجا للفكر الإصلاحي الدّاعي إلى حركة تجديدية في التعليم والتربية والدّين والاجتماع، وتجربته في خوض غمار المنافسة السياسية، المخالف لأبجديات الطرق الصوفية، يوضح أنّه يمثل التوجه العصري الجديد للزاوية نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، مع ظهور جيل من شبابها المختلف في تفكيره عن النّهج التقليدي المعتمد من شيوخها منذ تأسيسها، والمتشبع بفكر الشيخ محمد بن عزوز القاسمي- خريج جامع الزيتونة- وهو كما يصفه الدكتور " مصطفى لطرش": رجل مثقف متفتح...واسع الاطلاع...يقف على الطرف النقيض لرجال الدّين من العائلة المؤسّسة للزاوية.
• نشاطه الثقافي والسياسي:
ولد الأستاذ عبد القادر ببلدةالهامل، وتعلّم في زاويتها، وكان من أبرز شيوخه فيها الشيخ محمد بن عزوز القاسمي، والحاج ابن السنوسي بن عبد الرحمن، والوانوغي بن أحمد المقراني، أخذ عنهم التفسير والفقه واللّغة والتوحيد، ومنذ أن استوى عوده، شبّ معه حبّ النشاط الاجتماعي والثقافي، فكوّن علاقات واسعة مع الكثير من العلماء والأدباء والمفكرين. ونشاطه الثقافي ارتبط بالزاوية القاسمية، فكان يستقبل باسم شيخها الوافدين عليها، ومن أمثلة ذلك مراسلة البشير الإبراهيمي له بتاريخ 15 أوت 1929م يرغب منه ترتيب زيارة للأديب "عمر بري" للزاوية، ومما قاله فيها: « يفد عليكم...الأديب سيدي " عمر بري " أحد أفذاذ علماء المدينة المنورة، وأبناء البيوتات الشهيرة بها »، ثمّ تحدث الإبراهيمي عن توقِ الأستاذ "بري " لزيارة الزاوية، لما يُؤثر عنها من حفظ رسوم العلم والأدب والفضائل العربية( ). واستقبل في شهر أفريل من سنة 1930م، رفقة الشيخ المكي بنعزوز وحسن القاسمي الوفد المدرسي الفرنسي القادم من باريس، والذي ترأسه المفتش العام السّيد ( م.رودن)( ).
ولما تمّ تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م، كان من أعضائها المؤسّسين، مثّل فيها وجهة نظر الزاوية، وربطته بأعضائها علاقة وثيقة، لا نجد ما نوثّق به دوره داخل مكتبها الوطني، غير رسالة الشيخ عبد الحميد بن باديس، بتاريخ 2 ربيع الأول 1350هـ الموجهة إلى الأستاذ عبد القادر يطلب منه وضع إمضائه أسفل بلاغ صدر باسم الجمعية يتعلق بالدّعاية التي أثارتها بعض الصحف ضد الميزابيين، وكادت أن تؤدي إلى فتنة، فأرادت الجمعية أن تصدر بيانا تسكن فيه حرارة هذه الحملة( )، واعتمدت الجمعية عليه باعتبار مكانته ومنزلته العلمية والاجتماعية والدينية.
