الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في باكستان سنة 1952

بقلم: أ.د إبراهيم لونيسي-

أدب الرحلة يعد من الفنون الأدبية النثرية القيّمة، التي تكشف لنا عن الكثير من الأسرار الخاصة بالشعوب التي يزورها الناس، والنثر الجزائري الحديث والمعاصر زاخر بهذا النوع الأدبي، إلاّ أنّه لم ينل بعد حظه الكافي من الدراسة والتحليل، واستكشاف مميزاته وخصائصه وفي هذه الوقفة لن نتناول هذا الفنّ بالدراسة، بل سنحاول استعراض إحدى الرحلات التي خلفها لنا أحد رجالات الجزائر البارزين، و الذين ساهموا في صنع تاريخ الجزائر المعاصرة  وهو الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.

فالشيخ الإبراهيمي قام بالعديد من الرحلات حيث زار خلالها العديد من الأقطار وخاصة الإسلامية منها مثل مصر والعراق والجزيرة العربية، كما أنّه زار فرنسا، و سجل لنا بعض هذه  الزيارات بشكل مفصل، والبعض الآخر أشار إليها إشارات خفيفة في بعض مقالاته التي كان يزين بها جريدة (البصائر) لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان رئيسا لها.

ومن بين هذه الزيارات التي فصل فيها تفصيلا وافيا تلك التي قام بها إلى باكستان، ونشرها في جريدة البصائر على امتداد ستة حلقات،بدءا من العدد الصادر يوم 23 جوان 1952 إلى غاية العدد الصادر يوم 15 سبتمبر 1952 ، و التي أعيد نشرها في الجزء الرابع من الكتاب القيم الذي يضم بين دفتيه كلّ أثار شيخنا.

لقد بدأ رحلته  هذه بخروجه من الجزائر يوم الجمعة 7 مارس 1952، وودعه في المطار ثلة من رجالات الجمعية منهم العربي التبسي وأحمد توفيق المدني ومحمد خير الدين إلى جانب ابنه أحمد الإبراهيمي. وكانت باريس أول محطة توقف فيها حيث كان في استقباله في المطار المحاميان عياش ابن عجيلة وأحمد بومنجل بقي هناك يومين، ومن باريس توجه إلى روما رفقة المحامي أحمد بومنجل على متن القطار، ومنها توجه إلى مصر في ليلة الاثنين 9 مارس ليصلها بعد أربع ساعات في السماء، ولم يجد أحدا في المطار من  أعضاء الجمعية في مصر بسبب الأحكام العرفية القاضية بمنع التجول بعد العاشرة ليلا- و التي فرضت بعد حريق القاهرة الذي تمّ ليلة 25،  26 فبراير 1952.

ويقول: “فتوليت الإجراءات القانونية بنفسي وهي كثيرة معقدة استغرقت ساعتين من الزمن ثم ذهبت مع المسافرين في سيارة الشركة المرخص لها إلى الفندق المرخص له وهو فندق هليوبوليس بمصر الجديدة، وأنا على يأس من لقاء الجماعة في تلك الليلة، فما راعني إلاّ وهم مجتمعون في فناء الفندق ينتظرونني لا يبرحونه حتى إلى المدخل الخارجي لأنّ ذلك يعد تجولا ممنوعا”(ص 30). إن الشيخ البشير الإبراهيمي يعطي لنا في هذه الفقرة صورة مختصرة عن الأوضاع التي كانت تعيشها مصر عشية ثورتها التي أطاحت بنظام الملك فاروق الذي طرد من مصر يوم 26 يوليو 1952 أي بعد نجاح الثورة بثلاث أيّام فقط.

وفي اليوم الموالي انتقل الشيخ إلى فندق “جزيرة بالاص”،حيث حجزت له هناك غرفة من مكتب الجمعية بالقاهرة ،  إضافة إلى مكتب للاستقبال فيه جهاز تلفوني ، ولقد مكث في القاهرة  مدّة تسعة أيّام، بعد أن كان من المقرر أن لا يبقى فيها سوى يومين فقط، ثم يتوجه بعدها إلى باكستان.

أمّا عن السبب الذي جعله يذهب إلى باكستان فهو من أجل المشاركة في (مؤتمر العالم الإسلامي القديم) ولقد وصلها في 20 مارس وأول شيء جلب انتباهه فوصفه لنا هو مطار كراتشي “هو مطار عظيم واسع مستكمل لجميع المرافق والشروط وقد أصبح ذا أهمية عظيمة في وصل الشرق بالغرب وهو يبعد عن المدينة بنحو ثمانية عشر كيلومتر (ص:34).ووجد في استقباله كلاّ من الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين، والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري وزير سوريا المفوض بباكستان، والفضيل الورتلاني.

