ذكريات وشهادات محمد حمودة بن ساعي: بدايات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: محمد حمودة بن ساعي-
أنشئت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رسميا في 05 ماي 1931 بالعاصمة الجزائر أي سنة بعد الاحتفالية بمناسبة قرن على غزو الجزائر والاستيلاء عليها. وكان الهدف، للتذكير، هو”التربية الأخلاقية”، وهو أمر لا يمكن للإدارة الاستعمارية أن ترفضه.
كان رئيسها الأول حتى وفاته هو الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهو ابن عائلة محترمة متجذرة في قسنطينة.بعد دراسة جادة بجامع “الزيتونة” بتونس العاصمة (أين تتلمذ على يد الشيخ محمد النخلي) وبعد أداء فريضة الحج بالبقاع المقدسة، حيث التقى أستاذه الأول بقسنطينة الشيخ حمدان لونيسي، باشر بجامع سيدي لخظر بقسنطينة في سنة 1912 أول درس له، وهو الدرس الذي واظب عليه دون ملل وبأقصى ما تتحمله صحته.فقد كان عليلا ومنهكا غير أنه احتفظ بكامل وعيه وجلاء بصيرته. توفي يوم 16 أفريل 1940 تاركا عملا غير مكتمل.
كان أول كاتب عام لجمعية العلماء هو لمين لعمودي، الذي قدم فيما بعد استقالته، لأن الإدارة الفرنسية لم ترتح له. ساهم لعمودي في إعداد القانون الأساسي للجمعية، وترجم إلى اللغة الفرنسية العرض العقائدي للجمعية والذي يحتوي على عشرين مادة كتبها الشيخ عبدالحميد بن باديس في جوان 1937، ونشرتها مجلة الشهاب واعتمدتها الجمعية رسميا بعدها. ويجدر أن أذكر بأن إنشاء جمعية العلماء تزامن بعض الشيء مع إنشاء “المؤتمر الإسلامي” الذي جرى في 1931 وقد كانت قراراته تمس كل العالم الإسلامي.
هل كان ثمة علاقة بين علماء الجزائر ومسؤولي المؤتمر ؟ من الصعب الجزم بذلك. من المؤكد أن الشيخ الطيب العقبي الذي عاش بالحجاز (حيث كان مديرا لحريدة “القبلة” بمكة وأنه كان قد تعرف على الأمير شكيب أرسلان زعيم “الوحدة العربية” والذي كان يعيش مغتربا بجنيف). غير أن هذا لا يسمح لنا بأن نخلص إلى أن جمعية العلماء كانت فكرة مستواحاة من الخارج. الإصلاح كان فكرة شائعة وكان لها رواد في هذا البلد. فقد تصدى الشيخ صالح مهنة وعبدالقادر مجاوي وعبدالسلام بن سمية ومولود بن موهوب، مفتي قسنطينة، في زمنهم، للشعوذة والبدع التي كانت تطبع “الدين الشعبي”. من المحتمل جدا أن إنشاء فكرة جمعية العلماء فكرة جزائرية خالصة. فبالفعل، ويجب أن يقال، كان أحد الجزائريين هو الذي وقف وراء فكرة جمعية العلماء. إنه عمر إسماعيل، وكان من وجهاء منطقة القبائل بالجزائر العاصمة وقتها ، وقد تنحى فيما بعد وطواه النسيان. لم تكن لعمر إسماعيل، الذي كان زميلي صالح عرزور مربيا لأبنائه، أهدافا سياسية. كان رجلا طيبا. طموحه الوحيد هو تشجيع التعليم والتربية في أوساط شعبنا.
حددت جمعية العلماء في بداياتها مهامها بحذر في “التربية الأخلاقية”، فقد أراد الشيخ بن باديس تعميق وتوسيع “التربية الأخلاقية” فسطر لها برنامجا لــ”الإصلاح الديني”، طبقا للسنة المطهرة الصحيحة،جمعية العلماء تطورت بسرعة على درجة أنها كانت سنة 1936 أحد الأطراف المنشطة لـ”المؤتمر الإسلامي الجزائري” (الذي كان حدثا فارقا في السياسة الجزائرية).في جوان 1937، وبمسجد سيدي لخظر بقسنطينة، قام الشيخ عبد الحميد بن باديس بتحرير بيان عقائدي على شكل نداء ذي مستوى فكري سام وبأسلوب واضح ودقيق، وجهه لجمعية العلماء التي يتولى رئاستها وللأمة المسلمة كافة.هذا البيان يختصر في عشرين نقطة العقيدة السنية للإسلام (كما وضع أسسها زعماء مدرسة السلفية) بالإضافة إلى الإصلاح الديني الذي اتخذه (وهو ما أثار ردات فعل من قبل المؤمنين المحافظين).
وعلاوة على ثقافته المزدوجة، كان لمين لعمودي، الأمين العام للجمعية وأحد مؤسسيها، يتمتع بمواهب خطابية وكتابية مشهودة، وكان هو من قام بترجمة البيان العقائدي الذي حرره الشيخ بن باديس. وقد نشر في مجلة “الشهاب” بتاريخ 11 جوان 1937 و”البصائر” بتاريخ 18 حوان 1937. غير أنه لم يضف في ترجمته، وهذا أمر مدهش، الآية الكريمة رقم 108 من سورة “يوسف” الذي اختتم بها ابن باديس البيان : ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108]. هل جال في خاطره أن عليه أن لا يترجم إلا النص الذي كتبه الشيخ دون غيره ؟ أو أنه اعتبر أن الآية المذكورة وردت في النص العربي، ولم يكن من الضروري ترجمتها على الفرنسية ؟ بالنسبة لي ولحاجتي الخاصة، وبعد أن قررت في ابريل 1952، إعادة ترجمة نص الشيخ بن باديس، فقد قدرت أن الآية لا يمكن فصلها عن النص، وقد ذكرها عن قصد وكانت خاتمة منطقية له. فبالنسبة للشيخ بن باديس، فإن هذه الآية، وقد كانت أحد الشعارين الأساسيين لمجلته “الشهاب”، ذات أهمية كبيرة لأنها تعبر عن فكره الداخلي. فقد كان يرى – على غرار كل مخلص يسعى لإتباع نموذج النبي صلى الله عليه وسلم – أن الدعوة إلى الله، يجب أن تخاطب قبل كل شيء الذكاء والعقل وهو ما يسمح لنا بالتمييز بين الحق والباطل، بين الخير والشر. يجب التوضيح والإقناع وتفادي بعناية كل ما له طابع الدعاية أو الديماغوجية. إن نزاهة العقل وحب الحقيقة يفرضان ذلك. الدعوة إلى الله يجب أن تتم في الجلاء والوضوح والنور. هذه هي رسالة المسلم الذي يريد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه هي سيرة كل إنسان يتطلع إلى الحقيقة.