مختار عنيبة و مفهومه للتربية
بقلم: عفاف عنيبة -
كنت في السادسة عشر من عمري، و كنت أقيم في دولة تونس الشقيقة و الحبيبة، كان والدي رحمه الله مختار عنيبة يعمل في القنصلية العامة الجزائرية بتونس العاصمة، حيث كان منصبه قنصلا عاما مساعدا. و قد كان ذلك العام هو عامنا الثاني من إقامتنا في بلد الياسمين و الفل المعطر، كنا في بداية شهر رمضان في صيف حار جدا، فإذا بي أتحدث لأبي رحمه الله :
-بابا، أريد أن امضي بقية رمضان و عيد الفطر المبارك في ربوع جزائرنا الخالدة.
فكان رده :
-لم أبرمج ذلك يا ابنتي، نحن لن نزور الجزائر هذه الصائفة.
-بابا، لكن هذه رغبتي الشخصية.
نظر إلي والدي رحمه الله، نظرة كلها محبة و حنان :
-طيب، يا ابنتي سيكون ما تريدين بإذنه تعالى.
اتصل أبي رحمه الله بأحد أصدقاءه الأثرياء، و هو تاجر تحف و سليل عائلة عريقة جدا من الجزائر العاصمة، و إتفق معه أنه يستقبلني في بيته، و هو قصر تركي في أعالي العاصمة الجزائرية بأرقي الأحياء آنذاك و هو حي حيدرة، لأقضي أواخر شهر رمضان و عيد الفطر المبارك مع أفراد عائلته الكريمة.
لقد عودني والدي رحمه الله منذ الأيام الأولى من مراهقتي و بعدها في فترة الشباب على السفر بدون محرم و هذا لعدم قدرته علي مرافقتي لأسباب قاهرة تتعلق بمهنته، و كان يحرص على ايصالي إلى المطار بنفسه، و يسعى لضمان من يستقبلني في الجهة الأخرى، في الدولة التي أتجهه إليها، شخص يكون من أفراد أسرته أو أحد أصدقاءه، هذا بالإضافة إلى أنه كان يوصي علي مسؤول الخطوط الجوية الجزائرية المقيم في الدولة التي كان يمثل فيها مصالح دولة الجزائر، و الشهادة لله أن طواقم طائرات الخطوط الجوية الجزائرية كانوا يحسنون معاملتي و يراعون دائما وضعي كوني أسافر وحيدة.
نزلت ضيفة على صديق الوالد رحمه الله، و قد أكرمني و أحسن ضيافتي طوال أقامتي عنده، و لكن في غضون نلك الفترة وقعت واقعة، ستثبت لكم رؤية والدي رحمه الله لدوره كمربي. و لعلم القراء، هذه الواقعة بقت سرا بيني و بينه و لم تعلم بها والدتي الكريمة حفظها الله لأكثر من ثلاثين سنة، حتى جاء اليوم الذي أخبرتها فيه ما حصل مني، فاندهشت والدتي الكريمة للأمر، و مرة أخرى ازدادت قناعة بحكمة والدي رحمه الله في التعاطي معي في أمور التربية.
أثناء إقامتي عند صديق الوالد و أسرته، أخبرت "صديقة الطفولة" بوجودي في الجزائر العاصمة، و بمجرد ما علمت الصديقة العزيزة و الجارة في آن، قررت أن تُعلم والدها الكريم لتزورني بعد الإفطار، و لتأخذني معها لزيارة بيتها، و في نفس الوقت تتاح لي فرصة زيارة بيتنا العائلي الذي تركناه أمانة في عنق أحد الرجال الصالحين و عائلته.
وافقتُ على عرضها و قلت لها أنني سأنتظرها بعد وجبة الإفطار، و قد حصلت من جهتها على الضوء الأخضر من أبيها الكريم. أثناء تناولنا الإفطار في ذلك اليوم، لاحظت أن رب البيت لم يفطر معنا و قد كان غائبا، فسألت زوجته:
- هل عمي سيحضر بعد قليل خالتي؟
- لا، يا ابنتي، سيتأخر هذه الليلة لدواعي العمل، لماذا تسألين عفاف؟
-لأنني سأخرج بعد قليل رفقة صديقة الطفولة و والدها الكريم لأزورها في بيتها، و هي جارتنا، و سأمر إن شاء الله على بيتنا العائلي أيضا.
فكان رد زوجة صديق والدي:
-لا، يا ابنتي لا تستطيعي الذهاب هذه الليلة ما لم يجز لك ذلك زوجي، و هو غائب حاليا. ارجئي زيارة جارتك ليوم آخر.
-معذرة، خالتي لا أستطيع ذلك. فأنا لا أعرف ظروف والد صديقتي، فلربما لن تسنح له فرصة أخرى ليأتي و يأخذني، على كل حال لا بأس حتى و لو كان عمي غائبا، فقد استأذنتك في الخروج و لن أطيل الغياب، ثم إن والدي يعرف جيدا والد صديقة الطفولة، سأذهب أحضر نفسي و أرجو أن تخبروني بمقدم صديقتي حالما تصل.
فنظرت إلي زوجة صديق والدي غير راضية :
-لم أسمح لك بالذهاب لأني لست أنا من تعطي الإذن، فهذه مهمة زوجي الغائب، و إن ذهبت رغم منعي لك، سأخبر زوجي بفعلك حالما يعود إلى البيت.
