من ابن باديس إلى رمضان عبان
بقلم: محمد الهادي الحسني-
بمناسبة الذكرى السبعين لاغتيال المناضل رمضان عبان على أيدي "إخوانه" أحببت أن أنبه إلى أهم قضية دعا إليها الإمامان ابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، وقدر الله - عز وجل- أن ترى النور على يد هذا المناضل المتميز، الذي تشرفت بالدراسة في ثانوية تحمل اسمه حي المحمدية "لافيجري سابقا" بمدينة الجزائر في السنتين الدراسيتين 1963-1964 و1964-1965.
لا يماري أحد ذو حجر في بطولة آبائنا وأجدادنا بمن في ذلك الفرنسيون أنفسهم، الذين كثير من قادتهم أنه لولا بسالة الجزائريين وبأسهم الشديد لما أمكن لفرنسا أن تبقى دولة كما هي اليوم بعدما فعل فيها شارلكان، والإنجليز والإسبان ما فعلوا، وأنه لولا رجولة الجزائريين لما أمكن لفرنسا أن تقف في وجه "العجوز" بسمارك في حرب 1870، ولما أمكن لها أن تواجه الألمان في الحربين العالميتين، ولما أمكنها أن تحتل كثير من الأمصار.
وقد تساءل الناس سرّا وعلانية: كيف أمكن الجزائريون أن يحققوا هذه الانتصارات لفرنسا الكنود ويعجزوا عن الانتصار عليها.
وقد تبين لأولي الألباب من الجزائريين أن سبب فشلهم في تحقيق النصر على فرنسا منذ دنّست أقدامها الجزائر هو أنها تقاتلهم متحدة ويقاتلونها أشتاتا..
كان الإمام ابن باديس في مقدمة من أدرك ذلك دينيا وسياسيا، فبدأ بالدعوة إلى وحدة جزئية نخبة ومكانا، فدعا في سنة 1924 إلى تأسيس "جمعية الإخاء العلمي" تجمع علماء عمالة (ولاية) قسنطينة، ولكن الإمام الإبراهيمي الذي أعد قانون هذه الجمعية أقنع أخاه الإمام ابن باديس أن مستوى الوعي العام ما يزال ضعيفا.. فصرف النظر عن المشروع.
لم تمض إلا ثلاث حجج حتى أعاد الإمام ابن باديس دعوة من العلماء إلى الاجتماع في عام 1927، وقد سمى الإمام ذلك "اجتماع الرواد" ليكونوا رادة لقومهم في صراعهم ضد عدوهم اللدود والدائم فرنسا الصليبية.
وواصل الإمام ابن باديس الدعوة إلى "توحيد النخبة" عبر مجلته الشهاب، ورحلاته عبر القطر الجزائري، حتى أذن الله بتأسيس "خير جمعية أخرجت للناس" في عام 1931 لتواجه "شر مخطط" أعدّ للجزائريين وهو "الفرنسة والتنصير".
بعد خمسة أعوام من العمل الدؤوب لنشر الوعي رأى الإمام ابن باديس أن يعزز عمل "النخبة العلمية" بالدعوة إلى عمل جماعي يضم السياسيين أو أكثرهم، رغم ما يشوب أفكارهم من "انحراف ديني ووطني"، ولكنهم غير ميئوس من تصحيح انحرافهم الديني والوطني، وإعادتهم إلى ملتهم وقومهم، فدعا الإمام إلى ما عرف في تاريخنا باسم "المؤتمر الإسلامي" في سنة 1963، الذي لم يدرك قيمته - رغم ما شابه من نقص- حتى بعض المثقفين مثل مصطفى الأشرف ومالك ابن نبي..
لقد عرفت فرنسا أهمية ذلك المؤتمر فسارعت إلى إفشاله باغتيال أحد أتباعها "المفتي كحول"، وإلصاق الجريمة بجمعية العلماء ممثلة في الشيخ الطيب العقبي وعباس التركي كمقدمة للإجهاز على رئيسها ونائبه.
