نماذج قرآنية للقيادة المسؤولة
إعداد وتقديم: د.البشير صوالحي-
ينقلنا الإمام ابن باديس في تفسيره الجليل إلى عالم عجيب, تمتزج فيه المعجزة الإلهية في روعة انتقائه للأنبياء الأصفياء مع عجائب الخلقة في الأنفس والآفاق, مع ما يطبع ذلك من صور الانسجام والتفاعل بين مخلوقات الله,وقدرتها على التكامل في أداء مهمتها الرسالية, واستعداد بعضها لقبول سنة التسخير, في مقابل خدمة صاحب الرسالة الخالدة.
والآيات التي بين أيدينا, تعبر عن نموذجين رائعين للقيادة, نموذج بشري تمثله النبوة في أرقى تألقها ونجاحها, حين تخط طريقها بحزم في التمكين لدين الله مع حسن استخدامها لهيبة السلطان ,ونموذج غير بشري يمثله عالم النمل الذي فطر على الترتيب والتدبير,وهو في ذلك ملتزم بأوامر قيادته,حريص على سلامة أفراده ,وهذه هي قمة الشعور بالمسؤولية في موقع المسؤولية,وأفضل مثال لإحياء روح النظام والانضباط الذي يحقق سنة النهوض والبقاء , حتى عند من لا يدرك أهميته إلا بالفطرة من غير البشر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِين} (النمل: 15).
(علماً) نوعا عظيماً ممتازاً من العلم جمعا به بين الملك والنبوة، وقاما بأمر الحكم والهداية. (وقالا) قولهما متسبب وناشيء عن العلم، لكنه لو قيل: "فقالا" بالفاء، لما أفاد أن غير القول تسبب منهما عن العلم. ولماّ عطف بالواو دل على أن هنالك أعمالاً كثيرة كانت منهما في طاعة الله وشكره، نشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا.
(فضلنا) أعطانا ما فقنا به غيرنا. (على كثير) فهنالك كثير لم يفضلا عليه ممن ساواهما أو فاقهما. (من عباده المؤمنين) ففضلا بين أهل الفضل، فكانا من أفضل الفاضلين، وذلك بما أعطيا من النبوة وملكها.
يخبرنا الله – تعالى – عما أعطى لهذين النبيين الكريمين من هذا الخير العظيم، وعما كان منهما من الشكر له، والمعرفة بعظيم قدر عطائه، وإظهار السرور به، مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه، ومن إعلانهما ما كان لله عليهما من نعمة التفضيل العظيمة بحمده والثناء عليه.
تنويه وتأصيل:
قد ابتدأ الحديث عن الملك العظيم بذكر (العلم)، وقدمت النعمة به على سائر النعم، تنويهاً بشأن العلم، وتنبيهاً على أنه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأن الممالك إنما تنبني عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس، وأن كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار، وأنه هو سياج المملكة وذرعها، وهو سلاحها الحقيقي، وبه دفاعها، وأن كل مملكة لم تكحم به فهي عرضة للانقراض والانقضاض:
قال أبو الطيب المتنبي:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسَلِ *** والطعن عند محبيهنّ كالقبَلِ
نعم إن محبي الممالك الصادقين في محبتها، والذين تصلح لهم ويصلحون لها، هم الذين يستعذبون في سبيلها الموت، ويكون الطعن عندهم مثل القبل على ثغور الحسان. فأما الممالك التي تبنى على السيف فبالسيف تهدم، وما يشاد على القوة فبالقوة يؤخذ. وإنما أعلى الممالك وأثبتها ما بني على العلم، وحمي بالسيف. وإنما يبلغ السيف وطره ويؤثر أثره، إذا كان العلم من ورائه.
ولكن أبا الطيب – شاعر الرجولة والبطولة، وشاعر المعارك والمطامع – لا يرى أمامه إلا الحرب، وآلات الطعن والضرب فلا يمكن أن يقول – وقد غمرته لذة الانتصار، واستولت نشوة الغلب والظفر على لبه وخياله – إلا ما قال.
فقه وأدب:
يجوز لمن أنعم الله عليه بنعمه وفضله بفضيلة أن يفرح بتلك النعمة ويظهر فرحه بها، في معرض حمد الله عليها، من حيث أنها كرامة من الله، لا من حيث أنها مزية من مزاياه فاق بها سواه، مثل فعل هذين النبيين الكريمين، وكما قال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} (يونس: 58).
