محمد الغسيري.. الدبلوماسي الرحالة
بقلم: د. السبتي معلم-
الوفاء قليل في البشر، وأوفى الأوفياء من يوفي للأموات، لأن النسيان غالبا ما يباعد بين الأحياء وبين من هم في الدار الآخرة، فيهضمون حقوقهم ويجحدون فضائلهم ..بهذه العبارات بدأ الأستاذ الدبلوماسي محمد الغسيري خطابه في ذكرى وفاة رائد النهضة الراحل عبد الحميد بن باديس. لو فهمنا وفكرنا ووعينا معنى هذه الرسالة لنجحنا أيما نجاح، وفزنا فوزا نحسد عليه، لأن الوفاء ليس فقط ذلك الشعور الوجداني القوي وذلك السلوك الشجاع الذي يجعل الإنسان ملتزما في مواقفه، أو بعبارة أسهل يكون مستعدا للتضحية من أجل أن يفي بالوعد ويعطي الآخر حقه.
وسأختار هنا قصة السموأل التي تعبر عن الوفاء تعبيرا خالصا وصادقا، ولو لم تحدث هذه القصة لجزمت أن لا أحد قدّم ووصف الوفاء وصفا دقيقا وحقيقيا، وممتلئا بالتبصر مثلما فعل السموأل لامرئ القيس، والغسيري لابن باديس، و… لـ…. من وفاء السموأل أن امرئ القيس بن حجر الكندي لما أراد الخروج إلى الروم استودع لديه دروعا له فلما هلك امرؤ القيس، غزا ملك من ملوك الشام السموأل، فتحصن منه في حصنه، فأخذ الملك ابنا له خارج الحصن رهينة، وقال له:إما أن تفرج عن وديعة امرئ القيس، وإما أن أقتل ابنك ، فامتنع السموأل عن تسليم الوديعة فذبح الملك ابنه، وهو ينظر إليه ثم انصرف، فأوفى السموأل بالدروع فدفعها إلى ورثة امرئ القيس.
أنا في هذا المقال وفي هذا المقام لا أريد معالجة ولا طرح إشكالية فهم الوفاء، ولا أريد أن أناقش مفهومه بقدر ما أريد أن أكون-ولو بقسط صغير- وفيا لدين من سبقونا وعلّمونا، بذلوا من أجلنا ومن أجل هذا الوطن تضحيات جسام.
من بين هؤلاء الأسماء تلك التي كتبت عليها ولا زلت، أردت اليوم أن أتذكر اسم محمد يكن الغسيري، الدبلوماسي الرحالة الجزائري الذي استطاع أن يطبع اسمه بقوة في أوساط التشكيلة الدبلوماسية العربية والدولية..إنه حامل لجذور متفرعة من ثقافات وحضارات عريقة متعاقبة، أمازيغية، إسلامية، عربية وإفريقية..
ولد الشيخ محمد يكن الغسيري حوالي سنة 1915، بغسيرة، دائرة أريس ولاية باتنة، التحق بزاوية الشيخ أحمد بن الصادق بأولاد ميمون سنة 1925، حيث أتم حفظ القرآن سنة 1927، قبل أن يلتحق بالمدرسة الابتدائية العربية الحرة التي أسسها نخبة من الجزائريين أسموها مدرسة الإخاء بمدينة بسكرة، ومن ثم انتظم إلى سلك ابن باديس بقسنطينة ما بين سنة 1930 إلى سنة 1934، حيث التقى ابن باديس الذي يبدو أنه كان أول من اكتشف نبوغه وذكاءه، وكان جد فخور به- وتلقى معظم دروسه على يديه.
تأثر الغسيري كثيرا بمعلمه ابن باديس، فأخذ منه العلم والمعرفة والأخلاق والإخلاص والصدق والوفاء، ولم يكد ينهي دراسته في الجامع الأخضر بقسنطينة سنة 1935 و1936، حتى التحق بالزيتونة ثم ألأزهر، إلا أن الشيخ رأى أن يبقيه في أسرة التعليم لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين للاستفادة من ثقافته الشاسعة وعلمه الغزير، وهكذا عيّن في الجمعية في مدرسة باتنة سنة 1937، لم يمكث هناك طويلا إذ عاد إلى قسنطينة حيث مارس التدريس مع الأساتذة محمد العابد الجحلالي، عبد الحفيظ بن صال، السعيد حافظ والطيب الدراجي وغيرهم، وكان يدرّس عددا كبيرا من المواد للطلبة والطالبات من قبيل النحو والصرف وفقه العبادات، والسيرة النبوية…إلخ. وكان الوحيد الذي ينوب عن الشيخ بن باديس في حال غيابه عن التدريس بالجامع الأخضر، لأنه لم يكن تلميذا عاديا من تلامذة العلامة فحسب بل كان أخلصهم واقربهم إليه.
