مبارك الميلي … من أحيا أمة كاملة
بقلم: محمد بغداد –
حالة من الانبهار المدهش، والإعجاب الشديد، انتابت مؤسس الحركة الإصلاحية الجزائرية، عبد الحميد ابن باديس، وهو يتصفح كتاب (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) ، فكتب في مقدمته كلاما طويلا منه: (أخي المبارك إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها وحياتها عند أبنائها حياة مستقبلها)، الكتاب من تأليف الشيخ مبارك بن محمد الميلي، ونفس الحالة التي انتابت ابن باديس، وقع فيها أمير البيان شكيب أرسلان فقال عن الكتاب(وأما تاريخ الجزائر، فو الله ما كنت أظن في الجزائر من يفري هذا الفري، ولقد أعجبت به كثيرا).
لم يعش الشيخ مبارك بن محمد الميلي، إلا سبعة وأربعين عاما، وهو الرجل الذي تربى وتعلم على أيدي شيوخ مدينة ميلة، ثم انتقل إلى مدينة قسنطينة، فأكمل تعليمه على يدي عبد الحميد بن باديس، ثم انتقل إلى تونس، فتحصل من “جامعة الزيتونة” جامعة الزيتونة على شهادة العالمية، ليعود إلى الجزائر سنة 1925، ليواصل مرافقة ابن باديس ويشاركه في تأسيس جمعية العلماء المسلمين، التي تحصل فيها الشيخ مبارك بن محمد الميلي، على النجومية العالية، والسبق الاكبر والسطوة المخيالية، المتجاوزة للحدود الزمنية للأجيال.
عاش الشيخ مبارك بن محمد الميلي، معظم ايامه في مدينة الأغواط بالجنوب الجزائري، وهي المدينة التي عاش فيها، وانتقل اليها بدعوة من أهلها، ولا تكشف الوثائق التاريخية، الظروف التي جاءت فيها هذه الدعوة، ولماذا كانت موجهة للشيخ مبارك بن محمد الميلي، على وجه التحديد، من بين الصف الأول من القيادات التاريخية لجمعية العلماء، والرجل لم تعرف له الكثير من النشاطات، إلا في هذه المدينة، في الوقت الذي لم يلبث إلا أياما قليلة في مدينة بوسعادة، الذي حاصرته فيها الضغوط الاستعمارية، التي اخرجته من مدينة الاغواط.
لقد استنجد الشيخ ابن باديس الشيخ مبارك بن محمد الميلي، لمواجهة أزمة من أكبر الأزمات، التي عرفتها جمعية العلماء، على مستوى القيادات التاريخية، فقد تولى الشيخ مبارك بن محمد الميلي إدارة مجلة البصائر (الصفحة غير موجودة) خلفا للشيخ “الطيب العقبي” الذي استقال من إدارة المجلة بعد توتر العلاقة بين ابن باديس والعقبي في الإدارة الإعلامية للمجلة، وهي الأزمة الإعلامية الأولى التي تعرفها الممارسة الإعلامية الجزائرية، والتي ما تزال الكثير من تفاصيلها متوارية إلا النزر القليل البعيد عن الحقيقة التاريخية، وهي الأزمة التي كانت (إعلامية) بامتياز، حين تجل الصدام بين العقلية الفقهية الإصلاحية، بالذهنية الإعلامية الصحفية، وهي الأزمة التي تمكن الشيخ مبارك بن محمد الميلي، من التخفيف من وطأتها، كونه كان أقرب إلى العقلية الفقهية الإصلاحية.
لقد دفع الشيخ مبارك بن محمد الميلي، الثمن غاليا لأفكاره الإصلاحية، التي تبناها داخل جمعية العلماء المسلمين، والتي مارسها في الفضاءات الاجتماعية العامة، فقد كان منهج الشيخ مبارك بن محمد الميلي، أقرب إلى الانتصار والاعتماد على الجوانب الاجتماعية، في حركة الإصلاح الجزائرية، وهو الاتجاه الذي مارسه، من خلال المشاريع التي أطلقها خارج نطاق برنامج جمعية العلماء المسلمين، وهي الأفكار التي جسدها في كتاباته الغزيرة، والتي ثبتها في كتابيه (الشرك ومظاهره)، وكتاب (تاريخ الجزائر في القديم والحديث).
لقد منح الشيخ مبارك بن محمد الميلي، حركة الإصلاح الجزائرية بطاقة الهوية، التي تسند على وثائقه في كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث)، للانطلاق نحو مسارات الإصلاح التاريخي، الذي يعزز شرعيتها الوجودية، ويجعل من نضالها يحمل الطابع القوي، الذي يحمي الهوية الوطنية، ويخرجها من تلك الصور التقليدية، التي التصقت بها في الدوائر الدينية فقط، وإنما خرج بها الشيخ مبارك بن محمد الميلي، إلى الآفاق الرحبة، لتأسيس نواة أولية لمدرسة تاريخية جزائرية، تحتاج إلى المزيد من الجهود العلمية والفكرية والأكاديمية، التي تمكن هذه المدرسة من الظهور، إلا أن الجهود التي جاءت بعد الشيخ مبارك بن محمد الميلي، لم ترق إلى تلك المستويات العليا، وبقيت مجرد جهود فردية، بعيدة عن المنظور الوطني الشامل، الذي يجيب عن أسئلة الأجيال القادمة، ويمنحها من الفرص المنهجية والفكرية والسياسية، ما يجعلها قادرة على كسب رهانات الصراعات المستقبلية الكبرى.