وكثيراً ما يكون التفات المرء إلى نفسه حاجباً له عن غيره، فيذكر من شأنه ما أفرحه، ويسكت عن غيره، وفيهم من هو مثله ومن يفوقه، فقد يجر هذا إلى عجب بنفسه، وغمط لحق من عداه.
فلهذا كان من أدب مقام الفرح بنعمة الله وحمده عليها، ذكر نعمته العامة عليه وعلى غيره، والإشارة إلى من فضلوا عليه؛ فيكبح من نفسه بتذكيرها بقصورها، ويرضى الله باعترافه لذي الفضل بفضله، وحكمة الله وعدله، وبوقوفه كواحد ممن أنعم عليهم من عباده.
إرشاد وإشادة:
أذكار الأنبياء – صلوات الله عليهم – من حمد وتسبيح وتهليل وغيرها أفضل الأذكار، وأجمعها وأسلمها. وقد اشتمل الكتاب العزيز على كثير منها. فعلى المسلم الحريص على الخير بها علماً وعملاً، فقد رأيت ما يحف بإظهار الفرح بنعمة الله من مخاطر إذا لم يتنبه لها، وقد جاء هذا الحمد النبوي محصلا للقصد، سالماً من كل خطرة بعباراته الموزونة الشاملة، التي لا يصدر مثلها إلا منهم لكمال علمهم وأدبهم، عليهم الصلاة والسلام.
الآية الثانية
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل: 16).
(الإرث) انتقال ما كان للميت إلى الحي، فيقوم فيه الوارث مقام الموروث، سواء أكان مالاً أو ملكاً أو علماً أو مجداً. والمراد هنا الملك والنبوة. (علمنا) أعطينا العلم، ولم يذكر المعلم – وهو الله – للعلم به فإن هذا التعليم ليس من معتاد البشر، ولا من طرقهم.
(منطق الطير) نطقها وهو تصويتها، وقد يطلق النطق على كل ما يصوت به الحيوان، فالحيوان ناطق، والجماد صامت.
(وأوتينا) أعطينا، والنون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها. (من كل شيء) هو على معنى التكثير، أو على معنى العموم الحقيقي، فيما تقتضيه تلك العظمة، مما يؤتاه الأنبياء والملوك. (الفضل) الزيادة. (المبين) الظاهر الذي لا خفاء به.
المعنى:
قام سليمان مقام أبيه داود عليهما الصلاة والسلام، فكان في بني إسرائيل من بعد نبياً ملكاً. وأراد سليمان أن يشهر نعمة الله عليه وينوه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به وطاعته؛ فدعا الناس وذكر لهم ما خصه الله به من علم منطق الطير، وعظائم الأمور، مما هو خارق للعادة معجز للبشر، آية على نبوته. وتحداهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع الناس، وهو مشاهد لهم لا يمكنهم إنكاره كما لا تمكنهم معارضته.
فقه وتحقيق:
من ميزة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أنهم يخرجون من الدنيا دون أن يعلقوا بشيء منها، فلا يورثون ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم. وفي الصحيح "إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". فلم يرث سليمان من داود مالاً، وإنما ورث ما نوه به من العلم والملك، وما دل عليه ذلك من النبوة، وقد خصصه الله بذلك دون بقية إخوته.
تفرقة:
الشيء الموروث إن كان من أمور الدنيا وأعراضها ومتناولات الأبدان ومتصرفاتها، فإنه ينتقل بذاته من الميت إلى الحي، وينقطع عنه ملك الميت. وما كان من صفات الروح فإنه لا يفارق الميت – لبقاء الروح – وإنما يقوم الحي مقام الميت في أداء ما كان يؤديه الميت من أعمال بمثل متصفاً بمثل ما كان متصفاً به الميت، ومتحلياً بمثل حليته. فإرث سليمان للملك هو من المعنى الأول فداود بعد موته لم يبق ملكاً، وإرثه للعلم والنبوة هو من المعنى الثاني فداود بعد موته على علمه ونبوته.
تفرقة أخرى:
إذا كان الموروث مالاً فإنه يستحق بالقرابة شرعاً. وإذا كان علماً أو نبوة أو ملكاً فإنها لا تستحق بها.