غير أنّ اختلاف وجهات النظر، والتنافس على الحياة الدّينية والعلمية، واتهام المحافظين للإصلاحيين بالخوض في السياسة أدى إلى الانفصام بينهما، وتأسيس جمعية "علماء السنة" سنة 1932م برئاسة المولود بن الصديق الحافظي، ويرى أبو القاسم سعد الله بأنّها نشأت برعاية الإدارة الفرنسية، وأصدر القائمون عليها جريدة ( الإخلاص) الأسبوعية، ظهر عددها الأول بتاريخ 14 ديسمبر 1932م ثمّ اختفت وظهرت بدلا عنها جريدة " المعيار" سنة 1933م، وهي جريدة نصف شهرية( )، كانت في أسلوبها أشدّ انتقادا وحدّة ضد جمعية العلماء المسلمين عن غيرها. ولم تعمر جمعية علماء السنة إلّا عاما أو بعض العام( )، فضمر نشاطها وعَفَا أثرها بنفس سرعة نشأتها، ويبدو أنّ بعض الشخصيات الطرقية لم تتحمس لها، بسبب ما لحقها من شوائب واتهامات، فانسل منها أعضاؤها، وحاول رئيسها إحياءها بعد بروز " جامعة اتحاد الزوايا والطرق "، فراسل الشيخ مصطفى بن محمد القاسمي في ذلك بتاريخ 8 جوان 1938م، وطلب منه « إن كانت له رغبة في إحياء جمعية علماء السنة لتعمل مع جمعية الزوايا، وَوضع برنامج يكون السير علي مقتضاه »( ). انسحب السيد عبد القادر القاسمي من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، غير أنّه لا يوجد ما يثبت انتماءه إلى جمعية علماء السنة، وظهر نشاطه أكثر مع تأسيس "جامعة اتحاد الزوايا والطرق " سنة 1938م، والتي وجدت الدعم الكبير من زاوية الهامل، فأسس الأستاذ عبد القادر جريدة تتبنى منهجها وتدافع عن اختياراتها، لا تتوفر عندي معلومات عنه في الفترة الممتدة من(1939/1947)، إلا أنّني وقفت على مشاركة له في مؤتمر تكوين " جامعة المعاهد العلمية والزوايا الدينية بإفريقيا الشمالية " المنعقد بالجزائر العاصمة في شهر أفريل سنة 1948م ، والذي ترأسه الشيخ مصطفى القاسمي، وتمّ فيه تأسيس المجلس الإداري، وكان السيد " عبد القادر" أحد الأعضاء المستشارين فيه( )، وهو أيضا من أعضاء جمعية أحباس الحرمين الشريفين التي يترأسها " قدور بن غبريط "، وشارك في ملتقاها المنعقد بالجزائر العاصمة في شهر فيفري 1949م، ونجد من أعضائها أيضا: محمد غلام الله (رئيس زاوية تيارت )، وقدور ردوسي ( مدير المطبعة الثعالبية )، ومامي إسماعيل( رئيس جريدة النجاح )، وبابا عمر (مفتي المالكية بالعاصمة ) وغيرهم( ).
وسبق لوفد " أحباس الحرمين " زيارة بلدة بسكرة سنة 1938م، وحلّ الشيخ غلام الله - قادما منها - ببلدة الهامل، وكان في انتظاره كما نقل مراسل جريدة النجاح « الأديب الحازم القاسمي الشيخ الحاج عبد القادر»، فأخذه إلى الزاوية، ثمّ رغب في زيارة بوسعادة فعرّج به عليها، حيث ألقى محاضرة في جامع الزقم ( ).
لم تكن مشاركة الأستاذ عبد القادر تقتصر على نشاط الزاوية الثقافي والاجتماعي، بل خاض أيضا غمار التنافس السياسي، رغم مخالفته مبدأ من مبادئ " اتحاد الزوايا "، والمقتضي عدم التعرض للسياسة، فشارك مترشحا مستقلا في انتخابات المجلس الجزائري لسنة 1948م، وأسس من باب الدعاية الانتخابية جمعية " الوحدة النائلية " حاول من خلالها جمع أصوات أولاد نائل، وأسفرت النتائج بفوزه بمقعد بمجلس الجمعية الجزائرية المكونة من 120 عضوا، ممثلا لمنطقة بوسعادة ( ).