انخرط الغسيري في أوائل أربعينيات القرن الماضي في الكشافة الإسلامية، وكان مرشدا لفوج الإقبال بقسنطينة لعدة سنوات، وبعد استشهاد محمد بوراس، مؤسس الكشافة الإسلامية، انقسمت الحركة إلى قسمين تنظيميين، حيث أصبح محمد يكن الغسيري مرشدا عاما وعضوا فعالا في قيادتها العامة بالعاصمة، وفي هذا الصدد تجر بنا الإشارة إلى النصوص العديدة التي كتبها لفائدة الكشافة الإسلامية الجزائرية منها التقرير الديني والأخلاقي للكشاف سنة 1943، وكذلك لائحة المرشدين المقدمة للقيادة العامة في مخيم تلمسان سنة 1944.
بعد أحداث 8 ماي 1945 بأسبوع، تم اعتقاله، واودع السجن المدني بقسنطينة في 16 ماي 1945، ثم نقل إلى سجن الحراش بالجزائر العاصمة ومنه إلى معتقل جنان بوزق بين بشار وعين الصفراء قبل أن ينقل إلى معتقل المشرية، وقد نال منه التعذيب -حينها- ما لم ينله من أحد، إلى غاية صدور العفو بحقه، لكنه وضع رهن الإقامة الجبرية بـ فيلا لارد ، ولم يطلق سراحه إلا في 27 مارس 1946.
وبعد عودته إلى قسنطينة تم تعيينه كنائب في لجنة التعليم العليا التابعة -طبعا- لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفي ذات السنة أوكلت إليه عدة مهام منها مفتش عام لجميع مدارس الجمعية على مستوى الوطن، وأدى هذه المهمة بكفاءة عالية واقتدار باعتراف الجميع، إلى غاية سنة 1949، وهي السنة التي عيّن فيها مندوبا خاصا لزيارة الطلبة الجزائريين وتفقد أحوالهم في تونس ومصر.
في سنة 1951 قاد وفدا هاما من الكشافة الإسلامية إلى فرنسا، ومنها انتقل إلى النمسا حيث حضر المؤتمر العالمي للكشاف، وما إن عاد إلى الجزائر حتى كلف بمهمة زيارة المسؤولين السياسيين عن حزب الاستقلال المغربي في بلادهم.
جدير بالملاحظة هنا أن نشاط الغسيري لم يكن مقتصرا على العمل الإداري والتعليمي والتربوي فحسب بل تعداه إلى العمل السياسي والنضالي.
في سنة 1953 ترأس وفد الكشافة الإسلامية الجزائرية الذي كان متوجها إلى مصر لحضور إحياء الذكرى الأولى لثورة يوليو 1952، استجابة لدعوة من الكشافة المصرية، وهناك التقى بالقائد عبد الكريم الخطابي وتعرف عليه، وبعدها سافر إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج رفقة الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الفضيل الورتلاني، وبعد انتهائه من مناسك الحج، زار سوريا ولبنان حيث تعرف على رجال الفكر والثقافة وعلماء الدين، وبعد عودته إلى الوطن دوّن رحلته في جريدة البصائر في سلسلة مقالات من 19 حلقة تحت عنوان عدت من الشرق تميزت هذه المقالات بالكتابة الأصيلة، والموهبة المعبرة والروح الجمالية..في هذه السلسلة جمع ملاحظاته وانطباعاته ومشاعره ومواقفه حول أحوال أهالي المواطن العربية التي زارها بدءا من تونس إلى لبنان مرورا بليبيا، مصر السعودية، العراق، الأردن وسوريا، تأثر كثيرا بالصور الجميلة التي رآها هناك عن المساجد والمؤسسات الثقافية، والإنسان المسلم المثقف المخلص لوطنه، كما تألم للجوانب السلبية من دمار خلقي وجهل خلّفه الاستعمار وحروبه على الأراضي العربية المسلمة، كما تألم كثيرا وضاق ذرعا من مظاهر التخلف والخمول والانحراف لدى بعض شباب وشابات الدول العربية، ولم يفوت أي سلبية وقف عليها إلا ونبه إليها وقدم النصيحة لتجاوزها، كما كان كلما رأى إيجابيات كتب عنها بابتهاج وثُنى عليها وشكر وشجع أصحابها متمنيا مستقبلا أسعد وأفضل.
