رَحِمُ ذوي العلم..
بقلم: د. عبد العزيز بن سايب-
في أول زيارة لمدينة حمص العامرة في حدود 1990 تَعَرَّفْتُ على ثلة من أهلها وكرمهم وطيبتهم وصفائهم، وأكرمني الله جل جلاله بزيارة علمائها وفضلائها..وكان على رأسهم بَرَكَتُهَا ومُفْتِيهَا الشيخُ الفقيهُ الزاهدُ الخاشعُ محمود جنيد رحمه الله تعالى..في دكان بسيط في سوق حمص، حيث كان يَفِدُ إليه المستفتون والمحتاجون، فيُجيب السائلين ويُعطي المحتاجين مما استودعه الأغنياء ليوزعه على المستحقين..وكان رحمه الله قَلْبَ حمص بحق..
كان شيخا دَمِثًا مُخْبِتًا في غاية التواضع والبساطة في هيأته.. نحيل الجسم.. دائم إطراق الرأس..مع هيبة الصالحين.. لما عَرَفَ أني من مدينة قسنطينة بالجزائر رفع رأسه ونظر إليَّ بعينيه الذابلتين بعمق، وقال لي: كيف هو الشيخ النُّعيمي..فجال ذهني في كل من اسمه النعيمي إلا الشيخ النعيم النعيمي، الذي كُنَّا جيرانه في حي سيدي مبروك بقسنطينة .. لكن قلت ربما يكون هو، فقلتُ: الشيخ النعيمي القسنطيني، فقال لي: نعم..فتعجبت من سؤاله، وقلت له: يا سيدي وهل تعرفونه؟ فأجابني: إنه شيخنا..فازداد استغرابي..وكيف ذلك..
فأخبرني: أن الشيخ النعيمي جاء أيام الثورة الجزائرية لما كان ملاحقا من الاستعمار الفرنسي، فأقام في حمص نحوا من ستة أشهر، وجمع القراءت على شيخنا الشيخ عبد العزيز عيون السود، وتفرغ له الشيخ لِمَا عَلِمَ من وضعه وظروفه وعلو همته . ويوم الإجازة كنتُ حاضرا، فأجاز الشيخُ عبدُ العزيز الشيخَ النعيميَّ في القراءات، وأجاز الشيخُ النعيميُّ الشيخَ عبدَ العزيز في الحديث، فقد كانت له أسانيد عالية، وتكرم فأجاز الحضور أيضا، وكنتُ منهم، وأَذكرُ من حرصه على العلمِ وكُتُبِهِ أنه اشترى من حمص مسند الإمام أحمد ومجمع الزوائد للهيثمي..
هذا بعضُ ما قاله لي الشيخ محمود جنيد..
كانت صدمةً قاسيةً عَلَيَّ..لقد كُنتُ أجهل قدر هذا الشيخ الجزائري لا سيما أننا جيرانه، بل طالما حدثتنا عنه والدتي رحمها الله، وقصة استتاره في بيت جَدِّي لما كان جريحا مطاردا من الاستدمار الفرنسي..
فسبحانك ربي، عرَّفتني منزلةَ عَلَمٍ من أعلام بلادي في أقصى المشرق وكان بيني وبينه خطوات معدودات.. أنت العزيز الحكيم
رحم الله الشيخين الفاضلين، وغفر لمن جاء بعدهم ولم يعرف قدر العلماء، ولم يُحسن حمل الراية بعدهم.