مالك شبل صاحب “إسلام النور” مفكر عربي مسلم أسمع الغرب ما لا يعجبه
بقلم: باسل الحمصي-
كتب الصحفي الأستاذ صابر بليدي عن رحيل الفيلسوف الجزائري يقول”في ذروة الفوضى والاضطراب، شاءت الأقدار أن يترجل الفارس عن صهوة جواده، تاركا وراءه استفهامات معقدة عن الدين والسياسة والإنسان، وحمل معه غصة في حلقه الى دار الخلود، فالتنكر والجحود الذي لازم محمد أركون، آسيا جبار وقبلهما محمد ديب، لاحقه حتى الخطوات الأخيرة الى مقبرة احتضنت جثة والد استشهد لأجل وطن تنكر لولده وللكثير من الأولاد، ذنبهم أنهم لم ينخرطوا في منظومة أحادية الفكرة وشمولية الرأي.
ووري جثمان المفكر والفيلسوف الجزائري مالك شبل، بمسقط رأسه ببلدة سكيكدة شرقي العاصمة. في أجواء من الحزن والأسى العميقين، على فقد الوطن والشعب والأمة والمنطقة، لواحدة من القامات التي سخرت حياتها للبحث والتأليف في مجالي الأنتربولوجيا والأديان، وناضل بالفكر والعقل لأجل رسم صورة جديدة عن الإنسان والإسلام في عمق الآخر، وعلى رحيل صامت شكلت رهبته نار النكران والجحود الباردة.
فكما رحل مفدي زكريا منبوذا، ومحمد أركون صامتا، وآسيا جبار مربكة لهم وهي جثة هامدة، بسبب وثيقة الميلاد الضائعة في مأساة الوطن من أجل استخراج رخصة الدفن، سبقهم محمد ديب، وأعقبهم مالك شبل، وكم في هذه الجزائر من المحكوم عليهم من طرف قضاء الأحادية بالجحود والنكران.
وبعيدا عن أضواء الإعلام الحكومي، والإعلام الخاص الغارق في مشقة البحث عن الإعلان، ورحلات الاستجمام العلاجي لرموز وكوادر المنظومة الحاكمة، جاء الإعلان عن خبر وفاة شبل، من طرف صهره لعور سطايحي، في رسالة للعائلة والأقرباء والنخبة قال فيها “انتقل الى رحمة الله السبت، مالك شبل، على الساعة الرابعة صباحا، بمشفى فرنسي بعد صراع مع المرض دام عدة أشهر، تاركا وراءه ثلاثة أطفال”.
صمت الفيلسوف
ابنته شيراز كتبت على هاتفه لأصدقائه والمتواصلين معه خاصة من وسائل الإعلام، “أبلغكم بألم كبير وفاة والدي مالك شبل”، معلنة بذلك الصمت الأبدي للصوت الذي رافع لإسلام التنوير في فرنسا وأوروبا، وكان لا يبخل بمناقشة والرد على أسئلة المهتمين والباحثين.
وورثت شيراز وشقيقيها اليتم، بعدما عاش والدهم يتيما مع شقيقه، فقد استشهد جدهم في ثورة حرب التحريرية، لكن من رحم اليتم والحرمان تولد الأمجاد، وتدرج الطفل مالك، بين مدارس وجامعة سكيكدة وقسنطينة، ليتخرج منها بشهادة ليسانس في علم النفس العيادي، ثم يسافر الى فرنسا لمواصلة دراسته ويختص بعدها في الأنثروبولوجيا ودراسة الأديان.
وفي غمرة الفوضى والاضطراب وارتدادات الفهم القاصر وسطوة النص المقدس، انطلق مالك شبل في رحلة التأسيس لمشروع “إسلام التنوير”، وهو المشحون بتجربة دامية للإسلام السياسي في الجزائر، خلال مطلع تسعينيات القرن الماضي.
فبعد حصوله على أول شهادة دكتوراه في علم النفس السريري وعلم النفس التحليلي من جامعة باريس 7، ثم دكتوراه ثانية سنة 1982 في الأنتروبولوجيا وعلم الأجناس وعلوم الديانات بباريس، ثم على دوكتوراه ثالثة سنة 1984 في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية بباريس، صار عَلَما في الجامعات الفرنسية والأوربية وحتى في العالم العربي، نظرا لمساهمته الثمينة في التفكير حول الإسلام والحداثة.
وهو ما مكنه من الانضمام إلى مجموعة الحكماء المكلفة بالتفكير حول العلاقة بين ضفتي بحر الأبيض المتوسط. حتى قلده الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وسام جوقة الشرف.
العبودية والإسلام
لشبل عدة مؤلفات ومقالات ومساهمات، أبرزها ” قاموس الرموز الإسلامية “، و”العبودية في أرض الإسلام” و”الإسلام كما شرحه مالك شبل”، و”أسماء الحب المائة” و”موسوعة القرآن” و”أبناء أبراهام” و”شرح الإسلام” و”الإسلام والعقل صراع الأفكار”.