وكان الغسيري رحمة الله عليه- يعلم علم اليقين بأن قطاع التربية والتعليم في الجزائر -آنذاك- يمر بأزمة خانقة لا مثيل لها، كان يراها كمن يسير في نفق مظلم وطويل، أردا أن يبشر بضوء ولو ضئيل ليتمكن البعض من الخروج من هذا النفق، وأن يضيئوا بدورهم الطريق لمن يلونهم، وهكذا دواليك..هذه هي فلسفته، لذا نجده في قلب مواقع الأحداث من التعليم والتربية إلى الدين والفقه، من السياسة والنضال إلى الكشافة والصحافة..كان كثير التنقل والسفر من أجل التعلم والتعليم والتعريف بالقضية الجزائر في العالم.. جميع مساعيه ومبادراته تستحق اليوم التنويه والتقدير والعرفان، لأنها مساهمة فريدة ومنيرة في جميع النواحي، يقول الرفاعي رحمه الله-:إذا لم تزد شيئا على الدنيا، كنت زائدا عليها .
في جويلية 1953 كتب الغسيري مقالا في جريدة المنار المصرية تحت عنوان نهضة الأمم ، قال فيه لقد بان واتضح أن الأمم تصاب بأمراض كالأفراد يتصدع هيكلها، وينخرم عزمها وتتهدم بها جدران مقوماتها وأكثر هذه واعظمها الجمود الفكري…و لا يتوقف المرض عند هذا الحد بل يتعدى إلى أن يعدي جوار العقل في الإفراط ويفقدها حاسة التمييز بين النفع النافع والضار والغث والسمين وحتى في المصالح الخاصة… .
كانت جل مقالاته دينية تاريخية واجتماعية، ساهمت بقدر كبير في تكوين الوعي الديني والوطني لدى الإنسان الجزائري.. كان طموحا جدا، لكن ما هو الطريق الذي سيسلكه لتحقيق هذا الطموح؟
هذا ما كان يبحث عنه مدركا بأن الحياة الصعبة التي كان يعيشها الشعب الجزائري في تلك الفترة، كانت تتطلب كثيرا من الجهد والقوة والكفاح من أجل التحرر والانتصار لأن الحياة والحرية أقوى من الكبرياء، وأن كل ما أخذ من هذا الشعب بالقوة والحيلة لا يسترجع إلا بالقوة والحيلة، كتب يوما يقول في هذا الشأن :إن الشاب الجزائري سرق منه عقله، شككوه في نفسه وفي مقوماته، فأصبح تلميذا لديكارت وداروين.. ، هذا يعني أن الغسيري كان يدرك أن مجتمعنا أضاع كل شيء، وبقي واقفا حائرا في مفترق الطرق، دون أن يعرف لنفسه مخرجا..لذا مد الغسيري يده بجهد كبير إلى كل ما يتعلق بالجزائر من تاريخ ودين وحضارة وثقافة ونضال وجهاد بعيدا عن الإغواء والمزايدة، وكله أمل في أن يتمكن من أن ينشأ جيلا آخر، جيلا جديدا بأفكار جديدة غير مشوشة، جيلا يدافع عن الوطن والهوية والدين، من أجل أن يسترجع هذا الجيل الجديد مقوماته وشخصيته وهويته ..كان حاضرا سياسيا، دينيا وتربويا وكان حاضرا نضاليا..كان في جميع الوجهات يعمل بكل عزم وجد وإخلاص، التحق بصفوف الثورة التحريرية حين اندلاعها سنة 1954، وذكر يقول :أعلنا تأييدنا لها والتحقنا جميعا بالفروع التي حددت لنا في ميادين التعليم وتعبئة الجماهير والتمويل والسلاح، وقد أعلنا ذلك في جريدة البصائر، إننا جميعا مؤيدون للثورة وملتحقون بصفوفها ونتحمل كل عواقب عملنا ذلك… .
