الأديب محمد الصالح الصديق عاشق لغة القرآن
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
لقد كتب الأستاذ محمد الصالح الصديق كثيرا عن اللغة العربية، وبيّن دورها في تأسيس الثقافة والحضارة الإسلامية في القرون الخالية، وعبّر بصراحة في عدة مؤلفاته عن تفاؤله – الذي ليس له نظير- في مستقبلها الزاهر رغم وجود عدة مؤشرات تقول عكس ذلك، مستأنسا دائما بأقوال وآراء العلماء والأدباء العرب والمسلمين وغيرهم. كيف بدأت علاقته باللغة العربية؟ ما هي نظرته إلى هذه اللغة؟ ما هو موقفه من تعلم اللغات الأخرى؟
كل هذه الأسئلة وغيرها أجيب عنها من خلال سياحة قصيرة في كتابه “العربية لغة العلم والحضارة” الصادر في عام 2009 عن ديوان المطبوعات الجامعية. بداياته مع لغة القرآن هل يمكن أن يقدم الأستاذ محمد الصالح الصديق على تأليف أكثر من مائة كتاب باللغة العربية إلا إذا كان مدفوعا من عشقه لهذه اللغة التي أحبها منذ نعومة أظافره وهو ينشأ في بيئة عائلية متمسكة بالقيم الإسلامية؟ شرح الأستاذ الصديق بالتفصيل هذه العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بالعربية، مبيّنا قصته معها التي بدأت مبكرا، وهو مازال طفلا صغيرا، فقال: “لقد أحببت اللغة العربية منذ طفولتي إلى حد العشق والهيام، وكان والدي –رحمه الله- يحدثني بالفصحى، ويشجعني على التحدث بها، وربما كافأني على جمل أكتبها، أو أنطق بها صحيحة سليمة.” كما شجّعه معلموه وأساتذته على التحصيل اللغوي خاصة شيخه العالم الرزقي الشرفاوي العائد من مصر بعد سنوات عديدة التي أمضاها في جامع الأزهر طالبا ثم مدرّسا. في هذا المناخ الذي يسوده حب الإسلام والعربية، واظب محمد الصالح على تعلم اللغة وعلومها حتى أتقنها، ثم اقتحم مختارا التأليف بحروفها مخاطرا لا يأبه بالسلطة الاستعمارية التي كانت تحارب الحرف العربي في الجزائر، وتضايق كل من يروّج للثقافة العربية وينشر أنوارها بين الناس. وعلى غير عادة الأمازيغيين الذين يميلون في أحاديثهم الخاصة إلى استعمال اللغة الأمازيغية لأسباب نفسية ووجدانية فإن الأستاذ الصديق كان يتكلم في مجلسه بالعربية الفصحى. وأشهد أنه كان دائما يحدثني في لقاءاتي معه بالعربية الفصحى رغم علمه أنني أتقن الأمازيغية؛ كما سافرت معه إلى طرابلس في شهر أفريل 2013 وكدنا لا نفترق خلال أسبوع كامل، فلم يحدثني خلاله إلا باللغة العربية الفصحى.
بين أوراق كتاب ” العربية لغة العلم والحضارة”لقد اختار الأستاذ محمد الصالح الصديق أن يصدر كتابه ” العربية لغة العلم والحضارة” في دار نشر تابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وهي: ديوان المطبوعات الجامعية. إنه بلا شك قصد منذ البداية إرشاد الطلبة إلى حب لغة أجدادهم والاجتهاد في تعلمها وإتقانها، وحث الأساتذة على إبراز أهمية اللغة في بناء الشخصية وتأسيس النهضة، وكذلك دعوة الباحثين إلى تفعيل البحث العلمي لتطويرها، وترقيتها إلى مستوى التحديات الراهنة.