لم تؤثر المؤامرة في عزم الإمام ابن باديس، ولم تشل إرادته فكتب مقالا في مجلة الشهاب تحت عنوان: "نداء إلى الأمة الجزائرية ونوابها"، وأهم ما جاء في ذلك النداء قوله - رضي الله عنه- "كوّنوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها". (الشهاب سبتمبر 1937. ص 326).
رجعت نفس الإمام ابن باديس في عام 1940 إلى ربها راضية مرضية بما قدمت يداه من فكر رشيد وعمل صالح، ولم يأل خليفته الإمام الإبراهيمي في متابعة عمل ابن باديس، فعمل مع ميصالي الحاج وفرحات عباس على تأسيس تنظيم سياسي في عام 1943، أطلق عليه اسم "أحباب البيان والحرية".
صبرت فرنسا مكرهة على التنظيم لأنها كانت في حاجة إلى رجال الجزائر لكي يحرروها من ألمانيا ويعيدوا إليها كرامتها، وما إن وضعت الحرب أوزارها في ماي 1945 حتى استأسدت على العزّل من شيوخ الجزائر وأطفالها ونسائها، وارتكبت جريمة 8 ماي 1945 التي يجب على كل فرنسي أن يخجل منها إلى يوم القيامة، وزجت بكل من الإمام الإبراهيمي وميصالي الحاج وفرحات عباس في غياهب السجن، وأرباب الفكر والرأي.
ما إن خرج الإمام الإبراهيمي من السجن حتى استأنف السعي لتوحيد الأحزاب والهيآت، وقضى في ذلك أكثر من ستة أشهر، لافتا أنظار الجميع إلى أن "الأمة مختلفة باختلافكم، فإذا اتحدتم اتّحدت"، مذكّرا "أنه إذا كان الاتحاد لازما في كل وقت، وحسنا في كل وقت، فهو في هذا الوقت ألزم وأحسن. (آثار الإبراهيمي. 3/306).
واستمر الإمام الإبراهيمي والجمعية في العمل لأجل هذا الاتحاد لأنه "أمر ديني شرعي" وليس كما تفهمه الأحزاب إلى يومنا هذا "بوليتيك".. فيه من "اللعب" أكثر مما فيه من الجد.
وقد أثمر هذا السعي بتشكيل "الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها" في عام 1951، التي أسندت رئاستها إلى الإمام العربي التبسي، وما أفشلها إلا الذين يؤمنون بالوحدة وجه النهار ويكفرون بها في آخره..
وجاء وعد الله، فأعلن الجهاد في 1954، وكان الذين كتب الله - عز وجل- في صحائفهم أن يعلنوا ذلك الجهاد في فصيل واحد في الحركة الوطنية..
لما خرج رمضان عبان من السجن ألقى نظرة على ما يجري، واتصل بمن اتصل فكّر وقدّر، وقرّر أن يسعى لحشد الجزائريين جمعا وراء أولئك الفتية.. والتقى بممثلي "العلماء" و"البيان" و"المركزيين" و"الشيوعيين" لانضمامهم إلى الثورة، معلنا "جبهة التحرير الوطني ليست ملكا لأحد، ولكنها ملك للشعب المكافح، والفريق الذي فجر الثورة لم يحصل بذلك على ملكيته لها، وإذا لم تكن الثورة بمساهمة الجميع فإنها سوف تجهض لا محالة". (فرحات عباس: تشريح حرب. ص 274).
لقد حقد من في قلوبهم مرض وفي نفوسهم غرض على رمضان عبان، وائتمروا به فاغتالوه، وإذا كان بعض من اغتالوه لقوا مصيرا أسوأ من مصيره، فإن اسم رمضان عبان ما يزال يتردد على ألسنة الجزائريين من شرقهم إلى غربهم، ومن جنوبهم إلى شمالهم، مقدرين له حسن عمله، وسداد فكره، وصائب نظرته..
فرحم الله رمضان عبان وجميع من جاهد لتطهير الجزائر من "الرجس الفرنسي"، ولعن الله، والملائكة، وصالح المؤمنين كلّ من يسعى سرا وعلانية لتدنيس الجزائر مرة أخرى مما طهرها منه المجاهدون والشهداء.