لماذا نجحت جمعية العلماء المسلمين قديما..؟!
بقلم: كمال أبو سنة-
كان تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931 نعمة ربانية عظيمة ومنحة كريمة على الأمة الجزائرية التي عاشت محنة الاحتلال الفرنسي سنة 1830 الذي سعى من أول يوم وطأت أقدامه أرض الجزائر إلى ضمها إليه بعد تفريغها من أهلها، ثم عمل على قتل الروح العربية الإسلامية في الفرد الجزائري، وتحويله إلى مجرد جسدٍ عبدٍ بلا شخصية تميزه..!
والحق أن الاحتلال الفرنسي لم يقصد " فرنسة الجزائري" بالمفهوم الحضاري في بداية أمره، لأن هذا شرفا لا يستحقه "العربي المسلم" على حد زعم كبار مجرمي فرنسا الصليبيين، بل حاول هذا الاحتلال الاستيطاني البغيض مسح الوجود الجزائري والتخلص منه عن طريق الإبادة الجماعية والنفي المتتابع حتى تكون أرض الجزائر خالصة للفرنسيين المسيحيين وحدهم من دون سكانها المسلمين الأصليين، وحين صعب تحقيق هذا المقصد الإجرامي جاء دور المرحلة التالية وهي "مسخ الجزائري" ليتحول إلى كائن من غير ماض ولا حاضر ولا مستقبل، كائن مسخر لخدمة أسياده المتحضرين الذين جاؤوا من وراء البحار..!
ومن أجل مقاومة هذا المخطط الإبليسي وُلدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أيقظت الإنسان الجزائري من سباته العميق وتزعمت النهضة التي أطلقتها في شتى المجالات، وقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمة الله عليه –" يرى أن تحقيق هذه النهضة المنشودة يتوقف بالدرجة الأولى على تكوين الجزائري، من الناحية الفكرية-والنفسية-تكوينا عربيا إسلاميا-متينا من ناحية-ثم على ربط الجزائريين بشبكة واسعة النطاق- من التنظيمات الثقافية والاجتماعية والسياسية والرياضية والوطنية- من أجل الدفاع عن كيان الوطن المهدد بالخطر من ناحية أخرى، حتى يعملوا متكاثفين متضامنين ومتحدين على تحرير الجزائر من الاحتلال في دائرة حضارتها العربية الإسلامية - لا في دائرة اللائيكية (العلمانية) أو الاندماج أو التجنيس أو الفرنسة-كما كان بعض الجزائريين المتأثرين بثقافتهم الفرنسية ينادون خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين بذلك..."[أنظر "الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الإسلامي والتربية في الجزائر" للدكتور رابح تركي ص 223].
لقد كان نجاح جمعية العلماء قديما بمقياس واقع ذلك العهد باهرا للغاية، ومعجزة نهضوية قل أن يكون لها نظير في العالم الإسلامي الذي ابتليت معظم بلدانه بالاحتلال ولكنه ليس كشراسة الاحتلال الفرنسي للجزائر ولؤمه..!
وحين نحاول رصد أهم أسباب ذلك النجاح بشكل عام ومختصر فإننا نحدده على شكل نقاط فيما يلي:
- إخلاص نية العلماء الذين أسسوا جمعية العلماء وتجردهم من كل طمع أو طموح ذاتي، وتفانيهم العجيب في خدمة أهدافها ومقاصدها دون أن ينتظروا مقابلا دنيويا أو جزاء أو شكورا، فكانوا حقا وصدقا يحملون همومها، ولم يكونوا أحمالا زائدة عليها.
- اجتماع تاريخي لكوكبة من كبار علماء الجزائر على خط مستقيم موحد غير متشعب، وكانت هذه الكوكبة العلمائية قوية التكوين الروحي والعلمي، قادرة على العطاء الممتد والمستمر في جبهات متعددة ومجالات مختلفة، وهذا ما عبر عنه الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمه الله – في خطابه الشهير يوم احتفال الشعب الجزائري بختمه لتفسير القرآن الكريم تدريسا بقوله:" ...فمن حظ الجزائر السعيد ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار أنه لم يجتمع في بلد من البلدان الإسلام –فيما رأينا وسمعنا وقرأنا- مجموعة من العلماء وافرة الحظ من العلم، مؤتلفة القصد والاتجاه، ومخلصة النية، متينة العزائم، متحابة في الحق، مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية، وقد ألف بينها العلم والعمل، مثل ما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار، فهؤلاء هم الذين ورى بهم زنادي، وتأثل بطاردهم تلادي...".
- وحدة الأفكار والأهداف، ووضوح الإستراتيجية الموضوعة بحكمة ووعي نظريا، وتطبيقها على أرض الواقع فعلا، ومتابعة المشاريع في شتى المجالات بشكل دائم ودقيق وتوفير الوسائل المواكبة لذلك العصر لإنجاحها واستمرارها.
- كسب ثقة الأمة الجزائرية التي كانت ملتفة حول الجمعية، وتساند أهدافها الواضحة وأعمالها المحققة، بالرجال والمال، لنقاء سمعة علمائها وطهارة نفوسهم وأيديهم وتضحيتهم المشهودة من أجل خدمتها في سبيل الله.
لقد كانت التحديات التي واجهت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قديما صعبة شرسة، فاستطاعت - بإذن الله وبإخلاص رجالاتها وتفانيهم المستمر- التغلب عليها وخدمة الجزائر خدمة جليلة باسترجاع هويتها وتحريرها من الغزو الثقافي والعسكري، فكان تاريخها مضرب المثل ورصيدا ثمينا لمن أراد أن يسير في طريقها، والذي نتمناه بصدق هو أن يبقى هذا التاريخ أبيض اللون لا يعتريه تشويه من المنتسبين إليه اليوم فإن ذلك لمسؤولية ثقيلة وأمانة عظيمة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.