يقع هذا الكتاب في 260 صفحة، وهو مقسم إلى فصلين: الأول حول اللغة، والثاني حول الحضارة. وهو تقسيم متساو تقريبا. فالفصل الأول يتضمن 117 صفحة، بينما يحتوي الفصل الثاني على100 صفحة. بينما يقدر عدد المراجع التي استفاد منها المؤلف 64 كتابا و4 مجلات، بالإضافة إلى 3 مقالات وضعها في شكل ملاحق، وهي: لمحمد البشير الإبراهيمي، ومحمد المبارك وفهمي هويدي. ويختلف الاقتباس بين الإطالة والقصر حسب أهمية الموضوع وحسب الحاجة إلى توضيح مسألة أو تأكيد رأي معين. عرّف الكاتب اللغة وتتبع أصولها ووضّح خصائصها. ولم يترك شيئا مفيدا في الموضوع إلا وذكره بإسهاب أو باختصار، فعلى سبيل المثال خصص للفواصل في اللغة العربية سبع صفحات متتالية، ذكر فيها كل ما أبدعه العقل العربي في معنى الفاصلة ووظائفها المختلفة. أما التمكن في ناصية اللغة وأسرارها فإنها تكون في نظر الأستاذ الصديق بـ ” الرياضة الفكرية واللسانية” أي ترويض الإنسان نفسه على التفكير العميق، والحرص على التعبير الدقيق والدأب على الكتابة السليمة. وحرص المؤلف على إبراز ما قدمه القرآن الكريم لهذه اللغة التي أنزل بها، وأقر ببيانها المبين. ونظرا لأهمية هذا الموضوع ولمتانة العلاقة بينهما، أعاد المؤلف الحديث عن علاقة اللغة بالقرآن في الفصل الثاني. بينما تحدث عن ذلك في الفصل الأول. والدين الإسلامي لا يعادي العلم ولم يحاربه كما حصل في أوروبا في العصور الوسطى. بل الإسلام هو دين علم ومعرفة ويغذي غريزة الاكتشاف سمحت للعقل المسلم أن يبدع في كل المجالات العلمية باللغة العربية التي كانت لسان كل اختراع واكتشاف. فتبرير العربية غير قادرة على الاستجابة مع التطور العلمي الراهن- كما نسمع عنه اليوم- لم يبنى على أساس معرفي بل تم على أساس أيديولوجي أو عرقي أو جاهلي، والغرض منه هو التشويه والحط منها. والخلل يمكن في نظره ليس في اللغة العربية في حد ذاتها وإنما في عجز الإنسان العربي الذي أتخذ لسانه المبين مهجورا. (99).
يغذي الأستاذ الصديق نصوصه أيضا بأحاديث نبوية شريفة، وجواهر الأدب العربي نثرا وشعرا، ودرر الأدب الغربي نثرا وشعرا، ليدعم في كل مرة فكرة أو رأي، بل يؤكد مرارا في مفردات وجمل آراءه بشكل قطعي، مثل هذه العبارات: ” والحقيقة الثابتة التي لا تحتاج إلى مناقشة أو محاورة أو مناظرة”، ” إنه من القضايا البديهية”، ” كما أنه من القضايا المسلمة”. وكثيرا ما استنجد المؤلف بذكرياته وتجاربه الشخصية في سياق الاستدلال والاستلهام، ففي حديثه عن إسهامات العرب في مجال الهندسة، نقل المؤلف على سبيل المثال انطباعاته من زياراته لمتحف في موسكو عرضت فيه انجازات المسلمين في الرياضيات.
لقد عرض الأستاذ محمد الصالح الصديق أفكاره ومعلوماته بلغة سليمة جميلة كعادته، مستفيدا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم وأشعار بالإضافة إلى قصص طريفة من وحي المطالعة أو من تجاربه في الحياة. لا شك أن القارئ يشعر وهو يقرأ هذا الكتاب النفيس أن الكاتب مشفق عليه فيقدم له أكبر قدر من المعلومات حول الموضوع حتى لا يظمأ بعده، ولا يرهق من أجل الظفر بالمعلومة التي ربما لا يجدها رغم بذل جهده وإصراره في البحث على الوصول إليها. لا يكتف كاتبنا بإرشاد القارئ بالمداومة على المطالعة، بل يحثه على التأليف رغم صعوبة نيل درجتها العليا التي تستدعي استعدادات وقدرات. فهو يرى أن الكاتب أو الشاعر هو هبة من الله الذي يرزق الإنسان مواهب ومؤهلات التي تكبر باستمرار إذا واظب صاحبها على القراءة النافعة والكتابة دون ملل والتفكير السليم. وثمة نقطة هامة ينبغي الالتفات إليها وهي غياب الرأي المعادي للغة العربية في هذا الكتاب، كأنصار العامية أو الفرانكفونية. إنها قضية مقدسة عند الشيخ الصديق وغيره من رجال الحركة الوطنية والإصلاح الذين كانوا صارمين في هذه المسألة لأنها كانت جزء من المقومات التي إذا تساهل فيها المرء أصيبت الأمة في عمقها، واستسلمت للغزو الاستعماري في مجالاته المختلفة، وخاصة مجاله الثقافي. ويخطئ من يعتقد أن النهضة تتحقق عن طريق إهمال لغة الأم واستبدالها باللغة الوافدة؛ فالعلاقة التي تربط بين اللسان وحركة الإنسان في طريق التحضر يجب أن تكون دائما وثيقة.