فلم يرث سليمان من داود ما ورثه منه لأنه ابنه، وإنما كان ذلك تفضلاً من الله ونعمة، ولهذا لما دعا سليمان الناس لم يذكر لهم أبوة داود، وإنما ذكر لهم ما كان به أهلاً لمقامه، مما خصه الله به من علم وقوة، ومظاهر الملك ومعجزة النبوة.
عجائب الخلقة وحكمة العربية:
للحيوانات كلها فهم وإدراك وأصوات تدل بها على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها بعضها عن بعض. ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا؛ ومنها ما نسمعه، ومما نسمعه ما نفهم مرادها به ومنه ما لا نفهمه، فلا نسمع صوت النملة ولكننا نسمع صوت الهرة –مثلا- ونميز بين صوتها الذي تدل به على غضبها، وصوتها الذي تدل به على طلبها.
وفي مملكة النمل ومملكة النحل – مثلا – من النظام والترتيب والتقدير والتدبير، ما لا يبقى معه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز، وما بينها من تفاهم، بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيراً من العبارات والإشارات، وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها تدل عليه فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها اللذين أخبر بهما القرآن. وتلك الغاية من الإدراك والنطق، لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات. وقد أدركها سليمان – عليه السلام- بتعليم من الله كرامة له، وآية على نبوته، ومعجزة للناس.
فمن حكمة اللغة العربية الشريفة، ان سمت أصوات الحيوانات نطقاً، كما سمت –في المتعارف- اللفظ الذي يعبر به عما في الضمير نطقاً، لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي طريق تفاهمها وطريق فهم ما يمكن للإنسان فهمه عنها. فلله هذه اللغة ما أعمق غورها! وما أدق تعبيرها.
نظر وإيمان:
قد شوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات: حسن تدبيرها لأمر معاشها، ودقة سعيها في جلب منافعها، ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها. وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآتيين من بعد. فنحن مؤمنون لجوازه عقلاً، وثبوته سمعاً، مثل السمعيات.
تمييز:
قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز، وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتد إليه قدرته ويكون في متناول يده، فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة، وتمكن من ناصيتها، واستعمال حيوانها وجمادها في مصلحته، ورقي أطوار التقدم في حياته، ولفقدان الحيوان – غير الإنسان – هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته.
فإدراك الحيوان فطري إلهامي بعطاء من أول الخلقة، والإنسان يعطي أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه، ويستمر في درجات التقدم. وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل، وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني.
توجيه:
ذكر سليمان عليه منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات – غير الإنسان- مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، أشرفها الطائرة، فاقتصر على الطير تنبيهاً بالأعلى على الأدنى.
تنزيه وتبيين:
عبر سليمان عليه السلام عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام ليتعظم بسلطان، ولا ليتطاول بفضل؛ فالأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- اشد الخلق تواضعاً لله وأرحمهم بعباده.
وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية، ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة، وهذا هو الذي توخاه سليمان عليه السلام من المصلحة بإظهار العظمة.
ولذا لم يقل: (علمت). ولا (لي) و(عندي كل شيء). ولم يقل (فضلي) فهو فضل من علمه وآتاه فضله به عمن سواه.
ترغيب واقتداء:
يذكر الله - تعالى - لنا في شأن هذا النبي الكريم ما أعطاه من علم، وما مكنه منه من عظيم الأشياء. ترغيباً لنا في طلب العلم، والسعي في تحصيل كل ما بنا حاجة إليه من أمور الدنيا. وتشويقاً لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد، وعوالم الأحياء. وبعثا لهممنا على التحلي بأسباب العظمة من العلم والقوة. وحثاً لنا على تشييد الملك العظيم الفخم على سنن ملك النبوة.
فقد كان سليمان عليه السلام نبياً، وما كان ملكه ذلك بإذن الله ورضاه، فهو فيما ذكره الله من أمره قدوة وأي قدوة مثل سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
الآية الثالثة:
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (النمل: 17).
(الحشر) الجمع من أماكن متفرقة. (جنوده) هو المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده. (يوزعون) يكفون عن الخروج عن النظام في السير، فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون من الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشكال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه.
وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى، وأعلاهم في ذلك الجن، ثم الإنس، ثم الطير وفاعل (حشرهم) الأعوان الحاشرون. وفاعل (وزع) هم الضباط المنظمون.