• جريدة الرشاد:
يرجع الفضل في تأسيس جريدة الرشاد إلى الأستاذ عبد القادر القاسمي، وتزامن ظهورها مع تأسيس "جامعة اتحاد الزوايا والطرق"، فجاءت هذه الجريدة لتنطق بلسانها سنة 1938م، وعهد إدارتها لأخيه عبد الحفيظ القاسمي( )، ودام إصدارها من (16 ماي 1938م إلى 13 نوفمبر 1939م)( )، ويعتبرها الدكتور محمد ناصر في دراسته عن الصحف الجزائرية امتدادا للخلاف الصارخ بين الاتجاهين المحافظ والإصلاحي( )، « وتصرح الجريدة بأنّ طريقتها لإصلاح المجتمع تختلف أساسا مع طريقة حزب الإصلاح، الذي سلك في ذلك مسلكا يثير عواطف الجماهير، ويستفزها بطريقة هي إلى العنف أقرب منها إلى التسامح »( )، وتداولت على تحرير مواضيعها أقلام أدبية معروفة على السّاحة الجزائرية أمثال: الحسن الوارزقي، ومحمد العاصمي، وإبراهيم بن عزوز، والمكودي بن عبد القادر العمراني.. وغيرهم، وشملت مقالاتها قضايا اجتماعية ودينية، من بينها: « ما هو الدّواء النّاجع لصلاح المجتمع الديني »، « وما هو الإصلاح وما هو النوع المطلوب منه »، ومواضيع في التصوف والأخلاق، وأخرى عن التعليم ومناهجه وأسباب ضعفه، كما نجد فيها مقالات عالجت مشاكل اقتصادية، « حول الأزمة الاقتصادية »، « والجزائر الزراعية، وحاجتها إلى الاصلاح »، أمّا المجال السياسي فإنّ مديرها في مقاله « المشاريع والأغراض » بيّن وجهة نظر المحافظين، من كون السياسة منافية للدّين، ويجب الابتعاد عنها، وأنّ الزوايا لا تخوض فيها إلّا عَرضًا( )، ومع ذلك لا تخلو مقالاتها من الكلام فيها، وخاصة أثناء مجادلاتها مع الإصلاحين، وعموما فهي في أسلوبها تتّسم بالتّعقل والابتعاد عن التشخيص والقدح، مقارنة مع الجرائد الطرقية الأخرى.
• من آرائه ومواقفه الإصلاحية:
ما يلفت نَظر الدّارس لمكاتباته المنشورة، أنّه صاحب فكر حرّ، واضح في خياله، مطلع على مستجدات عصره، وأديبٌ كاتبٌ متميز الأسلوب، وقلمه طلقٌ، بلغ فيه مبلغه من البيان والإبداع، ويملك جسارة في الخوض في مواضيع فلسفية وأخلاقية واقتصادية، أساسها يقوم على تمكن الكاتب من الاستقراء الجيد، والإلمام الواسع، والقدرة على التحليل. عالج الأستاذ عبد القادر القاسمي في مقالاته قضايا تتعلق بالمجتمع الجزائري ومشاكله الشائكة التي ماهي إلّا نِتاج واقع استعماري مرير، فكان ( رحمه الله ) يطرح بالتحليل أوجاع هذا الوطن، ويضع ما يراه مناسبا من حلول في مسائل معدودة شغلت أفكار العامة والخاصة، « بقيت الأفكار تدور حولها في أغلب الأوقات، دورانا أشبه بدوران الشّيء حول نفسه »( ). وهي - حسب تصوره - تشير إلى ذبذبة من يقودون الإصلاح داخل الوطن، وأنّ الإصلاح عند بعضهم انحصر في مسائل جزئية، بل في مسائل خلافية، والتي كما قال: « لا تستحق ما صرف، ومازال يصرف فيها من الجهود الجبارة والأوقات الثمينة، وقد أريق في سبيل تلك المسائل أنهر من الحبر، وأذيبت لأجلها أمخاخ جمهرة من المفكرين دون ما جدوى «( )، ويخلص به الحديث إلى أنّ الخلاف العقيم الواقع في الساحة الاجتماعية والسياسية لم يفد الأفراد والجماعات إلّا تباعدا وبقايا عداوات راسخة ( ).
