حوار شامل مع الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعد الله (رحمه الله)
حاوره: بشير حمادي-
مؤرخ تعود السير حافيا على رمال قريته ، فلم يعرف الحذاء إلا عند بداية سفرياته، و لم يعرف فبل خروجه من قريته سوى الحياة البائسة، و لم تكن حياته في غيرها بأحسن منها، فقد نام في الحمامات، و سكن فوق سطوحها، و حتى عندما طرق باب الشيخ البشير الإبراهيمي ليلا في القاهرة، صرخ في وجهه و هو شبه غاضب قائلا له: ” واش جابك اليوم عاد”، لكنه عاد من رحلة طلب العلم غانما و عالما..
لم تثنه الصعاب و العقبات في رحلاته، فقد كان أشبه بالبيئة التي ولد و ترعرع فيها، جاف كمناخها، متحرك كرمالها، شامخ كنخيلها، أقدامه ظلت مغروسة في رمال قريته و تربة وطنه كجذور النخل مهما علا و ارتفع..
مؤرخ قدم للجزائريين تاريخهم- الذي تعودوا على استيراده من عدوهم- بصورة أنقى و أحلى مما قدم نخيل قمار له و لهم.
اختار غيره الطموح إلى الوظيف و المناصب الإدارية الرسمية، و فضل هوالتفرغ للدراسة و البحث و الإنتاج الثقافي.
و مثلما عزف عن المناصب، و رفض أن يكون متسلقا أو وصوليا أو انتهازيا، عزف عن بريف و أضواء الشرق و الغرب، فقد كان بإمكانه أن يختار بلدا عربيا أو غربيا ليكون له موطنا و مسكنا و فضاء أرحب لإنتاجه و فكره، لكنه فضل العيش في الجزائر بين أهله و طلابه، فأسعد لحظات عمره – كما يقول – حين يكون بين طلابه مدرسا أو مناقشا أو موجها..
من الصعب حصر أعماله ، لكن وزارة المجاهدين قامت بجمعها و طبعها في 21 مجلدا، قدم لها رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة..
إنه الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعدالله الذي أجرينا معه حوارا مطولا تحدث فيه بصراحة ، دون مجاملة أو مداهنة، صراحة قد تغضب البعض أفرادا و مؤسسات ، و حتى جماعات و جهات.
قلتم أن هناك مؤرخي الدولة ومؤرخي الأفكار وان أسوا أنواع المؤرخين هم الذين يرضعون أثداء النظم القائمة أو يمتصون أصابع الحكام فمن بكون الأستاذ أبو القاسم سعد الله ؟
للمؤرخ الحق مواصفات تكاد تكون عالمية فإذا لم يلتزم بها يضر الحقيقة شيئا فمنذ هيرودوت إلى الطبري إلى ابن خلدون إلى توينبي والمؤرخون منقسمون بين اختيار الموضوعية والالتزام بالحقيقة والبحث عنها في الوثائق والملابسات وتفسير الأحداث ونفسيات صناعها بما آتاه الله من عقل وحكمة وتجرد وضمير وبين اختيار المنفعة الشخصية بحيث يكتب لينال حظوة من حاكم في وقته أو ترسيخ فكرة اقتنع بها ولا يحيد عنها مهما ظهر له من الحق أو الأخذ بالثأر من خصم له عن طريق تلبيس الحقائق ثوبا غير ثوبها وهذا التناول للتاريخ لا يمنع أن يكون المؤرخ ابن بيئته وعصره أيضا فهو لا يكتب دائما عن الماضي السحيق الذي لا تجمعه به جامعة في الزمان ولا في المكان، نعم قد يكتب المؤرخ عن الآخرين في بيئات وعصور أخرى وفي هذه الحالة يكون غير مرتبط نفعيا ولا عاطفيا ولا شخصيا بوجود أمة ولا شعب يفصله الزمان والمكان البعيد غير أن مؤرخ العصر الحاضر مثلا قد يجد نفسه متأثرا بالعصور السابقة وما فيها من أفكار وأعراف ودول فينحاز إلى تيار يخدم قومه في العصر الحاضر كما فعل ويفعل بعض المؤرخين اليهود والمسيحيين اليوم بالنسبة لمساهمة العرب والمسلمين في الحضارة الإنسانية ومن الفتوحات الإسلامية ومن الحروب الصليبية ومن عودة إسرائيل على أنقاض التاريخ باسم العودة إلى أرض الميعاد وغير ذلك من القضايا التي تتفاعل فيها السياسة اليوم وتجد لها من المؤرخين أصواتا مساندة أحيانا .
إن بعضهم قد صنفوني من مؤرخي السلطة ربما على أساس أنني أكتب عن قضية الشعب الجزائري ولعل هؤلاء يريدون مني أن ألعن السلطة لكي أكون مؤرخا حقيقيا وهناك من صنفني مؤرخا ضد السلطة لأنني لا أمتدحها ولا أشيد بمواقف رجالها بل أنتقدها ضمنيا تارة وصراحة تارة أخرى والواقع أني مؤرخ “مخضرم” عشت في عهد الاستعمار الفرنسي وهو عهد عاشه الشعب الجزائري كله عهد تميز بالتجهيل والتفقير والقمع وكنا نطمع أثناء الثورة أن مصيرنا سيتميز بالحرية والعلم والثورة فإذا نحن اليوم بعيدين عن كل ذلك فماذا يفعل المؤرخ الموضوعي ؟أعرف إن هناك من ظل يمدح الاستعمار ويعتبر وجوده مكسبا وثقافته غنيمة والعلاقات معه تسامحا وانفتاحا وعالمية إنسانية وهؤلاء يقيسون ولاءهم للسلطة الجزائرية بميزان اقترابها وابتعادها عن القطب وهو دولة الاستعمار السابق وأعرف أيضا أن هناك رافضين لكل ما تقوم به السلطة في اتجاه العولمة والمعاصرة والواقع أنني لا أقيس نفسي بحكم الآخرين علي لا في زمننا فقط ولكن فيما يأتي من الأزمنة فالمؤرخ يجب أن يكون أن يكتب عن مسيرة وليس عن سلطة، عن قضية شعب وليس عن نزوات حاكم، وكما يبحث الإنسان عن الخلود في النصب التذكارية والأضرحة المحصنة والمساجد الفاخرة والأوقاف المثبتة، كذلك يبحث المؤرخ عن الخلود في مواقفه المستقلة وآرائه السابقة. والخلاصة أن مؤرخي السلطة سرعان ما ينطفئون بانطفاء السلطة التي تمدهم بالطاقة الضوئية أما المؤرخ الموضوعي فيستمد طاقته الضوئية من نور الحكمة والبصيرة .
