عملاقان.. وتجربة رائدة في الجهاد والإخاء
بقلم: كمال أبو سنة-
عشرات السنين مرت على وفاة إمام هذه الديار،ورائد النهضة فيها، الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس – رحمه الله -.ورغم طول هذه المدة إلا أن هذا الرجل "الأمة" ما يزالبآثاره يحيا بيننا كأن لم يوسد في التراب، والرجال أعمال، والأعمال عمر ثان لأصحابالنيات الخالصة دون أصحاب النيات الناقصة!
راقني حديث الإمامالعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله- عن أخيه الشيخ ابن باديس-رحمهالله- الذي لم تلده أمه، وزميله في جهاد دعوة جمعية العلماء، الذي خطه يراعهبأسلوبه البليغ في مقال بعنوان:( الرجال أعمال: محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميدبن باديس) نشره بالبصائر سنة 1948 جاء فيه:" باني النهضتين العلمية والفكريةبالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا،وإمام الحركة السلفية، ومنشئ مجلة «الشهاب» مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربيجيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومحي دوارسالعلم بدروسه الحية، ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن،وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقن مبادئها، علَم البيان، وفارس المنابر، الأستاذالرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين،وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضيعنه".
لا يخرج مثل هذا الكلام النوراني إلا من قلب أُشرب حب ابنباديس والإخلاص له حيا وميتا رغم أن كاتب المقال بشهادة ابن باديس نفسه لا يقل عنه – إن لم نقل يفوقه – علما وأثرا في نهضة الجزائر، بل وفي العالم الإسلامي، فيالمجالين العلمي والفكري!
هكذا هو خلق الإمام الحبر محمد البشيرالإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء كما أفصح عنه قلمه في حديثه عن الإمامالرباني عبد الحميد بن باديس، الذي يرجع إليه الفضل في نهضة الأمة والمشيد لا يقلعنه فضلا.
وأحسب أن الإبراهيمي لو دعاه الحق عز وجل إلى جوارهالكريم أول الاثنين لكتب الإمام الرئيس نفسه ما كتبه عنه زميله ونائبه في الجهادوالنضال، ورفع له ذكره بما يستحق من إشادة مخلصة منصفة.
لقد عاشرجال جمعية العلماء إخوانا في الله متحابين ولم يكن لهم في الدنيا مطمعا، وما رغبواهم فيها، وما رغبت هي فيهم، وما وجد الشيطان بينهم مدخلا ليفرق الصف، فيعبدوا اللهعلى حرف...والسر في ذلك بينه الإمام الإبراهيمي في نفس مقاله حين قال: « ومنغرائب هذه العصابة التي كان ابن باديس شارة شرفها، وطغرى عزها، أن الشيطان لم يجدمنفذا يدخل منه إلى أخوتهم فيفسدها، أو إلى علائقهم فيفصمها، أو إلى محبتهم بعضهملبعض فينفث فيها الدخل، فعاشوا ما عاشوا متآخين كأمتن ما يكون التآخي، متحابينكأقوى ما تكون المحبة، ولقد كانوا مشتركين في أعمال عظيمة، معرضين لعواقب وخيمة،ومن شأن ما يكون كذلك أن تختلف فيه وجوه الرأي وتشعب مسالكه، فيكثر فيها اللجاجالمفضي إلى الضغينة، والانتصار للرأي المفضي إلى الخلاف، خصوصا إذا اشتجرت الآراءفي مزلقة الاستعمار التي يرصدها لنا، فو الذي روحي بيده ما كنا نجتمع في المواقفالخطيرة إلا كنفس واحدة، وكنا نفترق – وإن اختلف الرأي – إلا كنفس واحدة، وإني لاأجد لفظا يؤدي هذه الحالة فينا إلا لفظة " إخوان الصفاء" – والله – كنا إخوان صفاء،وما زلنا إخوان صفاء، وسنبقى إخوان صفاء، حتى نجتمع عند الله راضين مرضيين إن شاءالله.
إن لهذه الحالة فينا علة وثمرة: أما العلة فهي أن اجتماعناكان لله ولنصر دين الله ولتأدية حق الله في عباده، دأبنا في ذلك التعاون على الخيروالاستباق إلى الخير، فلا مجال للمنافسة وحظ النفس، وأما الثمرة فهي هذا النجاحالباهر الذي نلقاه في كل أعمالنا للأمة، في تطهير العقول، وفي تصحيح العقائد، وفياستجابة داعي القرآن، وفي تمكين سلطان السنة، وفي صدق التوجه إلى العلم، وفي تشييدالمدارس، وفي كثرة الإقبال عليها والبذل لها، وفي كل معالجة بيننا وبينالأمة.
إن هذا من صُنع الله لا مما تصوغه الأهواء النفسية الخبيثة،وما جمعته يد الله، لا تفرقه يد الشيطان ».
أرجو أن يتعلم أبناءباديس والإبراهيمي هذا الدرس من هذين العملاقين، فيسيروا على نهجهما في الحبوالصفاء والعمل لله بإخلاص لوجهه الكريم وحده