المعنى:
كان لسليمان ـ عليه السلام ـ من الجن والإنس والطير جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين، فإذا عرض أمر جمعهم. وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم. فأراد سليمان أن يسافر، فأمر أعوانه بجمع الجنود فجمعوهم له. فلما اجتمعوا تولى رؤساؤهم تنظيمهم فساروا مع سليمان في كثرة ونظام، يتولى أولئك الرؤساء تنظيمهم في سيرهم ويمنعونهم من الخروج عن النظام.
تفصيل:
كما أن للإنس من يعرفهم من أعوان سليمان ومن ينظمهم من رؤسائهم، كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير. وسلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له، وخصوصية ملك لم ينبغ لأحد من بعده!!
تاريخ وقدرة:
تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان.
فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة.
وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة.
وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة.
وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم.
وكان النظام محكماً لضبط تلك الكثر ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى.
تعرض علينا الآية هذه الصورة التاريخية والواقعية تعليماً لنا، وتربية على الجندية المضبوطة المنظمة.
ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم، إن مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا. فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفاً عندهم في الجاهلية
وبقيت الآية على الدهر مذكرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدهما لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
طبيعة وشريعة:
في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة – بصنع الله – تستخلص الأعلة من الأدنى، والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث، كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم والشجر، وتجد الملكة من النمل والنحل مثلاً.
فالإنسان لم يخرج عن هذا القانون الطبيعي. ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله.
ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته؛ فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنساني ومقررات الشرع الإسلامي، ومثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين. ولما ولي الحسن البصري القضاء قال: لا بد للسلطان من وزعة أي أعوان يكفون الناس عن الشر والفساد، ويتولون تربيتهم وتنظيمهم. وفي رواية: لا بد للناس من وازع – أي كاف – يكف بعضهم عن بعض، وهو الحاكم وأعوانه.
وفي حديث ذكره أهل الغريب: من يزع السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}.
الآية الرابعة:
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل: 18).
(أتوا على وادي النمل) هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف للنمل لكثرته فيه. (نملة) لفظها مؤنث، ومعناها محتمل مثل شاة وحمامة. (مساكنكم) هي قرى النمل التي يسكنها تحت وجه الأرض، المحكمة الوضع والتركيب والتقسيم. ولذلك قيل فيها: مساكن، ولم يقل غيران.
(لا يحطمنكم) لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام. (لا يشعرون) لا يحسون بوجودكم. الإتيان بـ"إذا وجوابها، لإفادة أن قولها كان بسبب إتيانهم عند أول ما أتوا.
(لا يحطمنكم) نهتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه، وإنما المعنى: لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم، فنهتهم عن السبب والمراد النهي عن السبب، لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر المسبب – وهو الحكم – من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول.
والجملة مؤكدة للأولى كأنها قالت: ادخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها، ونظير التركيب في التعبير المسبب عن المسبب: لا أرينك ههنا؛ أي لا تكن هنا فأراك.
المعنى:
سار سليمان – عليه السلام – في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن وتظللهم الطير، حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته، فصاحت في نبي جنسها، فنادتهم للتنبيه، وأرشدهم إلى طريق النجاة: بأمرهم الدخول في مساكنهم، وحذرتهم من الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم (عدم) شعورهم منهم، فلا يكون اللوم عليهم، وإنما اللوم على النمل إذ لم يسرع بالدخول.
عبرة وتعليم:
عاطفة الجنسية غريزة طبيعية:
فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها. ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند إنذار بني جنسها، إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم، ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم، فأنذرتهم في أشد ساعات الخطر ابلغ الإنذار. ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم، أن تذكر عذر سليمان وجنده.
فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلا بحياة قومه، ولا نجاة لهم إلا بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلا إذا شعر بأنه جزء منهم. ومظهر هذا الشعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه، وألا يكون اهتمامه بها دون اهتمامه بهم.
واجب القائد والزعيم:
هذه النملة هي كبيرة النمل، فقد كان عندها من قوة الاحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها، فبادرت بالإنذار. فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلا من كان عنده من بعد النظر، وصدق الحدس، صائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع.
عظة بالغة:
هذه نملة وفت لقومها، وأدت نحوهم واجبها!! فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه؟!
هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه، ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهما لقومه، فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم. آه ما أحوجنا – معشر المسلمين – إلى أمثال هذه النملة!