في سنة 1956، حينما قتل في رحبة الصوف غير بعيد عن الجامع الأخضر بقسنطينة رئيس قسم البوليس المدعو سلمار سيلي على يد فدائي جزائري، تم إلقاء القبض على جماعة من المناضلين الجزائريين منهم أحمد رضا حوحو، الحاج اسماعيل، عبد المالك بز وعلاوة بوصوف وغيرهم، وقد نفذ فيهم الإعدام دون أي محاكمة وذلك انتقاما لقتيل الاستعمار الفرنسي.
لم تكتف السلطات الاستعمارية بذلك فحسب، بل أضافت قائمة أخرى لأشخاص تقرر أن يعدموا، ومن بين هؤلاء اسم محمد بكن الغسيري، وقد أخبرهم بذلك المحامي باحمد الذي كان صديق والي المدينة، وطلب منهم أن يغادروا المدينة ويلتحقوا بالجبال.
التحق الغسيري بالعاصمة في اليوم نفسه، وهناك أشار عليه رفاقه بالسفر إلى الخارج، فنزل بمدينة ليون الفرنسية حيث أسس وبنجاح عدة خلايا لجبهة التحرير الوطني، بعد ذلك انتقل إلى باريس ثم سويسرا فالقاهرة، وبأمر من مسؤولي الجبهة خرج من مصر متجها إلى سوريا حيث كتب ونشر وحاضر وعرّف بالثورة الجزائرية، وفضح سياسة فرنسا التي تدعي المساواة، الأخوة والحرية، وكشف أمام الرأي العام العالمي ما كانت ترتكبه من مجازر في حق الشعب الجزائري الحر، وكان يوميا يذيع كلمة من إذاعة دمشق، وساهم بقدر كبير في إنشاء إذاعة صوت الجزائر بدمشق.
كان يحظى باحترام كبير ومتميز لدى أهل المشرق حكومات وشعوب، لأنه كان صادقا، متخلقا وذا معرفة عالية، وثقافة سامية.
بعد الاستقلال عيّن الشيخ الغسيري سفيرا للجزائر في المملكة السعودسة إلى غاية 1970، حيث منح من قبل الملك السعودي السيف الذهبي لآل سعود تقديرا واحتراما وعرفانا له، علما أن لا أحد قبله حظي بتكريم كهذا.
انتقل بعد ذلك إلى الكويت كسفير إلى غاية 1974، حيث دعاه الرئيس الراحل هواري بومدين للعودة إلى أرض الوطن من أجل تكليفه بوزارة التربية الوطنية، لكن القضاء والقدر أرادا له غير ذلك، وضربا له موعدا في 24 جويلية 1974 حيث وافته المنية عن عمر يناهز 59 عاما، وووري الثرى بمقبرة العالية بالجزائر العاصمة في 26 جويلية مخلفا بنتين بسيمة و بشيرة وولد عبد الحميد وزوجة توفيت منذ أقل من شهر.
ترك الغسيري مجموعة من المقالات والمحاضرات في عدة مجلات وجرائد منها الحياة، البصائر، البحرية العربية ، المنار المصرية، حضارة الإسلام الدمشقية، وكذا عدة كتب منها خلاصة الدروس الفقهية، عدت من الشرق وصورة من حياة الزعيم ابن باديس.
قال فيه الملك فهد بن عبد العزيز في زيارة للكويت لأمير كويتي :إن هذا الرجل حين كان في السعودية هو يأمر ونحن ننفذ ، وقال له أمير الكويت :لو كنت كويتيا لعيناك وزيرا، وقال فيه رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الحالي، الشيخ عبد الرحمان شيبان:إن الغسيري -رحمه الله- من الرجال الأفاضل الكرام الذين احمد الله أن جمع بيني وبينهم، فقد كان مثالا في الطموح والجد والاستقامة ويكفيه فخرا أنه الوحيد الذي ينوب عن ابن باديس في إلقاء الدروس بالجامع الأخضر .
وقال عنه الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني، عبد الحميد مهري: الغسيري هو حديث عن الخصال، عن الفضائل، عن النبل، هذا الرجل بسلوكه وفضائله غزى قلوب أهل الشام.
ووصفه الدكتور محمد الصالح الصديق بـ الرجل القرآني الظريف اللطيف الخفيف الذي أحب وطنه ومثله أحسن تمثي .
¢وخلاصة تحضرني مقولة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم حية في الأرض، قوة تحرك ورابطة تجمع ونور يهدي، وعطر ينعش، وهذا هو معنى العظمة كون العظمة خلود.