الكاتب الحق يجب ان يقول كلمته الحرة المقتنع بها سواء أرضت الآخرين أو أسخطتهم أما الكاتب الذي يجامل بكلماته ويجاري التيار ويماشي الظروف فهو كاتب دجال لأنه لا يصدر عن عقيدة واقتناع فهو إذن كاتب انتهازي أو مأجور أو جبان ..إذا ما قيمتم كتابنا منذ الاستقلال إلى اليوم فأي كفة ترجح كفة الكاتب الحق أم كفة الكاتب المأجور ؟
هناك اعتقاد سائد عندنا وهو أن المؤرخ كالسياسي إما أن يكون في السلطة أو المعارضة وهذا في نظري اعتقاد خاطئ، فالمؤرخ قد يكون متفقا مع السلطة في بعض مواقفها وقد يكون مخالفا لها منتقدا تصرفاتها. مع العلم أنه يؤرخ لسلطات سابقة عن زمنه وليس بالضرورة لسلطة قائمة في وقته. وأمامنا مؤرخو الدول الغربية المعاصرة فهم يشاركون السلطة القائمة في توجهاتها أحيانا حتى يشعرونك بأنهم قد أصبحوا من خدامها ومن الممهدين لنشاطها وتدخلاتها ولكنهم قد ينتقدون قادتها نقدا لاذعا على تصرفاتهم الحمقاء إذا رأوا أن ذلك ضد مصالح الأمة ثم إن المؤرخ ليس دائما هو الذي يؤرخ لعصره ذلك أن عصور التاريخ كثيرة ومتباعدة ولكن رموز السلطة تكاد تكون واحدة ولذلك فإن المؤرخ يجد نفسه ناقدا لسلطة عصره أو مؤيدا لها صراحة أو ضمنيا وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك مؤرخا محافظا وآخر ليبراليا وهناك المؤرخ المستقل البعيد عن أهل القرار. وبالجملة فالمؤرخ إنسان قبل كل شيء يتأثر بما حوله من بيئة وأسرة وتطورات علمية وسلطة وإعلام وتقاليد. وحديثي الذي أشرتم إليه كان عن الكتاب وليس المؤرخين وللأسف فإن البعض من الكتاب خضع لإغراءات السلطة وأحيانا ضغوطاتها وأيديولوجياتها فانضموا إليها وطبلوا لها وغنوا معها في زفه واحدة وهم بذلك تركوا الشعب والمستقبل والضمير وراءهم فكانوا مأجورين وليسوا أصلاء، وكان إنتاجهم إنتاجا ظرفيا سرعان ما ذرته الرياح وهذه الظاهرة ما تزال ماثلة عندنا، فلدينا كتاب ومؤرخون وباحثون وأدباء تغريهم السلطة بالمناصب والألقاب فينجذبون إليها فإذا أدخلوا بيت الطاعة استلذوا الحياة وصعب عليهم الخروج من البيت لأنهم أصبحوا مثقلين بالذرية ومطالب الحياة اليومية، فماتت فيهم المواهب وانقطعت الطموحات وحل بهم البؤس الفكري. وأشهد أن البعض ممن رفضوا بيت الطاعة وجدوا أنفسهم مهمشين في وطنهم وفيهم من اختاروا وطننا بديلا مع الأسف .
السلطة في الجزائر منذ الاستقلال تريد من الكاتب أن يقول خيرا أو ليسكت وهذه الحكمة كما تقولون إن جازت في الأخلاق فإنها لا تجوز في العلم والتاريخ ولهذا تجاوزتها ورفضت أن تسكت فكيف تمكنت من كتابة ما كتبت؟
الخير الذي تريده السلطة هو خيرها هي أي المدح والثناء والسكوت عن الظلم والاستبداد والتجاوزات وهذا الدور إن جاز أن يقوم به علماء السلطان وحتى العملاء فإنه لا يجوز أن يقوم به المؤرخ صاحب الضمير الحي والرسالة الإنسانية والوطنية. وتاريخنا الإسلامي والجزائري ملئ بالأمثلة للكتابات السلطانية وإذا رجعنا إلى تاريخنا المحلي (في منظور تاريخ الأمة الإسلامية) وجدنا علماء سلاطين بني زيان من أمثال محمد التنسي صاحب كتاب (نظم الدر والعقيان) ويحيى ابن خلدون (أخو صاحب المقدمة) في كتابه بغية الرواد، وفي شرق الجزائر وجدنا علماء سلاطين أمثال أحمد بن القنفذ صاحب كتاب (الفارسية). وفي العهد العثماني نجد ابن ميمون صاحب التحفة الرضية وابن سحنون صاحب (الثغر الجماني) وأبا راس الناصري في (عجائب الأسفار) وابن زرقة في (الرحلة القمرية). فهذه الكتب عندما تقرأها تتخيل أنك تنشد قصيدة مدح وليس تاريخ دولة.
نمط من مؤرخي السلطة. فنحن نجد في العهد الفرنسي كتبا ناقدة من أمثال (المرآة) لحمدان خوجة و(تحفة الزائر) لمحمد بن الأمير و(تاريخ الجزائر في القديم والحديث) لمبارك الميلي الهلالي و(كتاب الجزائر) لأحمد توفيق المدني، أما عن موقفي فإنني كتبت ما كتبت بعيدا عن السلطة التي لا أشعر أنني مدين لها بشيء. وعندما يتحرر الإنسان من “الديون” يستطيع أن يفكر بحرية ..والحق أنني لم أطلب من السلطة شيئا لم تعطني إياه حتى أغضب فأكتب ضدها فأنا ألاحظ وأبحث وأكتب ما قد يكون لصالحها أو ضدها دون شعور بأنني أسترضي أو أهاجم لغرض ما، وكلما ابتعد المؤرخ عن الطمع كلما شعر بالحرية وكتب ما يمليه عليه الضمير والحقيقة وأنا لا أثأر من أحد ولا أطمع في أحد قناعة بما عندي .
أملكم هو أن تخرج من الجامعة الجزائرية فئة من الباحثين المتمرسين و المسلحين بوسائل العلم و البحث و المقتنعين بضرورة حمل الرسالة، رسالة كتابة تاريخ الجزائر منذ القديم من وجهة النظر الوطنية، هل تحقق هذا الأمل بعد عقود من التدريس في قسم التاريخ، و تخرج أجيال على أيديكم؟
للأسف لم يتحقق إلا القليل من ذلك، فالشباب كانوا مندفعين يبحثون عن عمل وسيارة وسكن وكانوا يتهافتون على المناصب والألقاب البراقة ويحسبون أن ذلك هو نهاية الأمل وآخر الدنيا وربما يعتقد الواحد منهم أنه إذا وصل إلى المنصب المرغوب فإنه يستطيع أن يحقق بواسطته السمعة والوجاهة والمصالح الشخصية (الاتصال بالمسؤولين، السفر على حساب المؤسسة، المنح والعلاوات ونحوها …) وقد أغرتهم السلطة بهذه المناصب إرضاء لضعفهم الإنساني فلم تشترط على من توليه المناصب كفاءة ولا مؤهلا علميا محترما يكفي أن تجد في الشخص الولاء والإخلاص لها، كل ذلك كان على حساب مستوى التعليم والبحث وتقدير أصحاب الدرجات العلمية وإرساء التقاليد الجامعية.