الآية الخامسة:
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل: 19).
(التبسم) انفراج الشفتين على الأسنان، وقد يكون للسخرية، وقد يكون للضحك، وهو الأكثر، وهو بدايته؛ ولهذا قيد بـ"ضاحكاً".
(أوزعني أن أشكر) ألهمني شكر نعمتك. وتحقيقه في اللغة والتصريف، أنك تقول وزعت الشيء، أي كففته وأوزعني الله الشيء، أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما يقول ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس، أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك: أي اجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك، أي أمنعه من أن يذهب عني وينفلت مني، فالمقصود: اجعلني ملازماً لشكرك فلا أنفك لك شاكراً.
(نعمتك) عام يشمل كل نعمة لله عليه وعلة والديه.
(وأن أعمل) معطوف على (أن أشكر) فيقدر مثل تقديره.
(ترضاه) وصف مؤكد وقد يكون للتقييد على ما سيأتي، لأن العمل الصالح يرضى عنه الله، وإنما ذكر الوصف، ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح.
(أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) اجعلني معهم. أكمل الصالحين الأنبياء والمرسلون صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وتحقيقه: أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم، لا يدخل عليهم فيه إلا من كان مثلهم، فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى، ولهم منازلهم في الجنة، ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد. وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلا برحمة من الله بتيسير لأسبابها، وتفضل عظيم.
المعنى:
لما سمع سليمان – عليه الصلاة والسلام – كلام النملة تَبَسّمَ تَبَسُّمَ السرور والتعجب من قولها، وطلب من ربه – تعالى – أن يلهمه شكر ما أنعم به عليه وعلى والديه، وأن يلهمه عملاً صالحاً ينال به رضاه، وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين، بأن يثبت اسمه بينهم، ويقرن ذكره بذكرهم، ويلحقه بهم، ويسكنه الجنة معهم، بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه.
توجيه:
وصدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف، ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره منه، فهذا مبعث تعجب سليمان عليه السلام. وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه عن غير شعور، فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء. هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان عليه السلام لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده، وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي لم يؤته غيره، حتى فهم ما همست به النملة، وهي من الحكل الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال.
أدب من سرّته النعمة:
نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والإكبار لنواله. ومن أدب العبد – حينئذ – أن يسأل الله التوفيق لشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة والتوفيق بشكرها، بما يقوم به من أعمال صالحة في رضى الله، كما فعل سليمان عليه السلام. إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح، فهي نعمة على ولدهما إذا اتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة.
كما أن نعمة الله على الولد هي نعة على والديه فهو من أثرهما، ومثل حسناته في كيزانهما، لأنهما أصل ذلك وسببه، ويدعو له الناس، فيدعون لهما ويدعو هو لهما، وقد يؤذن له فيشفع لهما. فالنعمة على الوالد هي نعمة مزدوجة بينهما، ولهذا ذكر سليمان عليه السلام نعمة الله على والديه مع نعمته عليه.
الغاية المطلوبة:
إن شعور العبد برضى الله عنه، هو أعظم لذة تعجز عن تصويرها الألسن. وإحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم؛ فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله. فالعمل الصالح ترتضيه العقول، وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله، ولهذا قال سليمان – عليه السلام - (ترضاه).
جمع وتحقيق:
قال الله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} (النحل: 32) فأفاد أن الأعمال سبب في دخول الجنة. وفي هذه الآية: {وأدخلني برحمتك} فأفاد أن الدخول بالرحمة ولا منافاة ما بينهما. فالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة، والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله جزاء؛ لأنه لا ينتفع به؛ إذ هو الغني عن خلقه، وإنما تفضل فجعله سببا في نيل ثوابه، ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفاً إلى عشرة أضعاف كثيرة، إلى الموفي للصابرين أجرهم بغير حساب.
دقيقة روحية:
إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس، وفي الرفيق الأعلى الأطهر، وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية، في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه، والانجذاب نحوه.
ولذا كان من دعوات الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – الدخول في الصالحين واللحوق بهم؛ مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم: {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين} (الشعراء: 83). وقول يوسف: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (يوسف: 101).
وفقنا الله لشكر ما مَنَّ به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة وختم لنا باللحاق بعباده الصالحين آمين.