الفيلسوف المفكر مالك بن نبي ..
بقلم: بشير خلف-
إن أفكار مالك بن نبي لم تمت، ولا أحسب أنها ستختفي ضمن زوايا التاريخ، وحتّى وإن لم يقيض لها من يتبنّاها في مرحلتنا هذه، فإنها تأكيدا سيأتي منْ يدافع عنها ويعمل على بلورتها عمليا وفق مرحلة تطبيقها.
في اعتقادي الشخصي، أن كاتبا ومفكرا وفيلسوفا إسلاميّا في مرتبة مالك بن نبي في زمنه، وحتى بعده أحقّ بأن ليس فحسب تُدرس كتاباته، وتفهم آراؤه، وتحلل أفكاره، وتتخذ مسلكا في البناء الحضاري الشامل..بل أن تُوجد نخبٌ في العالم الإسلامي تدافع عنها وتسعى مخلصة من أجل تنفيذها. لقد مضى على رحيله ما ينيف عن الربع قرن، غير أن كتاباته لا تزال تحمل في طيّاتها نبض المشكلة الإسلامية التي هي بمثابة أمراض تفشّت، ومظاهر سلبية، وسلوكات منحرفة تأصلت فيه.. يراها المفكر مالك بن نبي في عناصر قيّدت الإنسان المسلم ولا تزال منها :
1ـ التسامي المتدين.
2 ـ التعالم .
3 ـ اللا فعالية .
4 ـ الانفصالية.
5 ـ ذهان السهولة.
6 ـ ذهان الاستحالة.
7 ـ التكديس.
8 ـ الحَرفية (من الحَرْف).
9 ـ اللفظية.
10 ـ الفخر والمديح.(1)
إن هذه الأمراض لا يسمح المجال بالتوغّل فيها تباعًا، إلاّ أنها لا تزال تسود أفكارنا وسلوكاتنا في حيواتنا، وإنها لعمري ما تغيّرت منذ أن كان هذا المفكر بين ظهرانيّنا ولا أظنها ستتغيّر ونحن على ما نحن عليه من الذلّ والهوان، و( القابلية للاستعمار) بالمفهوم المعاصر للاستعمار.
مشكلات الحضارة.. الإطار العام
وإذا اعتبرنا الإطار العام لفكر مالك بن نبي هو " مسألة الحضارة " فإنه عنْـون جميع مؤلفاته تحت شعار كبير هو" مشكلات الحضارة" حيث الصراع الدائر في العالم صراع حضارات بالدرجة الأولى، فالأمم صارت تُقاس بمدى نجاحها،وتفوّقها في مختلف المجالات، لا بمدى استهلاكها لمنتجات غيرها، وهذا هو واقع العالم الإسلامي اليوم سيّما الأمة العربية وهو ما يطلق عليه مفكرنا بـ(التكديس).
إن تلكم الأمراض التي ذكرناها آنفًا والتي لا تزال متفشية بنسبٍ كبيرة وبدرجات متفاوتة في عالمنا الإسلامي لا تسمح البتّة للإنسان المسلم كي يتحرّر، وينطلق مساهما وبفعالية في ولوج الفعل الحضاري منتجا، وليس مستهلكًا، ولا أعتقد أن الإنسان المسلم يجهل أسباب الإقلاع، إنما هو اللافعالية، وذهان السهولة، وذهان الاستحالة،والتكديس، واللفظية هي من أسباب السقوط، والعجز عن الإقلاع.
إن الأسئلة الثلاث التي طرحتموها أستاذي الفاضل لمهمّة، وشخصيا أرى أن الفشل لا يعود إلى الأفكار في حدّ ذاتها بقدر ما يعود إلى :
1ـ البيئة السياسية والاجتماعية، وحتى ( المجتمعية) وأقصد المجتمع الجزائري ما كانت مهيّأة لمثل هذه الأفكار، فما بالك بتطبيقها.
2ـ النخب التي تولّت التسيير والقيادة في جزائر ما بعد الاستقلال نُخبٌ مفرنسة، ومستلبة فكريا وأصلاً هي معادية لكل ما هو إسلامي، تمفصلها في كل دواليب الدولة سمح لها بإحباط كل مسعى يصبّ في هذا الاتجاه.
