صدق الشعور
بقلم: الشيخ أحمد سحنون-
لقيني أخي السعيد البيباني بقسنطينة في هذه المناسبة الطيبة ''مناسبة تدشين دار الطلبة'' ومعه طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، ولما سألته أهو ابنه؟ قال: نعم هذا ابني عبد الحميد(**) طلب إلي أن يصحبني إلى حفلة التدشين ليحظى بسماع صوت الرئيس البشير الابراهيمي لأنه كان قد سمعني اتحدث بأن حديثاً خاصاً بهذه المناسبة قد سجل للأستاذ الرئيس في القاهرة لتسمعه الجماهير الوافدة لشهود الحفلة .
إن هذا الخبر شاهد على صدق الشعور الذي انبث في هذه الأمة وتغلغل في أفرادها حتى نبضت به قلوب صبيانها وأعربت عنه ألسنتها .
إن الأطفال لا يعرفون المجاملة ولا يحسنون النفاق فكل ما نطق به ألسنتهم من هذا القبيل هو الصدق طبيعة وجبلة، وشاهد آخر رآه الناس في يوم قسنطينة العظيم ''يوم تدشين دار الطلبة'' إذ تجردت نساء تلمسان من حليهن وزينتهن لإعانة هذا المشروع عن رغبة صادقة في الخير وعن طيب خاطر وعن تفان في حب الاصلاح ورفع منزلة الوطن والنهوض بالأمة إلى مستواها الجديرة به بين الأمم.
أما ما قابل به أهل قسنطينة ضيوفهم الكرام من الحفاوة والاكرام والتقدير والاحترام، فحدث ولا حرج، وانك لتراهم يتسابقون إلى الضيوف ليفوز كل منهم بعدد كبير يشرف به منزلة طوال مدة اقامته، وانك لتسمع الذين ظفروا ببغيتهم من الحصول على عدد وافر من الضيوف يفاخرون الذين حرموا بغيتهم فلم يظفروا إلا بعدد قليل لا يروي غلتهم إلى البر وحب الخير، أو رجعوا خائبين لم يظفروا بكثير ولا قليل، وانك لتلمح على هذه الوجوه التي حرمت بغيتها آثار الخيبة والحرمان وتتبين فيها علائم الحزن والحسرة والألم ، وإنه ليطربني أن ارى شيوخ المعهد وأعضاء الجمعية في الطليعة يتقدمون الامة في هذه المبرة الخالدة زيادة على التنظيم والإعداد اللذين أنفذوا فيهما قواهم.
الحقيقة: أن هذه الأمة لم يخلق الله مثلها في الامم، وأن هذه المشاعر الكريمة والخصائص العظيمة التي وهبها الله هذه الأمة لم يهب مثلها أمة من الامم، وإن يوماً فيه هذه المشاعر وتتجلى فيه هذه الخصائص على اكملها لهو يوم يكثر فيه عويل من يتمنون زوالها ويتربصون بها دوائر السوء، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
فيا أيتها الأمة الكريمة على ربها، العظيمة في تاريخها، لا تحقري نفسك ولا تستصغري قدرك ، فإن الله جعلك خير أمة أخرجت للناس، وخصك بخير الأنبياء، وختم بكتابك هداية السماء، وقد طال منامك حتى ظن حمامك، فانفضى عنك غبار السنين وأزجرى عن أجفانك طائر الكرى، وانهضي لقيادة العالم من جديد فقد أوشك أن يلقى حمامه ويودع أيامه، إنه يترنح للسقوط، إنه مفكك الأوصال مهيض الجناحين، مستعبد لشهواته، إنه يصنع بيديه ما يقضي عليه، ويخرج مصنعه كل ما فيه مصرعه إنه يخرب بيته بيده، ويسعى إلى حتفه بظلفه، إنه عاد إلى شريعة الغاب والظفر والناب، وودع شريعة الأخلاق والآداب .
وانما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .
إن العالم اليوم تسيره الأيدي التي لا تؤمن بالله ، وهذا يكفي في سيره إلى الهاوية .
وأنت أنت أيتها الأمة المسلمة التي تنقذين العالم كما انقذته من قبل، وتنيرين له الطريق كما انارته أولاً .
إنه لا ينقصك للقيام بهذه المهمات إلا أداة واحدة ، وهي الأداة التي كانت في يدك يوم ائتمنتك السماء على هدايتها، هي أن تحملي مشعل هذه الهداية في يدك وتسيري في الطريق الذي رسمه لك حامل المشعل الأول صلى الله عليه وسلم .
ليس عليك إلا أن تلمي شعثك وتوحدي صفوفك وتضحي بنفسك ومالك لتربية ابنائك وتثقيفهم وإعدادهم للمسؤولية الكبرى ولليوم العظيم .
هذه هي الأداة التي كانت في يدك فصنعت بها العجائب وهي التي ستصنعين بها العجائب إن أردت ، والتي يصلح عليها أمر دنياك وأمر أخراك ، وإمام دار الهجرة مالك ابن أنس رضي الله عنه يقول: '' لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ''.
البصائر 4 ديسمبر 1953 - الصفحة 2 عدد 249 .
-*-الشيخ أحمد سحنون: الشاعر الأديب المعلم والإمام الخطيب من أعضاء جمعية العلماء الجزائريين من مواليد بسكرة 1907, وتوفي في 8 ديسمبر 2003 بالعاصمة .
-**-عبد الحميد بوتقجيرت إبن الشيخ سعيد البيباني: ولد بباتنة في 11 ماي 1948. إطار سام متقاعد من وزارة النقل .