كل ذلك الى جانب دراسات وتحليلات ومقالات صحفية حول الإسلام والعالم الإسلامي، وترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، ترجمة تختلف جذريا عن الترجمات السابقة حيث اهتم بترجمة المعنى لا ترجمة النص.
وفي رسالة خجل أكثر منها تعزية، تنم عن التفريط أكثر من الاعتراف، عبر وزير الثقافة عز الدين ميهوبي، عن حزن متأخر على رحيل مفكر نذر حياته للدفاع عن إسلام ” بعيد عن الراديكالية والتطرف “.
قال ميهوبي إن “الفقيد من الكفاءات العلمية المتخصصة في شؤون الإسلام والديانات المقارنة حيث يعرف باطلاعه الواسع في قضايا الدين المعقدة، فقد استطاع على مدار أكثر من ثلاثة عقود، من أن يقدم للقاريء العربي والغربي على حد سواء، وبرؤية أكثر جرأة وحداثة قراءة مختلفة عما كان سائدا”.
وتابع “استطاع بمعرفته الواسعة خاصة في الجانب الديني أن يدافع عن الإسلام بطريقة علمية وموضوعية، بعيدة عن الراديكالية والتطرف ما أكسبه احتراما في الأوساط الثقافية والفكرية بفرنسا والعالم، فهو أول من أدخل مفهوم (إسلام التنوير) ضمن أدبيات الإعلام الفكري والديني في الغرب، وذلك من خلال تحاليله المميزة ومحاضراته التي ألقاها عبر العالم، حيث وقف في وجه كل من حاول تشويه الدين أو استعماله لأغراض سياسية مدمرة “.
وخلص الوزير إلى أن “عالم المعرفة والفكر سيشهد له بمساهمته الثمينة في التفكير حول الإسلام والحداثة، واعتباره واحدا من المفكرين الذين كرسوا جهودهم في كيفية إقامة جسور تواصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، ولم تنسيه المدرجات والأضواء في التردد الدائم على وطنه ومسقط رأسه، ولا في إيمانه بجزائريته وهويته”.
الجزائر غابة محترقة
الكاتب والأديب عبد الرزاق بوكبة رسم لوحة تغني عن كل تعبير حول مرارة الرحيل والفقد، بقوله “قال لي صديق تحت الشجرة، ونحن نتلقى رحيل الباحث المختص في الأنتروبولوجيا والأديان مالك شبل: ما أشبه الجزائر بغابة محترقة، تجبر عصفورها على الهجرة، ثم تجبر نفسها على نسيانه، ثم تتلذّذ بلومه على التألق فالموت خارجها، ألم تفعل هذا مع محمد ديب ومحمد أركون وحميد سكّيف والأسماء كثيرة كثرة أشجار الغابة؟”.
وحين ولد شبل العام 1953، كان السياق الجزائري يتهيّأ لأن يتحرّر من السياق الفرنسي، وهذا ما حدث بعد ثمانية أعوام، مخلّفًا جملة من الفخاخ المتعلّقة بهوية الجزائريين، سواء داخل الجزائر أو في الداخل الفرنسي، الذي وجد نفسه مجبرًا على التعامل مع ظاهرة المهاجرين على اختلاف أجيالهم.
وأضاف بوكبة “بعد أن درس المرحلة الأولى في الجزائر، انضمّ مالك مع أسرته إلى نسيج المهاجرين في فرنسا، وواجه أسئلته وهواجسه وألغامه ومزاياه أيضًا، بروح الباحث عن بؤرة المشاكل التي تحول دون أن يكون المسلم المعاصر قادرًا على التأقلم مع اللحظة المعاصرة، بعد أن كان صانعًا لها في الماضي، من خلال عدة تجارب تجاوزت الديني الضيّق إلى الإنسانيّ المفتوح، مثل تجربة الأندلس، فكان أن أطلق مصطلح ” إسلام الأنوار”، مؤكدًا على “أن الغرب لا يريد أن يسمع أشياءَ إيجابية عن الإسلام والمسلمين”.
” إسلام النور” استهدف تحرير الدين من احتكار المنطق القبلي القائم تحالف الفقيه والسياسي العربي، لأجل إصباغ الشرعية الإلهية على تصرفاتهما، وهو ما أسّس بالتراكم لمفردات التخلّف والكبت والسيطرة باسم الإسلام، وأثمر جماعاتٍ ترى في الآخر شيطانًا لا شريكًا في الفضاء والعطاء.