3ـ إن الإيديولوجية الاشتراكية التي تبنّتها البلاد، والكثير من النخب سيّما السياسية منها كانت ترى أن كل فكرة، أو رأي يتفق مع أفكار مالك بن نبي، أو غيره، أو يُشتمّ منها رائحة روحانية لهي في رأيهم " إسلاموية " وتعادي الثورات الثلاث التي كان شعارها مطروحًا يومذاك.
4ـ إن مفكرنا الكبير كان مُحارَبًا ومضايَقًا ممّا لم يُسمح له بأخذ مكانته في الجامعة الجزائرية بعد الاستقلال، كأستاذ مؤثر تتلمذ عليه الكثير من الطلاب الذين سيأخذون أماكن حسّاسة فيما بعد ضمْن دواليب الدولة حتى يتمكّنوا من تجسيد أفكاره عمليا، فأغلب تلاميذه هم الذين كانوا يحضرون ندواته طوْعًا خارج الجامعة.
5ـ والغريب أن الذين يدافعون عن أفكاره منذ أن كان على قيد الحياة، وحتى بعد رحيله سواء أكانوا في الجزائر أم خارجها لم يتمكّنوا من تولّي مناصب حسّاسة بإمكانها تنفيذ ولو القليل من هذه الأفكار، إلاّ حزبًا واحدا عندنا في الجزائر برز أثناء التعددية الحزبية في أوائل التسعينيات كانت أفكار مالك بن نبي تتغلغل في برنامجه الثقافي أثناء الاستحقاقات الانتخابية، وبرزت أكثر أثناء ترشّح رئيسه للانتخابات الرئاسية، وسرعان ما غيّبت بغياب هذا الحزب من الساحة الوطنية.
6ـ غياب النخب الثقافية العقلانية النقدية التي تؤمن بالرسالة التنويرية التي توازن بين المادة والروح، وتعطي الأولوية للجانب الروحي كمحفّز، وكـمُلهمٍ ..حيث هذه النخب غير متواجدة في المواقع الاستراتيجية، واتخاذ القرار السياسي العملي في الميدان..فالموانع التي أعاقت المفكر مالك بن نبي في حياته هي نفس الموانع التي وقفت في وجه المفكر والمثقف العربي في الجزائر حيث أُبعد وأبقي عليه إلاّ فيما لا يشكل خطرا عل النخب المستلبة، والتي بيديها كل شيء ..ولا نعدم البتّة تواجد بعض النخب في مواقع مهمّة إلاّ أنها دُجّنت، أو دجّنت نفسها بفعل مغريات المنصب، وبريق الامتيازات، فآثرت السكينة، و" يا جبل ما يهزّك ريح".
الفشل ليس في الأفكار..إنما…
في الحقيقة وبناء على ما تقدم فإن الفشل في إحداث التغيير لا يعود إلى الأفكار في حد ذاتها إنما يعود إلى أسبابٍ بعضها مذكور آنفًا وبدرجة كبيرة، وبعضها يعود إلى عوامل إقليمية وعالمية هي بالمرصاد دوما لكل مشروع إسلامي عقلاني، حضاري..
إن مشروع ابن نبي يجد صعوبة تطبيقه توًّا في خذلان الإنسان المسلم الذي استكان، وسلّم أمر قيادته لقوّى تكالبت على العالم الإسلامي، وصارت تستهدفه، بمبرّر وغير مبرّر، إذ كل ما يرمز إلى الإسلام هو حرْبٌ وإرهابٌ ضدّ الآخر هذا من ناحية، كما أن أفكار مالك بن نبي في قرارة نفسي لا تزال صالحة لبعث وثبة حضارية إذا ما راعت المستجدات المحلّية، والإقليمية والعالمية، وإذا ما قُيّض لها رجال يؤمنون بها، وبفعالياتها، ويتمفصلون في مواقع القرار المؤثر..وما عدا ذلك فهي صرخات في وادٍ، لا تسمن ولا تغني من جوع.