وبهذه الطريقة انعدمت المقاييس العلمية والأخلاقية والمهنية في الجامعة ولم تعد المؤهلات شرطا، ولا كرامة التقاليد الجامعية وسيلة، فاختلط الحابل بالنابل وأصبح المعيد أستاذا، وحامل الماجستير دكتورا، ورئيس المؤسسة الجامعية لم يمارس التدريس بالمرة ولا يعرف كيف يكتب بحثا. واختلطت أيضا التخصصات فأصبح حامل الماجستير متخصصا في موضوع المذكرة التي كتبها (أو كتبت له ) وهي لا تعدو أن تكون عن حادثة معروفة في التاريخ الوطني أو عن قرية في القطر الجزائري أو عن شخصية كان لها دور صغير في الحياة العامة، فبقيت الجامعات الجزائرية تكرر نفس التخصصات وتشرب من المياه الراكدة لأنها لم تساير التطور الواقع في مجال التاريخ والعلوم الاجتماعية بوجه عام، فهي الآن تشكو من الجهل بالتخصصات في المناطق الأخرى من العالم سواء في العصر الحاضر أو العصور الغابرة. ومعرفتنا لتجارب الشعوب والأمم من حولنا معدومة أو محدودة جدا، فقد عجز أساتذة الجامعة الجزائرية عن مجاراة البحث حتى في الدول العربية التي تبع معظمها منهجا صارما في التعيينات والترقيات والتقدم العلمي، كما عجزوا عن المساهمة في المجلات المتخصصة ببحوثهم الرصينة. أما القلائل الذين أحسوا من أنفسهم القدرة على مجاراة التقدم العلمي وكانوا يتمتعون بمواهب وطموحات إنسانية مبررة فإنهم اختاروا الهجرة إلى خارج الوطن وتوزعوا على المعاهد والجامعات الأجنبية بما فيها العربية وقد أثبتوا وجودهم وكفاءتهم، وهم اليوم منتشرون في الأرض من ماليزيا إلى أمريكا، ومن الأردن إلى فرنسا، وقد لعبت المسألة اللغوية دورا في وجودهم في هذا البلد أو ذلك .
كتبتم أكثر أعمالكم خارج الجزائر لأن الباحث- كما قلتم – لا يحتاج فقط إلى لقمة العيش بل يحتاج إلى المكان المناسب والزمان المواتي والجو المستبشر فهل توفرت لكم هذه العوامل اليوم في الجزائر ؟
ربما هي أفضل من السابق ولكنها عوامل جاءت مع التقدم في السن والشح في العطاء العلمي وما زلت أحس أنني إذا نزلت ضيفا على إحدى الجامعات الغربية فإنني أعمل أضعاف ما أعمله في الجزائر وذلك لأسباب منها :سهولة الوصول إلى الكتاب والوثيقة بحيث يجري العمل داخل المكتبة أو المختبر دون واسطة ودون طلبات وبيروقراطية ولا تقاعس من المسؤولين، ثانيا :وفرة المكان بحيث تختار المكان الذي يناسب للجلوس والاختلاء والقراءة والتحرير دون تعطيل من أصحاب “السلام عليكم” و”تعال نشرب قهوة” واسمح لي يا أستاذ أسألك عن… ثم الحديث عن السياسة والقيل والقال من فلان وفلان دون طائل فالإمكانيات المشار إليها غير متوفرة في بلادنا مع الأسف، ففي الجامعة مثلا لا توجد مكتبة خاصة بالدراسات العليا والأساتذة الباحثين تحتوي على مكاتب منفردة، كما لا توجد مكاتب للأساتذة لاستقبال الطلبة والاستماع إلى متطلباتهم البحثية ولا خلوات لكتابة موضوع محدد أو تصحيح أوراق الطلبة أو الرد على البريد العلمي أو كتابة تقرير على أطروحة معروضة للمناقشة، إن ما نستغربه هو أن المسؤولين على جامعاتنا يسافرون ويطلعون على ما حققته الجامعات الأجنبية من تطور وتقدم ومع ذلك يهملون الجامعات المسؤولين عليها ولا يحاولون حتى تقليد بعض هذه الجامعات الأجنبية. فمتى تخرج الجامعة الجزائرية من هذه الدوامة، دوامة الإهمال والاعتقاد بأن الجامعة هي مجرد حيطان غير مكتملة فيها شبه هيئة تدريس “يتأستذون” على طلاب ذوي عقليات محلية يظنون أن التعلم في الجامعة لا يكاد يختلف عن التعلم في الثانويات والزوايا إلا في التعبير عن الحريات الفردية البدوية كردود الفعل الغاضبة المتمثلة في الإضراب وحرية التغيب عن الدروس .
لماذا أهديتم تاريخ الجزائر الثقافي إلى جيل ما بعد الثورة أهو اليأس من جيل الثورة الذي قصر في كتابة تاريخه حتى تطاول عليه أطفالنا فطالبوا برميه في المزبلة وتطاول علينا المستعمرون فاعتبروا جرائمهم فضائل وإيجابيات ؟
جيل الثورة قام بواجبه المقدس وهو تحرير الوطن وقد استشهد منه من استشهد على قناعة وإيمان وكان مسلحا بعقيدة الحرية للوطن والنضال من أجله إلى الموت. ولكن من بقي من ذلك الجيل على قيد الحياة لم يواصل كله مسيرة النضال عجزا أو خورا، وقد بدل وغير وجذبته الحياة بمغرياتها وانخدع لبعض الشعارات واستسلم لبعض الضغوط وتخلى بعضهم صراحة عن المبادئ التي كان يكافح من أجلها، والانحرافات التي كان ضدها، وقد غلبت على هؤلاء الأنانية والجهل بحقائق الأشياء وسلموا الراية لمن لا يستحقها ولا يعرف قدرها وتسامحوا مع من خانوا الثورة وعفا عنهم، ربما اضطرارا لا اقتدارا فكيف أهدي كتابي إلى هؤلاء كما لا يمكنني أن أهديه إلى من لا يفهم مغزاه ولا يفك رموزه. لقد عاشت الثورة في دمي وشعري وشعوري وقلمي، وقد كتبت أخيرا مقالة عنوانها “علمتنا الثورة”، وأغلب من عاش عهد الثورة يدرك ما أعنيه مما كتبت فيها وكثيرا ما ألتفت إلى الوراء وأتنهد حسرة مستغربا كيف حصل للثورة ما حصل ونحن سادرون كأننا في غيبوبة، أين وحدة الجزائر ؟أين لغة الجزائر؟ أين إسلام الجزائر؟ أين علوم الجزائر؟ كيف تحقق ثورة إيران ما لم تحققه ثورة الجزائر؟ إن الخائن ليس هو الذي يبيع وطنه فقط ولكنه قد يكون الذي يتخلى عن قضيته أو يكيد لمن يعمل لصالح هذه القضية، لذلك أهديت كتابي إلى جيل ما بعد الثورة، وهو جيل برئ غير محدد الزمان وأعني به الجيل الذي سيكفر عن ذنوب آبائه ويرفع قدر الجزائر من جديد كما كان مرفوعا في عهد الثورة ويحقق لها ما عجز عنه آباؤه من وحدة وتقدم ورخاء .
في شكركم لمن ساعدكم في عملكم هذا نوهتم في نهايته بدور حرمكم المصون وقلتم إنها هي التي أملت علي معظم فصول الجزء الأول من مسودته أثناء التصحيح كما أنها طالما دلتني أثناء البحث على مراجع وطالما ساهمت معي في مناقشة الأفكار وفي وضع الخطة وترجمة بعض العبارات الأجنبية ومسائل أخرى لم أكن قد اهتديت إليه.ا فهل الزوجة باحثة هي الأخرى في التاريخ؟
زوجتي سيدة واسعة الثقافة ومزدوجة اللغة وقد أصبحت بعد رحلتنا إلى أمريكا ثلاثية اللغة وهي قارئة دقيقة ومتذوقة ناقدة للثقافة العربية وغيرها، ولكنها غير منتجة لها وقد قدمت إلي مساعدة عظيمة في مسيرتي البحثية إيمانا منها برسالتي الثقافية الوطنية، وهي التي واستني حين ضاعت محفظتي الثمينة وكدت أصاب باليأس والإحباط، وهي التي شدت من أزري كلما واجهتني عراقيل وتحملت معي الغربة وشظف العيش والحرمان .