وفي مقاله ' الانتفاع بعمل الغير' يوجه حديثه للإصلاحيين، ويلفت نظرهم إلى ضرورة عدم خرق الإجماع، وهم أدرى بمقامه، وبمقام السنّة والاجتهاد، وهم أولى من دافع عن الأئمة المجتهدين، واستدل بقول ابن تيمية: « من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلّا بعمله فقد خرق الإجماع »، وساءه ما يحدث من شقاق وفتنة بين المؤمنين نتيجة الخوض في المسائل المجمع عليها، فينقلب ما كان يرجى من الإصلاح إلى فساد( )، ويرى بأنّ المفكرين صرفوا عنان الفكر إلى مسائل شتى، ولم يلتفتوا إلى أهمية البحث عن 'الدّواءالنّاجح لإصلاح المجتمع الدّيني'، ويؤكدّ بأنّهم يتفقون أنّ إصلاح المجتمع لا يتأتى إلّا بالرجوع إلى الدّين والاستضاءة بنور الكتاب والسنّة، لكن بقي عليهم أن يشرحوا كيفية العلاج، وتوضيح الطريق المؤدّية لاستئصال جرثومة الفوضى المنتشرة، وينتهي به الحديث إلى أنّ جوهر التأثير في المجتمع يَكمنُ في عنصر ( القدوة)، فمخالفة الأقوال للأعمال من الحواجز المانعة لقبول عموم النّاس التغيير المنشود، وفي ذلك يقول: « ولا جرم أنّ العالم الذي يتصدى لإصلاح الأمة، من اللازم أن يكون بتلك المثابة، وإلّا عاد إصلاحه إفسادا، وتطبيبه تمريضا، وتصويبه خطأ »( )، فمقصد هذه الجمعيات المختلفة ( الإصلاحية والطرقية ) إنّما كان غرضه تغذية الرّوح الدّينية، وتربية الجمهور الجزائري عليها، ولم تكن هذه الغاية أمنية فرد أو طائفة معينة ، ولا فكرة حزب معين، بل هي تعرب عن أماني كثير من رجال العلم والدّين في البلاد، ويذهب في مقاله المعنون بـ ' بعد الزوبعة ' إلى أنّ الحركة الإصلاحية هي جزائرية محضة في نشأتها، وأنّ الذين أسّسوها من خيرة المسلمين حكمة ودراية وديانة وقدرة، لكن سنّة التطور شاءت أن تدخل ضمنها عناصر متطرفة أثّرت عليها، وأعطتها صبغة منافية لصبغتها الحقيقية ( )، ثمّ يدعو إلى الرجوع للحق والصواب، واستئناف العمل الجاد لتخليص المجتمع من أدوائه وأدرانه.
إنّ فكر الأستاذ عبد القادر المبثوث في مقالاته القليلة يحتاج إلى عناية ودراسة، فهو وإن عرض ما يراه صوابا دفاعا عن الطريقة التي ينتمي إليها، فإنّ طرحه بحق يَتسمُ بصدق الطّوية، والحرص الشديد على توحيد الجهد للنهوض بالأمة وإصلاح حالها.
توفي (رحمه الله) فجر يوم الأربعاء 24 من شهر رمضان المعظم سنة 1373 هـ/ 1954م، والوطن الجزائري يفتتح مرحلة جديدة من الكفاح، فَنَعَتهُ جريدة النجاح القسنطينية، بقولها: « نكبت بحق نوادي الأدب الجزائرية التي كان عبد القادر تحفتها بأدبه ولطفه وذكائه ووفائه لأصدقائه، وأصبحت بعد القاسمي وأمثاله بلقعا وحقلا يابسا موبوءًا »( ).ووصفه من يعرفه بأنّه: « كان في بشريته ساميا سُمو الرّوح، صارفا مواهبه في خدمة المجتمع، زاهدا فيما عند النّاس، كانت مواقفه كلّها جدّ وثبات، لا يسهر إلّا على تنشئة النّاس على البر والعفّة والأمانة »( )، ورثاه ابن بشير رابحي مفتي البليدة بقصيدة جاء في مطلعها:« إلى الله أشكو من خطوب ملمة...تداعى لها صرح العلوم الدوارس»( ).
للموضوع مصادره.