وفي كل الحالات فإن مالك بن نبي المفكر والفيلسوف يبقى مفخرة للجزائر والعالم الإسلامي، مثلما هو العلامة ابن خلدون، وأفضل ما ننهي به مداخلتنا هذه ما قاله فيه المرحوم الأستاذ أنور الجندي في كتابه : (الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا): {مالك بن نبي يختلف كثيرا عن الدعّاة المفكرين، والكُتّاب، فهو فيلسوفٌ أصيلٌ له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب، وفكرهم المستمد من القرآن والسنّة والفلسفة، والتراث العربي الإسلامي الضخم، وبين علم الغرب وفكرهم المستمدّ من تراث اليونان، والرومان، والمسيحية.}.»(2)
مالك بن نبي..في بورتريه
مالك الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي, مفكر إسلامي, وفيلسوف اجتماعي, وأحد أعلام الفكر المعاصر في الجزائر، وفي منطقة شمال أفريقيا والعالم العربي, اهتم بمشكلات الحضارة وأصولها، وعوامل نشأتها وانحلالها, وبالصراع الفكري الإيديولوجي في البلاد المستعمرة, وقد عاصر حينها حركة الإصلاح التي قادها آنذاك الأفغاني، و محمد عبده، و الكواكبي، وأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وطنه مثل ابن باديس والإبراهيمي والعربي التبسي , ورغم تفاعله الكامل مع الحركة إلا أنه كان دائماً يحتفظ بحياده العلمي، وفكره المتميز الذي كان يدعوه إلى نقد أعمال الإصلاحيين أحياناً, وقد كان من أهم اهتماماته كشف وسائل الاحتلال في إخضاع الشعب وتخدير العقول ومسخ الهوية, والاجتهاد في وضع الوسائل الناجعة للمقاومة الفكرية، والتي كانت تغيب على علماء الشريعة بحكم تكوينهم التقليدي, وقد وضع لذلك كتاباً عن الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة لفضح تلك الوسائل.
ولد مالك بن نبي في أول جانفي من عام 1905 في قسنطينة في شرق الجزائر وكانت مراحل دراسته الابتدائية والثانوية بين مدينتي (تِبِسّة) و(قسنطينة). سافر عام 1925 إلى مرسيليا وليون وباريس بحثاً عن عمل ولكن دون جدوى، فعاد إلى الجزائر حيث عمل في تِبسَّة مساعد كاتب في المحكمة. وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع أيام الاستعمار مما ساعد على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد.
وفي عام 1928 تعرّف مالك بن نبي على الشيخ عبد الحميد بن باديس (1887- 1940م)، وعرف قيمته الإصلاحية. ثم سافر مرّة ثانية إلى فرنسا عام 1930، حيث سعى للدخول إلى معهد الدراسات الشرقية، ولكنه لم ينجح في الدخول، وسُمح له بدخول معهد اللاسلكي وتخرّج فيه مهندساً كهربائياً. بقي في باريس من عام 1939 إلى 1956، ثم ذهب إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من هناك. انتقل إلى الجزائر عام 1963 – بعد الاستقلال – حيث عيّن مديراً للتعليم العالي، ولكنه استقال من منصبه عام 1967 وانقطع للعمل الفكري، وتنظيم ندوات فكرية كان يحضرها الطلبة من مختلف المشارب كانت النواة لملتقى الفكر الإسلامي الذي يُعقد كل عام في الجزائر. وظل مالك بن نبي يُنير الطريق أمام العالم الإسلامي بفكره إلى أن توفى في 31 أكتوبر عام 1973.(3)
مؤلفات مالك بن نبي المطبوعة
إن من أهم مؤلفات الأستاذ مالك بن نبي التي تم طبعها في الجزائر وبعض الدول الأوروبية، والعربية هي كالتالي:
1- الظاهرة القرآنية : و ظهر سنة 1365 هـ / 1946 م في الجزائر .
2- لبيك ( رواية ) : ظهرت سنة 1366 هـ / 1947 م في الجزائر .
3- شروط النهضة : ظهر سنة 1367 هـ / 1948 م في الجزائر .
4- وجهة العالم الإسلامي : ظهر في سنة 1373 هـ / 1954 م في باريس .
5- فكرة الإفريقية الآسيوية : ظهر سنة 1375 هـ / 1956 م في القاهرة .
6- النجدة … الشعب الجزائري يباد : ظهر سنة 1376 هـ /1957 م في القاهرة .