هل كان الشيخ الصديق متطرفا في الدفاع عن العربية؟ لا شك أن العربية تعتبر في نظر المؤلف ” أفضل اللغات وأشرفها على الإطلاق” غير أن عشقه لهذه اللغة لا يعني أبدا أنه متعصب لها تعصبا أعمى. ربما يكفي أن استشهد هنا بقصة ذكرها هو بنفسه في كتاب “العربية لغة العلم والحضارة” يدعو فيها غيره إلى مخاطبة الناس على قدر عقولهم، فقال: ” وأذكر هنا أن لي صديقا درسنا معا في جامع الزيتونة، وجمعتنا ثورتنا التحريرية في الميدانين: العسكري والسياسي. وكانت عروة المودة بيننا وثيقة، ولكني أنكر عليه سلوكا، ربما تكدر الصفو بيننا بسببه، ذلك أنه يقف أمام متجر للمواد الغذائية، أو أمام بقال فيحدثه بالعربية الفصحى، وأحيانا يبالغ في تقعره فيجمع له ألفاظا من قاموس الجاهلية، فيخاطبه بها، مما يثير حفيظة صاحب المتجر فيعرض عنه لا يبيع له. وكنت أعاتبه على ذلك، وأحيانا أؤنبه، وأقول له: ” خاطب الناس بما يفهمون”. ولكنه اعتاد ذلك فلم يكن عتابي يجديه نفعا.” وما هو موقفه من دراسة اللغات الأخرى؟ إنه يقول في هذا الكتاب أنه من أنصار تعلم اللغات الأجنبية لأن ذلك لا يتعارض مع تعلم المرء للغته الأم، بل تساعده على نشر ثقافته واكتشاف عوالم جديدة: ” إجادة المرء للغته الوطنية أمر ضروري، إذ لا يتحقق وجوده المعنوي إلا بها، وهو بها فرد واحد، ولكنه إذا تعلم لغة أخرى وأضافها إلى لغته فإنه يصبح بها شخصين اثنين!” وتأسف الأستاذ الصديق على عدم تعلمه اللغات الأجنبية، فقال: ” وما اجتمعت بأجنبي يبحث عن حقيقة الإسلام وحاورني فيه بواسطة مترجم إلا أدركت ضرورة تعلم ما أمكن من اللغات الأجنبية.” ولا بأس أن أختم هذه الفكرة بسرد قصة طريفة وقعت للمؤلف تؤكد مرة أخرى كلامه السابق وتدعمه، كما تشرح خلفيات قناعته بضرورة تعلم لغات أجنبية خاصة بالنسبة للعلماء والدعاة: ” إنني ذات يوم كنت أتحدث بواسطة مترجم إلى صحافي فرنسي عن الإسلام، وكنت أقدم له صورا رائعة عن مواقف بعض الصحابة، ولكنه كان لا يتأثر ولا يبدي أي حراك. وفي جلسة ثانية تغيّر المترجم، فتغير الصحافي فكان يطرب لصور ومواقف دون التي كنت أقدمها له في الجلسة الأولى، فأدركت إذ ذاك أن العلة في المترجم، وأن أفضل السبل أن يتعلم المرء ما أمكن من اللغات الأجنبية.”
وبهذا فإني أقول في النهاية أن الشيخ الصديق المغرم بلغة القرآن، قد استطاع أن يغرس حب العربية في قلوب القراء الذين كانوا يسافرون معه في رحلة ممتعة عبر الأوراق المصفوفة والكلمات العذبة والمشاهد الجميلة. نعم لقد نجح في ذلك لأنه يتمثل دائما القارئ شخصا مألوفا جالسا بجنبه، وليس إنسانا مجهولا يعيش بعيدا عن الأنظار، وغريبا لا يفقه شيئا في لغة الحروف وسيمفونية الأفكار.