ضياع محفظتكم بما فيها من فصول مكتوبة وأوراق وإضبارات وبطاقات سنة 1988 صدمكم لعدة سنوات فلماذا بالضبط وكيف تجاوزتم تلك المصيبة وأعدتم جمع وكتابة ما ضاع ؟
لذلك قصة طويلة لا يتسع لها هذا المجال وقد تحدثت عن ذلك في كلمة منشورة بعنوان “نكبة ثقافية” كما أشرت إليها في مقدمة الجزء الثالث من التاريخ الثقافي ومقدمة الجزء الثاني من الحركة الوطنية. وقد بقيت جرحا لا يندمل رغم أني أعدت كتابة الفصول الضائعة من الحركة الوطنية وغيرت منهجي في خطة التاريخ الثقافي في عهد الاحتلال، وراجعت كتبا ومخطوطات كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد ومع ذلك فاتني الشيء الكثير رغم ما حفظته ذاكرتي وما ظل في بعض البطاقات الباقية. ولكن الذي لم أستطع ولن أستطيع إعادة كتابته هو (يومياتي) التي استغرقت مني عدة سنوات والتي كان دفترها لا يفارقني أبدا وقد كنت دائم التسجيل فيه ما أرى وأسمع وأعيش من تجارب كل ذلك ذهب أدراج الرياح وربما سيظهر ذات يوم عند أقوام آخرين أو في بلد غير بلدنا. ومن يدري فقد يكون عدا عليه الزمن بالحرق والتلف كما توقع له الشرطي البريطاني عندما أخبرته بنكبتي
تقولون إن الجزائر ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء. ألا ترون أن ظلم أبنائها اليوم فيما يتعلق بتاريخها أشد ؟
عندما تحدثت عن ظلم الأشقاء والأعداء كان في زمن الثورة وما قبلها، أما ظلم الأبناء أو حتى ظلم النفس فهو يتعلق بما بعد الثورة، بل ربما هو ظلم دائم ولولا ظلم النفس (وظلم الأبناء) لما تجاهلها أشقاؤها واعتدى عليها أعداؤها. وقد كتبت ذات يوم أن الجزائري يتواضع إلى درجة المحاق، فلا يترك لنفسه مكانا بين العالمين بل يرى غيره قد احتل مكانه ولا يتحرك لأنه غير مؤمن بنفسه وبدوره الإيجابي، فهو مسحوق في اللغة ومسحوق في الدين وجاهل بما حوله. انظر ماذا يجري عندنا اليوم، إننا نعتز بأشياء غيرنا نعتز بلغة الفرنسيين وندعي معرفة الحضارة الأوروبية على حساب حضارتنا، إننا لا نثق في أنفسنا ندعي الوطنية ولا نتمسك بمبادئها وندعي الثورية ولا نأخذ بلوازمها نعتز بالجزائر ولكننا نسعى للخروج منها ونشبعها كل حين سبا ولعنا. أليس هذا ما يريده أعداؤنا ؟ أليس ذلك هو الاستلاب بعينه ؟تلك هي “جدلية” ظلم الأبناء والأشقاء والأعداء إنها جدلية تاريخية يطول بنا الحديث إذا رجعنا إليها هنا بالتفصيل وللأسف ليس لنا برنامج للتخلص من هذه الظاهرة السلبية الخطيرة .
عرف عنكم عدم المجاملة في قول الحقيقة التاريخية، و قد فعلتم ذلك، حيث قلتم عن أهل سوف إنهم إما هاربون أو منفيون، و هذا ما رأى فيه البعض تشكيكا في تاريخ أهل المنطقة، ألم يجلب لكم هذا نقمة ذوي القربى؟
لعلك تشير إلى ما نقلته عن الشيخ العدواني ( و هو من سوف )حين قال إن سوف “مانعة الهارب”، و هو بالطبع يقصد الهاربين إليها من ظلم الحكام و قسوة الطبيعة و جور الزمان. وسوف هي موطن قبائل طرود و عدوان و سعود الهلالية و السليمية (من بني سليم) . و قد انضافت إليهم أقوام جاؤوا من الغرب (تيهرت و فاس و تلمسان…) فاختلفوا و تزاحموا على المراعي و الماء، و دافعوا عن أنفسهم ضد بايات تونس و بايات قسنطينة الذين لا يعرفونهم إلا عند جباية الضرائب.
بالعكس، إن أهل سوف كانوا ينشدون الحرية، ألا ترى أن الإنسان هناك في رحلة دائمة بحثا عن حريته في تدبير معاشه و ممارسة شعائره. و في القرن السادس عشرأصبحت أمريكا هي ” مانعة الهارب ” في نظر المضطهدين الأوربيين أيام ما عرف بثورة “الإصلاح الديني” و ما تلاه من هجرة و هروب بالعقيدة و الروح. و أذكر أنني قضيت سنوات الثمانينات صيفا في سوف رغم الحرارة و الجفاف من جميع النواحي، فكدت أقضي عجبا و دهشة، بلاد في ركن مجهول من خارطة الجزائر، أهلها يعيشون العيشة التي كان أجدادهم يعيشونها أثناء الاستعمار الفرنسي، و قد عشتها معهم في كلتا الحالتين و وصفتها وصفا أثار عجب البعض و لم يصدقوا أن ذلك ممكن الحدوث في العصر الحاضر، و ربما رأى البعض في ذلك الوصف مبالغة لا ضرورة لها.
من الشائع عندنا أن البربر قد قاوموا العرب مقاومة شديدة أيام الفتح الإسلامي. وقد روج لهذه الفكرة الجهلة من المؤرخين الأولين و تناقلها الرواة بدون تساؤل أو تمحيص كما تقولون. فأين الحقيقة التاريخية؟
هناك حقيقة يجب أن نعيها أولا و هي أن البربر لم تكن لهم دولة خاصة بهم عندما حل بينهم الفاتحون المسلمون. فالفرس كانت لهم دولة و الروم كانت لهم دولة، و قد فتح المسلمون بلاد فارس و أسقطوا نظام الكياسرة، و اصطدموا ببلاد الروم و أسقطوا نظام الروم في الشام و مصر، و كانت بلاد البربر امتدادا لهذا النظام الرومي البيزنطي. فلم يستول الفاتحون المسلمون على عاصمة الروم (بيزنطة)، و لكنهم استولوا على أجزاء من دولتها. وصل الفاتحون إلى بلاد المغرب من مصر التي كانت إقليما من أقاليم بيزنطة. فمن الناحية الاستراتيجية لا يمكن أن يستتب الأمن في مصر و دولة الروم قائمة في بلاد البربر و في أناضوليا. لذلك كان من المنطق التاريخي متابعة الفتح أو تتبع الوجود الرومي القائم غربي مصر لتأمين فتح مصر.