لم يُقدّم صاحب كتاب “أسماء الحبّ المئة” نفسه رجلَ دين يشير إلى الطريق المؤدّي إلى الجنة، كما يقول بوكبة، بل كباحث مسلّح بالمناهج الحديثة، في السياقات التي أدّت إلى الانحراف بالدين إلى غير وجهته الإنسانية، مفرّقًا، عكس بعض الباحثين الذين يرون أن الخلل يكمن في بنية النصوص المقدّسة نفسها، بين الشريعة والتأويلات البشرية الخاضعة للأهواء والمصالح والقبليات، وقد ظهر هذا جليًّا في كتابه ” الإسلام كما شرحه مالك شبل”.
أما الباحث والأنثربولوجي مبروك بوطقطوقة فقال عند صدور كتاب “الجنس والحريم ـ روح السراري”، الذي ترجمه للعربية عبد الله زارو إن شبل ينحو “من خلال بحثه في الموضوع، إلى استنطاق الجسد المغاربي والحديث عن الجنس ومعايشته خارج القواعد المتعارف عليها، الكاتب قال إن هذين الأمرين ينظر إليهما كفعل لأشد الناس زندقة وكفرا، ويذهب إلى الإقرار بأن الحديث عن الجنس في أوطان المغرب الكبير، أو قراءة نص ما يتحدث عنه بغاية أخرى غاية الشجبوالعقاب، ويبدو في نظر الأخلاق العامة شيئا مطابقا للخطأ أو الاستهلاك الممنوع، الكتاب لا يدافع عن ممارسة جنسية بعينها، بل يراهن بالأساس على أن يكون ملتقى لعدد من المهمشات التي يتم تناولها في ميدان علم النفس المرضي وعلم الاجتماع الثقافي”.
عدو بعض المسلمين
شبل قال عن نفسه في حوار صحفي مع “الجزائر نيوز” المحلية نشر في العام 2010 “أنا لا أتناول مفاهيم: الله، محمد، الإيمان والعبادات، أنا لست رجل دين وإنما رجل فكر وعلم، لا يتطرق للدين بالبحث بقدر ما يهتم بدراسة الحضارة الإسلامية في سياقها التاريخي المجرد من الإيديولوجيات”.
إن النبرة السائدة في الخطاب الديني، جسب شبل، تسعى لفرض وجهة نظرها على أنها المرجعية الدينية والكلمة التي يجب على الجميع الالتزام بها، ومن هنا لا يمكن الاستغراب من تلك الرغبة في توحيد المظهر لكل المسلمين، خاصة لدى المسلمات من أجل اظهارهن بزي موحد يتم الترويج له على أنه اللباس الشرعي للمرأة المسلمة.
رأى شبل أن الدين الاسلامي يحتاج للكثير من التعمق والدراسة، بعيدا عن الخطابات الإيديولوجية، ووجوب التبحر في السياق التاريخي والفكري له، فالإسلام الذي تعودنا عليها في المنطقة العربية في طريقه للاندثار لصالح إسلام جديد قادم من القارة الآسياوية.
إذاً كل السجالات والجدل الديني والفكري القائم، كما يقول شبل، إنما هي رجع صدى لقضايا فرضت علينا من بلدان أسيوية، “لكم أن تنظروا لقضية البرقع واللباس الشرعي، هو لباس ثقافي في منطقة معينة يسعى البعض لتعميمه على أنه الزي الإسلامي، وأن الخطاب العقلاني هو الذي جعلني في نظر البعض ممن لم يفهم أفكاري، عدوا للدين، غير أني أقول أني عدو بعض المسلمين ولست عدو الإسلام”·
حوار متحضرين لا حوار حضارات
يؤمن شبل، أن حوار الحضارات مجرد عبارة فارغة لا تفيد أي معنى، “فلا أعتقد أن الغرب يملك الرغبة في سماع خطاب إيجابي عن الإسلام، لكم أن تنظروا لكل بؤر التوتر المرتبطة بالإسلام عبر العالم، يكفي النظر للتهويل الاعلامي الكبير الذي يسعى لتضخيم الأحداث وإن كانت صغيرة، فقط لتكريس هذه النظرة للإسلام العنيف، ثم هناك رغبة خفية عند الغرب تهدف لأن تبقي صورة الإسلام على ما هي عليه اليوم من تخلف وتطرف”.
ويتساءل “ما الذي يدفع الغرب لمثل هذا الحوار ما دام هو في موقع قوة، في اعتقادي أن الحديث عن حوار الحضارات يعني بشكل ضمني، أن هناك من سيتحدث باسم الإسلام والمسلمين، غير أنه اليوم ما من هيئة تزعم التحدث باسم المسلمين، ثم أنا لا أعتقد بشيء اسمه حوار حضارات. فالغرب يعتقد جازما أنه الأكثر تحضرا والمسيطر على العالم وما من شيء يجبره على التحاور مع من يتبعه، غير أني أعتقد بحوار المتحضرين في الغرب والعالم الإسلامي، أما البقية فهي مجرد شعارات”·
المصدر: مجلة رؤية سورية ع 37/ تشرين الثاني 2016م