-لا بأس أخبريه، خالتي أما أنا فعازمة على الذهاب.
و بالفعل جاءت صديقة طفولتي و غادرت بيت صديق الوالد تلك الليلة، أمضيت معها وقت لا ينسى، و زرت بيتنا العائلي، و تحدثت للرجل الصالح الذي أعرناه له، ثم عدت أدراجي إلى بيت صديق الوالد، هناك ودعت صديقة الطفولة و شكرت لوالدها ضيافته و حرصه علي. دخلت البيت، فإذا بالبنت الكبرى لصديق الوالد تخبرني بأن أباها يطلبني في قاعة الاستقبال.
ذهبت إلى هناك و أنا أتخيل ما سوف يقوله إلي.
كان وجه صديق الوالد متجهما، و قد عبر لي عن غضبه العميق لم بدر مني:
-كيف تغادرين بعد الإفطار بيتي في غيابي، و بدون إذني يا ابنتي؟ سألني.
كنت أكره إضاعة الوقت في الشرح خاصة أن ذلك اليوم كان طويلا و كنت قد عدت متعبة . فأجبت الرجل ببرودة دم مقلقة:
-أتفهم تماما غضبك عمي، لكن في حدود علمي لم أقترف جريمة ! أعلم أنه كان يتعين علي استئذانك، لكنك كنت غائبا، و كنت ستتأخر، و فرصة زيارة صديقتي و بيتنا العائلي ما كانت لتتكرر مرة أخرى، لذا قررت بمحض إرادتي الذهاب، و الحمد للهلم يقع لي أي مكروه، و والد صديقة الطفولة يعرفه جيدا بابا و يثق به تماما.
فنظر إلي صديق والدي لبعض اللحظات غير مقتنع بكلامي، سكت هنيهات من الزمن ثم قال لي:
-سأتصل بعد قليل بوالدك. أنت لم تعتذري لي عن فعلتك و أنا غير راض على سلوكك.
لأول مرة ابتسمت ابتسامة شقية و قلت له:
-جميل اشتكيني لوالدي و أنا مستعدة لتحمل عقاب بابا ! تصبح على خير عمي.
و تركت الرجل مشدوها !
في وجبة السحور لم يتكلم أحد معي، و في صبيحة اليوم التالي، كنت أتوقع استدعاء من صديق والدي لكنه لم يفعل،فاضطررت لسؤاله قبل الإفطار بقليل:
-تكلمت مع والدي عمي بخصوص فعلتي البارحة ؟
-نعم تكلمت معه و لم يعجبه ما فعلتِ، أجابني صديق الوالد.
-و ماذا قرر بابا بشأني عمي؟
-لا شيء، لم يقرر شيء، طلب مني أن تكملي إقامتك في بيتي بشكل عادي.
كدت حينها أن أبتسم ابتسامة أكثر إشراقا و شقاوة، لكنني امتنعت عن ذلك احتراما لمُضيفي، و أمضيت عطلتي بشكلسعيد جدا و مفرح، و بعدها عُدت أدراجي إلى تونس.
كان بابا ينتظرني عند نزولي من الطائرة، فهو له تسهيلات بحكم منصبه لا يحصل عليها المواطن العادي، و بمجرد ما وقعتعيناي على أبي فهمت أنه غاضب مني، و كنت أعلم بالسبب. فتماسكت و سلمت عليه بحرارة ثم تبعته.
-بابا أنت غاضب مني، أليس كذلك؟
-نعم جدا، عفاف بنيتي كيف لا تستأذني صديقي لزيارة صديقة طفولتك ؟ هل هذا سلوك إبنة مطيعة و مهذبة ؟
قال لي و هو يحاول التحكم في نبرة صوته الغاضبة.
بهدوء شديد قمت بشرح موقفي و أنهيته بما يلي:
-بابا أعدك بأن مثل هذا السلوك لن يتكرر مني، لكنني شعرت حينها أنني أحسنت الفعل لهذا أقدمت على ذلك، و لم تكننيتي بتاتا عدم احترام صديقك. بابا صدقني نيتي كانت سليمة.
بقي للحظات يرمقني غير راض، ثم عندما رآني صادقة في قولي له، هدأ و استطرد قائلا:
-جيد؛ أنت تعهدت بأن لا يتكرر مثل هذا السلوك منك.
أومأت برأسي و أنا أصعد معه السيارة، وضعنا الحزام الأمني بعدما حرص على وضع حقيبتي الصغيرة خلفنا.
حرك محرك السيارة، و بعد دقائق انطلق، ثم استدار إلي مبتسما:
-آه عفاف ! هل إستمتعت بعطلتك بنيتي؟
فضحكت من قلبي و قلت له:
-نعم بابا ! كانت رائعة عطلتي في الجزائر، أشكرك على ثقتك بي. أرجو منك أن تجيبني على سؤال واحد من فضلك؟
-ما هو عفاف؟
-حينما أخبرك صديقك بفعلتي تلك الغير اللائقة، لماذا لم تقرر معاقبتي و تطلب مني العودة إلى تونس؟
فأبتسم والدي رحمه الله :
-لم يكن يستدعي الأمر عقاب عفاف، فضلت أن أتركك ترتاحين و عند عودتك اكتفي بتوبيخك لئلا تكررين فعلك !
هكذا رباني مختار عنيبة رحمه الله، رحمك الله بابا و جعلك من الراضيين المرضيين في جنة الفردوس إن شاء الله.