والحقيقة الثانية أن البربر كأقباط مصر، لم يكونوا كلهم على موقف واحد إزاء المسلمين ولا إزاء الروم. فمنهم من كان ساخطا على الحكم البيزنطي فاستقبل الفاتحين المسلمين بحفاوة وترحيب، ومنهم من كان حليفا للروم في الدين و الدنيا فوقف مع الروم ضد المسلمين. والمعارك التي دارت من بني غازي إلى طنجة كانت في الواقع بين الأسطول الرومي (البيزنطي) وبين الحاميات الإسلامية في الثغور الليبية والتونسية، لذلك تحملت المدن الساحلية و بعض المدن الداخلية العبء الأكبر في الدفاعات البيزنطية ، بينما لم تشهد البراري والأرياف حيث البربر معارك كثيرة بينهم وبين المسلمين. وما حدث بعد سقوط النظام البيزنطي في بلاد البربر كان بين قيادات محلية (مدعومة من البيزنطيين المنهزمين) وبين قادة الفتح الإسلامي، وليس بين نظام سياسي وسلطة دولة وبين الفاتحين المسلمين. وعندما انتهت انتهى دور القيادات المحلية وانتهت معها المقاومة و دخل البربر في دين الله أفواجا.. وتولوا هم قيادة الجيوش الإسلامية وأصبحوا من الفاتحين الشجعان، ولأمر ما لم يتعرض كسيلة للمسلمين الذين بقوا تحت سلطته سنوات، ولأمر ما أكرمت الكاهنة المسلمين الذين وجدتهم في صفوفها.
الحقيقة الثالثة وجود فراغ نتيجة عوامل تغيير في بنية الدولة الإسلامية، من ذلك بعد بلاد البربر عن مركز الخلافة الذي كان في المدينة المنورة ثم دمشق، و كون والي مصر البعيد عن الأحداث هو الذي كان حاكم بلاد البربر أثناء و بعد الفتح لفترة غير قصيرة، و عدم استقرار الخلافة بعد الخلاف الذي حدث بين علي و معاوية و قبل استتباب الأمر لمعاوية… و معنى ذلك أن الجيش الإسلامي كان منشغلا بما كان يحدث شرقي وادي النيل، بينما تركطت شؤون بلاد المغرب إلى والي مصر من جهة و إلى قادة غير مدعومين وجدوا أنفسهم في بلاد بعيدة ما زالت تحت التأثير البيزنطي. فما يقال عن مقاومة البربر للإسلام و العرب قول مردود بالحقائق التي ذكرناها. و قد بالغ في ذلك الفرنسيون و الجهلة بمسيرة الفتح من المسلمين حتى جعلوا من” الحبة قبة” كما يقولون، و ما زال هؤلاء الجهلة من المسلمين موجودين إلى اليوم حتى في أقسام التاريخ بالجامعات و في المدارس الثانوية و عند بعض مؤلفينا و ساستنا.
تقولون إن البربر ليسوا جنسا أو أمة خاصة و أن العبارة في حد ذاتها لا تعني شرفا يعتزون به و لا حضارة ينتمون إليها، بل تعني الضعة و المرتبة الدنيا بالقياس إلى الرومان الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ممتازين . فما هي الشواهد و الحقائق التاريخية التي أسستم عليها حكمكم و دعوتكم؟
تقاس الأمم بمساهمتها في الحضارة الإنسانية، فالحكومات تأتي و تذهب، والدول تنهض وتسقط، و لكن الحضارة تبقى خالدة حتى بعد سقوط الحكومات و الدول. فهؤلاء الهنود و قدماء المصريين و الصينيين و الفرس و الإغريق أمم ذات حضارة رغم أنها أمم سادت ثم بادت في أغلبها. و هي أمم معاصرة لظهور الإسلام ، و المؤرخون الذين تحدثوا عن البربر كابن خلدون تحدثوا عن حجمهم و مجالهم الجغرافي و قوتهم الحربية، و لم يتحدثوا عن حضارتهم و تراثهم الفكري والعلمي. وكان العرب قبل الإسلام يشبهون البربر لعدم تأسيسهم لدولة واحدة وتموقعهم في فضاء جغرافي واحد. و لولا الكعبة المشرفة و رسالة الإسلام الباهرة لما كان العرب يختلفون عن البربر في المكانة التاريخية بين الأمم. و ربما لولا الإسلام لما كان للبربر مكان اليوم، فهو الذي حررهم من ربقة الشعوب التي استغلتهم (الرومان، الوندال، البيزنطيون)، والإسلام هو الذي اندمج البربر في حضارته العربية الإسلامية حتى أصبحوا أكثر اعتزازا بها من أهلها كما فعل بربر الأندلس و مراكش و فاس و القيروان و تلمسان و بجاية.
لقد تخلص الألمان من صفة (البربار) التي كان يطلقها عليهم الرومان، و أنشأوا حضارة ألمانية في ظل المسيحية، كما تخلص البربر من هذه الصفة و أنشأوا ممالكهم الإسلامية ذات الثقافة العربية بدون عقدة في ظل الإسلام الذي دافعوا عنه أكثر ربما مما دافعت عنه الشعوب الإسلامية الأخرى، فالغربيون يتكلمون عن “مقاومة” البربر للإسلام و لكنهم يتغاضون عن شدة دفاع البربرعنه بعد أن آمنوا به. و ربما لا يشبه البربري في هذا الدفاع عن الإسلام إلا الأتراك الذين كانوا أيضا قبائل بدوية غازية فاعتنقت الإسلام و أصبحت من أقوى المدافعين عنه، و هو العامل الذي وحد أيضا بين البربر و الأتراك في الدفاع عن الإسلام أيام الجهاد البحري في البحر الأبيض المتوسط.
بنو هلال همجيون و وحشيون و جراد أكل الأخضر و اليابس، خربوا العمران و ارتكبوا المجازر و شوهوا الإسلام، كما هو شائع، هل هذه أساطير أم حقائق تاريخية؟
حركة بني هلال نحو الغرب الإسلامي (أو تغريبة بني هلال كما أطلق عليها في القصص الشعبي) يجب دراستها في إطار الصراع السياسي ـ المذهبي في ذلك الوقت، فهم قبائل بدوية انتقلت من الحجاز إلى مصر أغراها الفاطميون في مصر بخصومهم في بلاد المغرب “لخيانتهم” بتخليهم عن المذهب الفاطمي و عودتهم إلى المذهب السني. فالهدف المذهبي و الانتقام السياسي واضح في العملية. ثم إن بني هلال لم يكونوا غزاة بالمعنى الديني، و إن لأهل الاقتصاد ما يقولون في هجرتهم المكثفة أو تغريبتهم و في وقعها على المهاجر و المهاجر إليه. و لعلماء الاجتماع ما يقولون أيضا في هذا الموضوع. و لكن الثابت أن عدد المهاجرين من بني هلال غير معروف، و أنهم هاجروا بعائلاتهم و أثقالهم مما جعل حركنهم بطيئة. و قد تلقت مدن ليبيا دفعتهم الأولى، و كان سيرهم البطيء قد أثر عليهم و على من نزلوا عليهم. فقد عانت عائلاتهم من الجوع و المرض و مات الكثير منهم أثناء الطريق، و لعلهم كانوا سببا في موت الآخرين أيضا، و هي عملية ليست شاذة في التاريخ، و لعل آخرها هجرة الباكستانيين من الهند و هجرة الأتراك من اليونان و بلغاريا، و هجرة البوسنيين من بلاد الصرب. ثم تلقت المدن التونسية الموجة الثانية من بني هلال، و هي مدن (القيروان ، المهدية…) كانت الطبقة الدينية و الغنية تترسخ فيها بحيث أصبح هناك مجتمع حضري حريصا على مصالحه المادية، فكان أهله يرون في هجرة هذه القبائل البدوية خطرا على مصالحهم. و من الملاحظ أن بني هلال لم يدخلوا المدن هكذا دفعة واحدة بل أن قافلتهم طويلة الذيل. فكان الوصول إلى المدن وأماكن العمران قد أخذ وقتا طويلا لبعد المسافة، و كلما تقدم الركب نحو الغرب تخلفت منه جموع في ليبيا و في الأراضي التونسية الأخرى إلخ…
و مما يذكر أن بني هلال بقدر ما كانوا سببا في الإضرار بأهل الحضر بقدر ما أفادوا أهل السياسة في تونس و الجزائر و المغرب لأن هؤلاء كانوا يشكلون إمارات متنافسة و رأوا في فرسان بني هلال الحلفاء المناسبين لهم. خصوصا و هم من أهل السنة مثلهم ، كما رأى بنو هلال في ذلك التنافس فرصة لهم في دخول معترك الحياة على أرض الواقع. فتحالف كل أمير مع فرع من بني هلال و انتصروا بهم على خصومهم، فأصبح بنو هلال جزءا من النسيج الاجتماعي و السياسي و الثقافي لإمارات شمال إفريقيا عندئذ.