ومن المطار توجهوا  إلى فندق “ميتروبول” أكبر فنادق باكستان كلّها ويسجل لنا ملاحظة هامّة جدا تتمثل في أنّ كراتشي عاصمة باكستان كانت تفتقر للفنادق فليس فيها من فنادق الدرجة الأولى إلاّ اثنان ، وبقية الفنادق من الدرجة الثالثة  و الرابعة ، والسبب في ذلك أنّ عمرانها  المدني جديد وكانت هذه المدينة قبل الانفصال- أي انفصال باكستان عن الهند سنة 1948- عبارة عن ميناء تجاري تربطها بالهند كلّه سكّة حديدية مزدوجة وبعد الانفصال رأي بطل الانفصال محمد علي جناح وصحبه أن تكون هي العاصمة لوقوعها  على البحر ولبعدها عن الحدود الهندية.

وسرد علينا أسماء بعض الشخصيات المسلمة العربية وغير العربية التي قابلها في الأيّام الأولى لوصوله إلى كراتشي، ومن بينها عبد الوهاب عزام سفير مصر، و أبو بكر حليم مدير الجامعة وسفير دولة سيلان وهو مسلم ” مع أن المسلمين في سيلان لا يجاوزون بضع مئات من الآلاف في سبعة ملايين من الوثنيين، و قد رغبني في زيارة سيلان ، فأخبرته أنها في برنامج رحلتي ، ففرح و عرض علي التسهيلات اللازمة “.

بدخول الاستعمار الانجليزي إلى الهند وقضائه على الإمارات المغولية يقول الإبراهيمي حلت لغته محل اللغة الأوردية، والتي هجمت  عليها الكثير من الكلمات  الانجليزية وأصبح من الصعب جدا إزالة هذه الكلمات الدخيلة، ويرى شيخنا أنّ السبب في ذلك يعود :”… لتهاون المتكلمين بالأوردية دخلا عظيما في إقرار تلك الكلمات الانجليزية وتمكينها كما أنّ في لغتهم خميرة من القابلية لذلك لأنّها مبنية على التلفيق”. وبعد الاستقلال أصبحت الأوردية هي اللغة القومية وطغت على الكثير من اللغات الإقليمية،   ولكن رغم ذلك فإنّ الحكومة الباكستانية بعد الانفصال اتخذت من الانجليزية اللغة الرسمية لها، بالرغم من وجود طائفة تنادي بضرورة جعل اللغة الأوردية هي اللغة الرسمية، ولكن تعدد اللغات في باكستان جعلها تدخل في بحر من  الصراعات اللغوية فكلّ طرف يريد أن يفرض لغته فسكان البنغال الذين يقطنون باكستان الشرقية- والتي انفصلت فيما بعد عن باكستان وذلك في جانفي 1972 والتي سمت نفسها  ببنغلاديش- يريدون التحدث بلغتهم البنغالية، والأوردية غير شائعة لديهم، وسكان  إقليم السند يفضلون لغتهم السندية، ولكن أهمّ ما يمكن ملاحظته هنا أنّ هذه الأطراف كلّها لا تمانع في أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية ولكن العقبة في ذلك هو وجود طائفة موالية  للاستعمار الانجليزي لا يريدون أن تكون للعربية سيادة في باكستان وبالتالي تزداد الروابط بينها وبين الأمّم الإسلامية.

وبعد هذا السرد التحليلي لقضية اللغات الموجودة في الهند ينتقل بنا إلى الحديث عن الصعوبات الكثيرة التي واجهته في ميدان اللغة لأنّ الزائر لباكستان في تلك الفترة على الأقل يجب أن يكون عارفا بإحدى اللغتين الأوردية أو الإنجليزية، ولكنّ الإبراهيمي كان جاهلا للغتين، فيصف لنا بعض المواقف التي واجهته مع بعض الباكستانيين بسبب هذا الجهل فيصف لنا بعض المواقف التي لا تخلو من الطرافة:”…وأطلب الخادم لحاجة فيسكت واسكت وألتجئ إلى الإشارة فلا تفيد ، ويهتف التليفون من سائل… فيبدأ الخطاب بالإنجليزية فأقول لا أفهم، فيثني بالأوردية لأنّه فهم بالقوّة أي لا أفهم الانجليزية فأقول:” لا أفهم، فيكرر الخطاب ولا أدري أهو بالأولى، أم بالثانية، فاعتصم بلا أفهم ثم اضطر إلى شيء من سوء الأدب وهو رمي آلة التليفون ..” (ص:40).

