عبد الحميد مهري: من كان مثله… لا يطويه النسيان
بقلم: معن بشور-
لم يكن عبد الحميد مهري، كما عرفته منذ ربع قرن، سياسياً عادياً كالمألوف من السياسيين، كما لم يكن نموذجاً شائعاً من الثوار والمناضلين، بل كان بين المشتغلين بالسياسة مشغولاً بالمبادئ والقيم التي أمضى العمر متشبثاً بها، وكان بين الثوار والمناضلين حاذقاً في تحصين الحماسة الثورية بالحكمة والنضج، والإندفاعة النضالية بالرؤية الحصيفة.
كنا في اجتماعات الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي وكل اطر العمل العربي والدولي التي جمعتنا به نتطلع إليه –رحمه الله– لنستمع منه إلى القول الفصل فيما كنا نختلف حوله، أو تتباين الرؤى فيه، فقد كان يمتلك من التجرد والصفاء ومخزون من التجارب واتزان في التفكير وسلاسة في التعبير ما يجعلنا نسلّم جميعاً برأيه الذي كان يحترم أراء الجميع، ويدرك الاعتبارات التي تقف وراءها، مدركاً أن الحقيقة تكون أحياناً كالفيل، كل واحد منا يصفه حسب الجزء الذي يلمسه منه.
كنت أعتقد إن هذه الشمائل التي كان الأستاذ مهري يتميز بها، تجعل له مكانة عالية بين النخب السياسية والثقافية وحدها، وهي التي واكبت سيرته النضالية بكل ما فيها من جرأة في المواقف، وتمسك بالثوابت، وحرص على التعددية السياسية، لكنني في كل زياراتي للجزائر، وفي لقائي بمواطنين جزائريين في الخارج، كنت ألاحظ أن هناك إجماعاً على الإقرار بمزايا الرجل عند كل الجزائريين، بكل تياراتهم وقواهم ومنابتهم الاجتماعية والثقافية، بما في ذلك من كان الأستاذ مهري يختلف معه في الاجتهاد أو الموقف أو المنهج الفكري.
لا أنسى في زيارتي الأخيرة له في المستشفى العسكري في الجزائر، قبل أيام من رحيله الأخير، وفيما كنت في مطار الجزائر الدولي عائداً إلى بيروت، أن كل من التقيته في المطار بدءاً من رجل الجوازات، حتى الذين أتاحت لي ساعات الانتظار أحاديث متنوعة معهم ، كان يتعامل معي بطريقة مختلفة حين يدرك إنني أتيت خصيصاً من لبنان لأزور القامة الكبيرة في المستشفى.
والتقدير العالي للراحل الكبير لمسته أيضا من كل من التقيته من الشخصيات الجزائرية المعارضة والموالية، الإسلامية واليسارية، العروبية والليبرالية، فقد كان الجميع يطلق عليه صفات عدة لكنها تتلخص بأمرين هما الموضوعية في التحليل والشجاعة في الموقف.
لم يكن الرجل، الذي تبوأ أعلى المناصب في بلاده، محباً للاستعراض والبهرجة الإعلامية، وقد كانت أبوابها مشرّعة له، لكنه أيضا كان حريصاً أن تصل تحليلاته ومواقفه إلى كل أبناء وطنه وأمته، فقلّما كان يغيب عن مؤتمر أو منتدى أو ملتقى وطني أو عربي أو دولي ليصدح صوته هادئاً هادراً، واضحاً قوياً، لا تكرار فيه ولا إنشائية، وكان – رحمه الله- في كل مداخلاته حريصاً على أربع:
1 الديمقراطية في الجزائر تستكمل من خلالها ثورة الاستقلال رسالتها، وتتوحد عبرها كل مكونات المجتمع، وتتحقق معها تنمية مستقلة وعدالة اجتماعية، وتتجدد حضارة الجزائر العربية الإسلامية.
2- الوحدة العربية عبر تحقيق أعلى درجات التكامل القومي بين أقطار الأمة بما يضعها على طريق المنعة والقدرة والاستقلال الشامل والاعتماد على الذات.
3- فلسطين، وقد كان تحررها هاجس مهري طيلة حياته حتى في زمن ثورة التحرير الجزائرية، وطالما استمعنا إليه يضع خبرته الثورية الواسعة، بما فيها الخبرة التفاوضية، برسم القادة الفلسطينيين.
4- الشباب الذين كان الأستاذ مهري ممتلئاًً بروحهم ، متحمساً لانتزاع ادوار لهم، داعماً لكل مبادراتهم، ويخبرني الشباب الذين شاركوا في دورة الجزائر لمخيم الشباب القومي العربي عام 2006، كيف كان الأستاذ مهري يتابع بكل دقة يوميات مخيمهم، ويعالج أي مشكلة تواجههم ليس كرئيس للجنة التحضيرية للمخيم فقط، بل كأب ومرشد ومعلم.
وفي زيارته الأخيرة إلى بيروت في ربيع 2011، بدا سعيداً حتى النشوة، وهو يتحدث عن لقاءاته مع طلبة الجزائر في العديد من الجامعات، لا سيما في قسنطينة المجاهدة، وكيف كان يستمد من حيوية الشباب قوة وحماسة، وكان يمدّ الشباب بحكمته وخبرته، فكأنه كان يدرك، والأمة تشهد آنذاك غلياناً وحراكاً بين الشباب، إن طريق النجاة للأمم تنفتح حين تتكامل لديها حكمة الشيوخ وحيوية الشباب.
واليوم، بعد رحيل القامة، الجزائرية العربية الإسلامية، العالية، لا أغالي حين أقول إن مكان مهري خالٍ في كل اجتماع أو منتدى أو ملتقى، وأننا نفتقده مع كل محطة أو حدث جلل… فمثل عبد الحميد مهري لا يطويه النسيان.
معن بشور-كاتب عربي