و آخر ملاحظة نذكرها بهذا الصدد أن أول الكتاب عن تغريبة بني هلال هذه كانوا من حضر المدن و من العلماء و الفقهاء الناقمين على زعزعة الأحوال بعد استقرارها على إثر خروج الفاطميين من شمال إفريقيا إلى مصر. و يبدو أن ابن خلدون قد روى ما رواه أهل الحضرعن بني هلال لأنه كان مقتنعا بنظريته الجديدة و هي تغلب البدوي على الحضري، كما أخذ المتأخرون عنه هذه النظرية و لا سيما الفرنسيون بدون مساءلة. إن مسألة الهجرة الهلالية تحتاج إلى أكثر من بحث منصف من أهل الاختصاص ، و لا تكفي فيها هذه السطور المستعجلة.
يجب النظر إذن في قصة بني هلال قديما ضمن الصراع السياسي ـ المذهبي من جهة ، وحديثا ضمن الصراع الاستعماري ـ الوطني من جهة أخرى. و لم تكن تغريبتهم هجمة تأديبية مفاجئة ثم تراجعت، بل إن أخبار قدومهم سبقتهم سنوات عديدة من مسافات بعيدة، و بقدر ما كانوا ربما غلاظا في سلوكهم المدني بقدر ما عززوا بوجودهم المذهب السني و ثبتوا أقدام اللغة العربية و نصروا حلفاءهم أمراء الممالك الإسلامية في المنطقة. و من ثمة يمكن القول إن بلاد المغرب الإسلامي اليوم مدينة في حضارتها لبني هلال بالشيء الكثير، و ربما يجد سخط بعض المؤرخين على بني هلال تفسيره في هذا الإسهام الذي أسهموا به في ترسيخ الحضارة العربية الإسلامية في المنطقة.
العهد العثماني امتاز بالعنف الدموي و بالفوضى و انتشار الرشوة و الظلم و الفساد. و العثمانيون بهذا أشبه بالفرنسيين حسب النتائج التي توصلتم إليها في كتابتكم لتاريخ هذه الحقبة. فهل تعتبرون الحكم العثماني في الجزائر استعمارا؟
العثمانيون مسلمون مثلهم مثل الجزائريين، و هم من أهل السنة و يتبعون المذهب الحنفي في أغلبهم ، كما ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية الشرقية التي ينتمي إليها معظم المسلمين في زمنهم، و سلطانهم هو سلطان كل المسلمين (عدا الشيعة الصفوية)، وخليفة على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم. و قد تصاهر الجزائريون مع العثمانيين واندمجت أسر كثيرة من الطرفين حتى كونت نسيجا اجتماعيا واحدا، و ساد مذهبهم الحنفي في طبقة مولَدة (الكراغلة) منهم حتى أصبحوا يؤلفون فئة اجتماعية متميزة و “وطنية” حاولت أن تستولي على السلطة و أن تؤسس لمجتمع جزائري جديد و لكنها فشلت. و كان العثمانيون في المستوى الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي لا يكادون يختلفون عن الجزائريين، لأنهم جميعا كانوا يعيشون حالة التخلف التي كان العالم الإسلامي كله يعاني منها عندئذ بالمقارنة مع المجتمعات الأوربية الناهضة. و من ثمة فإن العثمانيين لم يكونوا “مستعمرين” كالفرنسيين ، فهؤلاء اعتدوا على شعب و احتلوا بلادا و أسقطوا نظاما سياسيا قائما، و استولوا على ثروات الجزائر و تشريد شعبها بالحروب الإبادية المتوالية في معظم الأحيان. و من اعتداءات الفرنسيين انتزاع الأرض من أصحابها و إعطاؤها إلى مهاجرين غرباء نزحوا من قارة أخرى و مثلوا حضارة أخرى، وهي العملية المعروفة في التاريخ بـ“الاستيطان”.
نعم هناك بعض التصرفات التي قد يتفق فيها العثمانيون مع الفرنسيين ، و منها إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية ثم في العهد الفرنسي بالدولة الفرنسية، و تولي حكم البلاد في كلتا الحالتين من قبل حكام غرباء عنها (باستثناء قلة من الباشوات و البايات في العهد العثماني)، و التعالي على أهل البلاد، و لكن العثمانيين لم ينتزعوا الأراضي من أصحابها و لم يقوموا بحركة توطين على حساب أهل البلاد، و لم يفرضوا على السكان مذهبا و لا لغة و لا ثقافة معينة ، بل أسهموا مع أهل البلاد في بناء المدارس و المساجد و الزوايا و توفير الأوقاف للشؤون العلمية والدينية و الاجتماعية. و قد تركوا اللغة العربية هي السائدة في التعليم و التأليف و الثقافة العامة. و انضم الكثير منهم إلى الطرق الصوفية المشهورة في وقتهم. و لعل أبرز ما تتجلى فيه العلاقة بين الجزائريين و العثمانيين هو الاشتراك في الجهاد البري و البحري ضد الغارات الأوربية المتكررة على السواحل الجزائرية و مدنها.أما الفرنسيون فقد عملوا على اقتلاع جذور الثقافة العربية الإسلامية و إحلال ثقافتهم محلها، و استرجاع الكنيسة الكاثوليكية و ترك الجزائريين في حالة تخلف مقصود بينما العالم يعيش عهدا جديدا من التطور و التقدم.
هناك مواقف للعثمانيين يظهر فيها استعمالهم للعنف. و قد وجد لهم المؤرخون مبررات في الثورات التي كانت تقوم بها قبائل الرعية و التمرد العسكري و ارتكاب بعض الجرائم. و لكن ذلك قد يكون راجعا إلى ثقافة الإنسان العثماني “التركي” عموما، و هو في الأصل فلاح من أناضوليا عاش حياة قاسية و ورث طبيعة الغزو و الغلبة، و هو إنسان مقطوع عن أهله و أرضه، و ربما هو جاهل بحقيقة الإسلام و طبائع الشعوب الأخرى. و كلمة “عثماني” يجب تحديدها، ذلك أن كل من كان يعترف بالسلطان و ينضوي تحت لواء الإنكشارية أو لواء رياس البحر، فهو “عثماني” سواء جاء من أناضوليا أو من البلقان أو من غرب أوربا، أو من المشرق العربي. و الجزائريون أنفسهم كانوا “عثمانيين” بهذا المفهوم ، أي من رعايا السلطان و “أبنائه”. أما إذا كان المقصود الأتراك فهم جنس خاص منحدر من سلالة قبيلة نازحة من أوساط آسيا و غرب الصين إلى ما هو تركيا حاليا تقريبا. فيجب عدم الخلط بين تعبير الأتراك و تعبير العثمانيين. و قد كان حكام الجزائر عثمانيين ينتمون في أصولهم إلى أعراق مختلفة و ليسوا أتراكا ينتمون إلى قبيلة نازحة من أوساط آسيا.