ولكن مع مرور الأيّام استطاع  أن يحفظ بعض الكلمات الأوردية وكان أهمّها عنده هي طلب الماء البارد وهي تتكون من ثلاث كلمات (طانده، باني، لاو) ومعناها على الترتيب: (بارد ماء هات) كما تعلم كلمات أخرى كذلك مثل (نمار- الصلاة) و(روطي- الخبز) و(انماك- الملح)…إلخ.

إلاّ أنّه بعد مرور ثلاث أيّام أحضر له ترجمان لازمه مدّة شهرين وهي المدّة التي مكثها في باكستان ولم يكن يفارقه إلاّ عند النوم.

صلى الإمام الإبراهيمي جمعته الثانية في باكستان يوم 28 مارس وذلك في إحدى المساجد الجديدة وألقى فيه محاضرة قبل الصلاة وموضوعها : وظيفة العالم الديني في الإسلام، ولقد صدمته خطبة الجمعة التي ألقاها إمام المسجد باللغة العربية وكان يقرأها من الكتاب، وموضوعها فضائل شهر رجب، الذي يصعد إلى السماء ويسأله الله عن أعمال عباده فيعتذر بأنّه أصم إلى آخر تلك المحاورة التي وضعها القصاصون بين الله وبين رجب، ويصف الإبراهيمي استياءه من ذلك فيقول: “فلم أملك إلاّ الحوقلة والاسترجاع وحمدت الله على خفوت صوت الخطيب، وجهل السامعين بالعربية وإنّ هذا لمن المواطن التي يستحب فيها الجهل والصمم وكان حضرة الخطيب جاء بتلك الخطبة شاهدا لما وصمت به علماء الدين من إلهائهم للعامّة بالقشور…”.

أمّا الجمعة الثالثة فقد صلاها في مسجد آخر  قدم فيها محاضرة أخرى كما طلب منه الإمام أن يصلي  بالناس ويخطب لهم، أمّا الجمعة الرابعة، فإنّه صلاها في جامع الميمن وهو جامع جديد لم يتم بناؤه، ولم يسقف وإنّما هو مغطى ب (قلوع)  يدفع الحرّ ولقد حاضر للمصلين كالعادّة بالمترجم وهم آلاف فلما حانت الصلاة طلب إمامهم من شيخنا أن يخطب خطبة الجمعة ويصلي بالناس.

ومن بين العادات  الشائعة التي لاحظها  الشيخ في كراتشي عند المسلمين هي عادّة تعظيم العلماء، وهي عادّة قديمة جدا عندهم ولكن القضية ليست في التعظيم ولكن الطريقة المبالغ فيها والتي تجاوزت حدود الشرع التي يرى بأنّها أصبحت مذلة ومهينة لهؤلاء المسلمين، فكلّما خطب في جمعة وهم بالانصراف بعد الصلاة اعترض المصلون طريقه ويأخذون في تقبيل يديه ووضعها على جباههم ومنهم من يتمسح بثيابه“… ولقد صحت في الناس في أول مرّة وقلت يا قوم: هذا منكر فلما لم يكفوا قلت هذا حرام:  فلم يزدهم ذلك  إلاّ تهافتا علي، ولو بقيت في المسجد لبقي المصلون كلّهم مرابطين ينتظرونني وكان الأمر في الجمعة الثانية أشد وكان في الثالثة أشنع لكثرة المصلين في جامع الميمن وكان صوتي في كلّ مرّة أعلى ولكنّه كان أضيع…”.

وأهمّ ما يمكن تسجيله في هذا العرض السريع هو أنّ الإبراهيمي من خلال احتكاكه بالمسلمين في باكستان توصل إلى النتيجة التالية: “إنّ مسلمي باكستان والهند لينفردون بخاصية سميتها بعد التأمل والدراسة (القابلية) وأعتقد أنّ هذا هو اسمها الحقيقي فقابلية  الخير والصلاح والإصلاح فيهم ظاهرة السمات فلو رزقوا  الموجه المسدد والمشير الحكيم لسبقوا طوائف المسلمين كلّها إلى غاية الخير التي نرجوها للمسلمين”.