7- حديث في البناء الجديد : ظهر سنة 1379 هـ / 1960م في بيروت .
8- مشكلة الثقافة : ظهر في سنة 1378هـ / 1959م في القاهرة .
9- الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : ظهر سنة 1379هـ / 1960 م في القاهرة
10- الصعوبات – علاقة النمو في المجتمع العربي – ظهر سنة 1379هـ / 1960م في القاهرة .
11- الإستعمار يلجأ إلى الإغتيال بوسائل العلم: ظهر سنة 1379هـ / 1960 في القاهرة
12- فكرة كمنويلث إسلامي :ظهر سنة 1379هـ / 1960 في القاهرة .
13- تأملات في المجتمع العربي : ظهر سنة 1380 هـ / 1961 م في القاهرة .
14- في مهب المعركة : ظهر في سنة 1380 هـ / 1961م في القاهرة .
15- ميلاد مجتمع : ظهر سنة 1381 هـ / 1962م في القاهرة .
16- آفاق جزائرية : ظهر سنة 1383 هـ / 1964 م .
17- مذكرات شاهد القرن ( القسم الأول ) : ظهر سنة 1384 هـ / 1965 م بالجزائر.
18- إنتاج المستشرقين و أثره في الفكر الإسلامي الحديث : ظهر سنة 1389 هـ / 1969 م في القاهرة
19- مذكرات شاهد القرن ( القسم الثاني – الطالب ) : ظهر سنة 1390 هـ / 1970 م في بيروت .
20- مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي : ظهر سنة 1391 هـ / 1972 م في القاهرة .
21- المسلم في عالم الإقتصاد : ظهر في سنة 1392 هـ / 1972م في بيروت .
22- دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين: ظهر سنة1397 هـ/ 1997م في بيروت
23- بين الرشاد و التيه : ظهر سنة 1398 هـ / 1978م في طرابلس .
24- مجالس دمشق ( مجموعة محاضرات باللغة العربية )(4)
خلاصة فكر ابن نبي
إن مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ قدم الجديد من الناحية المنهجية، فتوجه نحْو دراسة الذات، ودراسة الخارج، وحلّل أسباب قيام الحضارات، وأسباب سقوطها، وحاول أن يقدم معادلة بناء الحضارة انطلاقًا من معالجة الداء في جوهره، لا الانشغال بالأعراض والمظاهر، وبيّن أن شروط النهضة متوافرة والحمد لله، وعناصر البناء الحضاري موجودة؛ ولا سيّما : الوقت والتراب، فعلينا إيجاد تربية الإنسان على أساس قرآني روحي الذي يمزج بين الإنسان والتراب، والوقت؛ وعندئذ تتحقق الخطوة الأولى في الإقلاع الحضاري وهي حصانة الذات من القابلية للاستعمار.(5)
إن الوصفات العلاجية التي قدمها مالك بن نبي من خلال إنتاجه الغزير ما تزال تحتفظ بقيمتها وحيويتها ..إنها لفي حاجة إلى الإنسان المسلم القوي الذي يتبنّاها، ويعمل على بلورتها عمليا بواسطة إقلاعٍ نهضوي شامل، اعتمادا على الله أوّلا، وعلى الإمكانات الذاتية ثانيا، ذلك أن الأمة التي يشغل بالها أن تنهض يجب أن تترجم ذلك إلى إرادة، وعزْمٍ، وتنفيذٍ بنّاء على أساس مخطط علمي وتقني مدروس يترجم اختيارها الذي آمنت به، واستقرّت عليه.
هوامش
1 ـ أ.بهجت. مقتطفات من فكر مالك بن نبي/ صحيفة العالم السياسي الجزائرية.الخميس 30 أكتوبر 1997 .
2 ـ أ.أنور الجندي./ الفكر والثقافة المعاصرة في شمال أفريقيا. الدار القومية للطباعة والنشر -القاهرة : 1965م
3 ـ منتدى طلبة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.
4 ـ موقع مالك بن نبي.
5 ـ د.محمد البنعيادي. مالك بن نبي في ذاكرة عبد السلام الهراس.كتاب المجلة العربية .ص38 العدد:395 ديسمبر2009