تساءلتم هل يصح أن نطلق على العهد العثماني “عهد الانحطاط الثقافي” و نحن نطرح عليكم نفس السؤال؟
السؤال ما يزال مطروحا، و قد سبق بعض مؤرخي الأدب العربي في المشرق فحكموا على العصر العثماني بأنه عصر الانحطاط الثقافي، و هم يقصدون بذلك الثقافة العربية الإسلامية طبعا، و قد حمَلوا العثمانيين عواقب التخلف الذي عانت منه الأمة الإسلامية، و الأدب العربي على الخصوص. بالنسبة للجزائر نجد العصر الفرنسي هو عصر الانحطاط الحقيقي لثقافتنا الوطنية. فبينما كانت أوربا، و منها فرنسا، تتمتع بالتقدم العلمي و التقني و الازدهار الحضاري، و بينما أخذت بوادر النهضة تظهر في المشرق العربي على يد المصلحين المعروفين في القرن التاسع عشر، دخلت الجزائر مرحلة الغيبوبة الثقافية لأن الاستعمار الفرنسي رفع شعار التجهيل والتفقير والمحاصرة السياسية و الفكرية للإنسان الجزائري . و لولا القبس الذي أضاءه ابن باديس و رفاقه باسم الإصلاح لاستمرت غيبوبة الجزائر و ربما فقدت هويتها الحضارية
و هذا في الواقع يقودنا إلى السؤال التالي: تكاد الجزائر تخلو من الأمية عند بداية الاحتلال الفرنسي ، و تكاد تخلو من المتعلمين عند الاستقلال، أليس هذا ما أسماه الرئيس الإبادة اللغوية؟
لقد استغرب قادة الحملة الفرنسية ثم من جاء بعدهم من الدارسين (أليكسيس دي طوكفيل، و مارسيل إيمريث مثلا) من انتشار التعليم في الجزائر العثمانية، و هو التعليم الذي سبق القول بأنه كان يشترك فيه المجتمع و الدولة معا و يتغذى من معين الأوقاف. لقد كانت الأمية عشية الاحتلال تكاد تكون منعدمة بين الرجال خلافا لما كان عليه الحال في فرنسا.أما بعد الاستقلال فقد سادت الأمية نتيجة هجرة العلماء و التحاق الطلبة بالمقاومة و تحويل سلطة الاحتلال المدارس و المساجد إلى أماكن تخدم الدولة الفرنسية (كنائس، اسطبلات، مستشفيات عسكرية، سكنات، مقرات لجمعيات دينية مهاجرة، التخلص منها بهدمها…) و الأدهى من كل ذلك هو استيلاء سلطة الاحتلال على الأوقاف الإسلامية التي كانت المورد الأساسي للتعليم و ما يتصل به.
و هناك ملاحظة لا بد من إبدائها هنا و هي أن انعدام الأمية في الجزائر لا يعني “التقدم العلمي” فيها، فالعقلية الأوربية مثلا قد تطورت منذ عصر النهضة و أصبحت ناقدة و فاعلة و متحررة، بينما العقلية العربية ظلت راكدة و كاسدة لا تتحرك إلا في فلك الدراسات التقليدية (حفظ القرآن الكريم، العقائد، و دراسة مبادئ اللغة، و الفقه، و بعض الحساب و الفلك…) بدون نقد و لا حرية فكرية و لا تجديد.و ذلك هو الفرق بين كثرة المتعلمين عندنا و قلة المتعلمين عند الفرنسيين.
بقي أن نشير إلى مسألة إبادة اللغة أو تدمير الهوية. لقد تناولنا هذا الموضوع في كتاباتنا عدة مرات. و قد سبقنا إليه الوطنيون في كل جيل وعملوا على مقاومة هذه الإبادة و هذا التدمير كل في مجاله. و من الأسف أننا نحن الجيل الحاضر نعترف بما حدث لهويتنا ـ بما فيها اللغة ـ وننعى باللائمة على الاستعمار. و لكننا الآن نفعل مثله أو أكثر منه في تدمير هويتنا بأنفسنا، فنحن نخرب هويتنا بأيدينا لا بأيدي الاستعمار، و ما دخل الاستعمار اليوم حين يتحدى تجار العاصمة أجدادهم و مواطنيهن فيكتبون لهم عناويم محلاتهم التجارية بالفرنسية فقط و بالحروف الغليظة و المزوقة و اللافتة للنظر. أليس ذلك تحطيما للهوية؟ أليس هو الانسلاخ عن الذات؟ ثم ما دخل الاستعمار حين يتكلم المسؤولون باللغة الفرنسية و يهملون لغتهم الرسمية، و يفرضون على المواطنين التعامل بالأوراق الإدارية المحررة باللغة الفرنسية وحدها، بل و يفرنسون حتى ما سبق تعريبه من الأوراق؟ أليس في ذلك ردَة شنيعة و تدمير لهويتنا بأيدينا؟ و سيقول التاريخ ذات يوم إنه لا العثمانيون و لا الفرنسيون ارتكبوا ضدنا هذه الفعلة المشينة في حق الوطنية و الهوية.
رغم أن الكتاب لم يقارنوا بين غزو التتار لبغداد و غزو الفرنسيين للجزائر.. و رغم قولكم نحن أيضا لن يكون هدفنا عقد المقارنة، “إلا أن قولكم” إذا وجد القراء أو وجد شبه بين ما حدث هنا و هناك فنرجو ألا تقشعر جلودهم أو تصفر وجوههم، يعني أن أوجه التشابة موجودة و مرعبة. فهل تعني بذلك الجرائم الكبرى لفرنسا في الجزائر و التي يضعها البعض في خانة الجرائم في حق الإنسانية، و إن لم تكن هذه فما هي أوجه التشابه المرعبة؟
نشرت حديثا مقالة بعنوان (الجريمة و العقاب) عن بعض جرائم فرنسا في حق الجزائر.و لم أذكر إلا القليل من الكثير لنرد فقط على دعاة تمجيد الاستعمار، سواء كانوا فرنسيين أو اندماجيين جزائريين. إن التتار لم يلبثوا في بغداد إلا كما تلبث العاصفة، لقد مروا من هناك فخلفوا ما يخلفه الإعصار من دمار، ثم نبتت الحياة بعدهم و زهت بغداد من جديد. أما إعصار الاحتلال الفرنسي فقد استمر قرنا و ربعا، و هو إعصار يمثل في حياتنا مرحلة من الهول و الدمار الشامل للإنسان و الأرض و الحضارة. و في بطء حركة الاستعمار حدثت تجريفات و أخاديد لا تزول بسهولة، و في سرعة حركته آلام و جراح طالما أنَت منها الأيتام و الثكالى و قلوب المبعدين عن الأهل و الولد و الوطن، أولئك الذين قضوا حياتهم في “غوانتنامو” الفرنسية دون أن يسمع أحد صراخهم أو يحس أحد بأشواق قلوبهم إلى الحرية. إن هناك أوجها للمقارنة بين مرور التتار بالعراق و مرور الاستعمار الفرنسي بالجزائر، و لكننا نخشى أن يظهر من يدافع عن الاستعمار الفرنسي لبلادهم بدعوى أن التتار قوم آسيويون متوحشون أما الفرنسيون فقوم أوربيون متحضرون.