وبعد كلّ هذا حدثنا الشيخ الإبراهيمي عن المسؤولين الباكستانيين الذين قابلهم، فكان أولهم السيد غلام محمد، الرئيس الباكستاني، الذي  قابله في مقره الرسمي يوم 31 مارس، وكان معه الأستاذ محمود أبو السعود كمترجم وهو من نوابغ الاقتصاديين المصريين، و الذي وجده ” مشغول الخاطر بالدستور الباكستاني الذي لم يتحرر و لم يتقرر إلى الآن ، مع اشتغال المجلس التأسيسي به عدة سنوات “

كما قابل كذلك رئيس الوزراء خواجه ناظم الدين فدار حديثهم عن باكستان والإسلام والمسلمين والجزائر وجمعية العلماء، وزار وزير الدعاية (الإعلام) وخلال هذه المقابلة أخبر الإبراهيمي الوزير بأنّ معظم المسلمين والعرب يسوءهم كثيرا أن تكون حكومة الهند أحذق منكم في فنون الدعاية واحرص على اجتذاب العرب بتوسيع البرنامج العربي واجتذاب المسلمين بتعدد حصص القرآن، لأنّ إذاعة باكستان كانت تخصص للبرامج العربية سويعات قليلة جدا لا تفي بالحاجة، وكان عذر الوزير هو كثرة اللغات في باكستان، والتي تحتم عليهم الظروف السياسية أن يذيعوا بها إرضاء لطوائف داخلية أو مجاورة، كما زار كذلك وزير الشؤون الخارجية محمد ظفر الله خان، وأهمّ القضايا التي تحادثا فيها قضية الحوادث الدامية التي كانت تعيشها  تونس في تلك الفترة وكذلك قضية بعثة جمعية العلماء إلى مدارس باكستان في كراتشي فطلب منه الوزير أن يتدارس هذا الموضوع مع وزير المعارف الذي قابله فعلا حيث بين له الفائدة المرجوة لأبناء الجزائر من الدراسة في باكستان، وما تستفيده الحكومة الباكستانية من الفوائد المعنوية، وما يستفيده التلامذة من الامتزاج. ولقد طلب منه الوزير أن يكتب له تقريرا مختصرا على ذلك ليتخذه أساسا لعرض القضية على مجلس الوزراء بصفة رسمية.

كما زار كذلك أخت محمد علي جناح أول رئيس لجمهورية باكستان السيدة (فاطمة) وسألته عن الجزائر والإسلام فيها وعن المرأة الجزائرية وحظها من التعليم، ويقول الإبراهيمي أنّه من خلال الحديث معها أدرك أنها مهتمة بشؤون المرأة المسلمة وأنّها مطلعة على التشريع الإسلامي المتعلق بالمرأة، وزار بعد ذلك قبر أخيها والذي جاش خاطره بأبيات شعرية فأنشدها ولكن للأسف لم يسجل لنا الشيخ منها سوى ثلاث أبيات:

هنا شمس ثورات بالحجاب                    هنا كنز تغطى بالتراب

هنا علم طوته يد المنـايا                         هنا سيف تجلل بالقراب

هنا من معدن الحق المصفى                    يتيم في الجواهر ذو اغتراب

وآخر نشاط نحاول الوقوف عنده هي تلك الندوة الصحفية التي عقدها  في أول الأسبوع  الثاني من إقامته في كراتشي وذلك في  دار الأستاذ أبو بكر حليم مدير جامعة كراتشي وقبل بدء الندوة وزع منشورا على المدعوين بين فيه الشيخ البشير الإبراهيمي  الوضع السياسي في شمال إفريقيا عموما وفي  الجزائر على الخصوص، وقضية الإسلام وأوقافه ومساجده وأحكامه في الجزائر وبعد ذلك شرح لهم بلسانه تلك المجملات التي شملها المنشور وخص تونس بحديث خاص نظرا  للأوضاع الدامية التي كانت تمر بها.

وما تجدر الإشارة إليه في الختام أنّ الإبراهيمي لم يقتصر في هذه الزيارة على مدينة كراتشي التي قضى فيها خمسة وعشرين يوما بل زار مناطق أخرى عديدة في باكستان منها كشمير التي فضل أن يذهب إليها بواسطة القطار رغم بعد المسافة، حتى يستطيع مشاهدة باكستان من الداخل، كما كان له نشاط موسع وكبير في هذا البلد.

وقبل أن يغادر باكستان أذاع الإمام الإبراهيمي بيانا من الإذاعة الباكستانية شكر فيه باكستان حكومة و شعبا، وقال فيه أنه جاء إلى باكستان حاملا تحيات أهل المغرب الإسلامي إلى إخوانهم في المشرق الإسلامي، وركز الإبراهيمي كثيرا في هذه الكلمة على الإخوة الإسلامية.

 

*جامعة سيدي بلعباس


آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.