قلتم كثيرا ما سألني السائلون عن سبب عدم كتابة تاريخ الثورة، فكنت أسارع بالإجابة : و متى كتبنا تاريخنا حتى لم يبق إلا تاريخ الثورة، و السؤال هل بدأتم كتابة تاريخ الثورة بعد كتابتكم لتاريخ الحركة الوطنية، و تاريخ الجزائر الثقافي؟
التاريخ يجب أن يكتب من مسافة زمنية معقولة أي بعد انقراض الجيل الذي صنع أحداثه، و كلما ابتعدت المسافة كلما توفر التفسير الموضوعي و معالجة الأحداث ببرودة علمية. أما إذا اقتربت المسافة فإن حرارة العاطفة هي التي ستطغى و تعطي للأحداث تفسيرا غير موضوعي يكون عادة خاضعا لنزوات الأشخاص الدين صنعوا الأحداث، فهم جميعا يعتقدون أنهم هم صانعو الحدث و أن الآخرين غائبون عنه أو ثانويون فيه.
و من ثم كنت أعتقد أن تاريخ الثورة ما يزال غير جاهز لتناوله في الكتابات التاريخية الأكاديمية. نعم يمكن تسجيله في شهادات فردية و تناوله في روايات أدبية و أحاديث صحفية… بل يمكن أن يكتب في شكل رسمي بطريقة ترصد الأحداث و المراحل الكبرى للثورة و مسيرة النضال الشعبي دون الدخول في التفاصيل كإضفاء الألقاب على الأبطال و التنويه بدور جهة دون أخرى و إبراز فضائل حزب دون حزب أخر. و في هذا المعنى كتبت أحيانا عن حدث تاريخي في شكله الجماعي، و لكني لا أزعم أني كنت أكتب – حين كتبت- تاريخ الثورة. أما جمع المادة التاريخية و الحصول على الوثائق و الشهادات فهذا من واجبي كمواطن عاش الثورة و امتهن البحث في التاريخ .
تساءلتم سنة 1987 في أية مرحلة نحن؟ هل نحن في مرحلة القبلية و من ثمة نكتب أو نحاول أن نكتب تاريخا قبليا، و أجبتم، يبدو من كل المؤشرات أننا كذلك، فنحن قبليون في تفكيرنا و سلوكاتنا و كتاباتنا، فهل نحن كذلك بعد عقدين من الزمن من طرحكم السؤال ؟
لدي شعور تدعمه الشواهد و المعايشة و هو أن الجزائري يمر بمرحلة اكتشاف الذاتـ فهو لم يدرس تاريخ الجزائر الشامل، و لا تاريخ العرب و الإسلام ولا تاريخ العالم، و تكاد معلومات الجيل الحاكم ألان عن التاريخ تنحصر فيها درسه أو سمعه عن تاريخ فرنسا و بعض رموزها في السياسة و الحروب و الآداب و الفنون، و بعض أعلامها الجغرافية. و ها هو الآن يكشف نفسه دون أن يشعر أنه ينتمي إلى وطن صغير اسمه الجزائر لا إلى إقليم اسمه المغرب العربي أو الشرق الأوسط، و لا إلى أمة إسلامية مترامية الأطراف و كثيرة السكان كانت ذات يوم تشكل الدولة الأعظم في العالم.
و بدل اهتمام الجزائري بما في وطنه من وحدة و تنوع و من ثورة و قوة أخد يهتم بعرشه (وعشيرته) و قريته و مدينته ظانا أن ذلك هو مجاله و فلكه. و أن أهله هم قبيلته و ليس مواطنيه في القطر الجزائري كله. هذه “المحلية” الضيقة نتج عنها جهل أو تجاهل للآخرين. و التقوقع الداني و الاعتزاز بماضي عائلي أو قبلي لا قيمة له في ميزان الأمجاد و البطولات و الحضارات، و إنما هو موضوع يصلح للدراسات الأنثروبولوجية التي تهتم بانكفاء الإنسان على نفسه و مدى استجابته او رفضه للتطور الحضاري من حوله .
و الخلاصة أننا مازلنا في مرحلة القبلية و ليس ذلك مقصورا على الفرد العادي بل نجده مع الأسف عند المسؤولين و النواب و الأساتذة و الأطباء و من في حكمهم ممن يفترض فيهم أنهم تجاوزوا مرحلة القبلية إلى مرحلة الجماعية و منها إلى الأمة. و الأمثلة على ذلك صارخة و هي تظهر في أحاديثنا و تصرفاتنا و انتماءاتنا و بالأخص حين يتولى الواحد منا المسؤولية .
تقولون نحن إلى الآن لا نملك تاريخا لثقافتنا يحدد معالمها و يكشف عن قيمتها ويضبط علاقتنا بها هل تعتقدون أن هذا ما جعل الجزائريين ممزقين في هويتهم؟
قبل أن أجيبك عن هدا السؤال: هل رأيت مسؤولا في مستوى وزير أو نائب أو زعيم حزب أو من في مقامهم يتحدث للشعب و هو يستشهد بوقائع تاريخ أمته، أخذا العبرة من أقوال و أعمال و أراء قادة الفكرو السياسية و الحرب في بلاده و من حضارته؟ إن أقصى ما يصل إليه أصحابنا من الاستشهاد و ضرب الأمثلة هو حكايات من مسيرة الحركة الوطنية. أو من وقائع التاريخ الفرنسي، أو ما قد يكون صرح به أحد القادة الفرنسيين في زمن الثورة التحريرية. أما مآثر أبطال الجزائر و أبطال العرب و الإسلام في المدى الزمني الطويل فلا نكاد نسمع أحدا منهم يأتي عليها. كيف، و الحال كذلك، يستطيع مسؤول أن يؤثر في شعبه و يسهم في ترسيخ هوية قومه؟
و مع دلك فإن عذرية العقيدة الشعبية في الهوية لم تصب بأذى و الحمد لله، صحيح أنها ما تزال غير متطورة طبقا للمفاهيم المعاصرة و غير مدعومة بالشواهد الحية و لكنها هي المادة الخام التي ظلت في “الحفظ و الصون” رغم زعازع الشك و قواصم التشكيك. من مثل: لا ندري من نحن..(دون تعليق المتكلم)، او القول بأن الاستعمار دمر هويتنا (دون تعليقه أيضا).
و قد قلت مرارا إن الحركة الوطنية وجدت طريقها إلى الهوية دون تردد. و إن قادة المقاومة و خامات الشعب كانوا يدركون من هم، و لذلك قاموا بكل ما أوتو من قوة دفاعا عن هويتهم، و لولا ذلك الرصيد القوي في عقيدة الهوية لذابت الجزائر في غيرها كما يذوب الملح في الماء.
المصدر: جريدة الحقائق الأسبوعية العدد21 الصادر في 17 مارس 2007
موقع الجزائر أونلاين