جمعية العلماء الجزائريين (2) باعثة الأمة الجزائرية والمغرب العربي وهادمة الاستعمار
بقلم: الشيخ الفضيل الورتلاني -
كان أولئك العلماء الأحرار، أفرادا قلائل، يعدون على الأصابع، لا يجمعهم زمان ولا مكان ولا حزب ولا هيئة، ولا ناد من الأندية، فضلا عن برنامج مسطر معلوم. وإنما جمعتهم فكرة مشرقة، وعقيدة حارة، وآلام مشتركة، ذلك وحده هو الذي أقنع كل واحد منهم على انفراد، بوجوب السعي لإصلاح حال الأمة الجزائرية العريقة، لأن كل واحد منهم شعر شعورا عميقا، بالذي ساقه إليها الاستعمار من محن، وما أنزله عليها من ضربات، وما كان ينتويه لها من غدر وإفناء. ظهرت علائم تلك النية، وطلائعها واضحة، من ثنايا جميع تصرفاتهم المريبة، أفرادا ودولة، وكان هذا الوحش الضري الذي نسميه الاستعمار، يعتمد في افتراسه للأمة الجزائرية على سلاحين أساسيين، ما وجد على وجه الأرض حتى الآن أخبث منهما.
الأول: التجهيل. الثاني: التفقير.
فعبأ تحت رايهما، كل ما كان يملك من قوة مادية وأدبيه، وكانت جميع أجهزة الدولة، من جيش وبوليس، وإدارة وقضاة، من ضمن أسلحتهما، ولم يكن عيسى عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، ورسول الإنسانية، بعيدا عن هذه المعركة الفاجرة التي يبرؤ منها، وتبرؤ منها تعاليمه السمحة الخالدة، فلقد حشد الاستعمار جيشا عرمرما ممن يسميهم المبشرين، وما كانوا من التبشير بتعاليم المسيح البرئ إلا كما يكون الذئب مع الغنم. ولقد ساعد الاستعمار على النجاح في مهمته الإجرامية، ما كانت الأمة فيه من غليان، وما أبدته من مقاومة للاحتلال، في ثورات عنيفة متوالية جامحة، فكان يتوسل بها إلى مصادرة كل ما تصل إليه يده من علم ومال، حتى أنه قد صادر مرة واحدة، إثر ثورة فاشلة، ما يعادل نحو خمسة ملايين دونم من الأراضي المملوكة للأفراد، وحتى أصبح ممارسة العلم في نظره، نوعا من الخيانة العظمى للدولة الغازية، تعاقب عليه بأقسى العقوبات.
وبعد قرن ونيف من هذه الحملات البربرية، ضد العلم والرزق، كادت الأمة الجزائرية، أن تغرق فعلا في بحر من الجهل والفقر، كما ظهرت إلى الوجود وإلى العمل، تلك الفئة الواعية من العلماء الأحرار، وسموا أنفسهم بالمصلحين، وسميت حركتهم بالإصلاح، وكان مظهر دعوتهم في الأول دينيا محضا. ولكنه دين واسع نظيف، يتناول الحياة من جذورها ويرقى معها حتى يصل إلى أعلى أغصانها، فتوجهوا أول ما توجهوا إلى العقول، يطهرونها مما علق بها من تخريف، ويعوضون عليها ما فقدته من نور، وتوجهوا إلى القلوب، فمسحوا عليها بيد السماء فمست حرارتها الشغاف، فصحت من نومها العميق، ونهضت حالا تطلب الحق، وتطلب الحياة، ولكن معرفتهما بالتفصيل وإدراكهما بالفعل، كان في حاجة إلى وقت طويل، وإلى كفاح مرير، كان لا بد من المرور على الشك، ثم على الظن نم إلى اليقين، ولم تكن الطرق بينها معبدة، ولا المواصلات السريعة متوفرة، إلا ما كان من أصالة تلك القلوب وتلك العقول، وما طبعت عليه من حنين فطري إلى الحق وإلى الحياة.
قام هؤلاء الأفراد القلائل من العلماء الأحرار، يدعون الأمة الجزائرية إلى الرجوع لدينها الصحيح، الذي نجده غضا طريا في الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، ودعوا الأمة إلى نبذ كل ما خالف ذلك من تخريف، كان من صنع المستعمرين بواسطة الجهلة الدجالين، والمتعالين المأجورين، وقام هؤلاء الدجالون من جهة أخرى قومة جديدة، بإيعاز من الاستعمار ومساعدة علنية منه. ووقع في فخهم من وقع من الصالحين عن حسن نية، فدعا الجميع إلى ما كان عليه الآباء والأجداد، وإلى ما يراه الدراويش في المنام، وترك كل ما قاله الله والرسول، والاقتصار على التبرك بها ليس غير، فكانت المعارك بين الفريقين، وبين الدعوتين، وكانت عنيفة قاسية، كانت بين حق أعزل من جميع الأسلحة المادية طرفه المصلحون، وبين باطل يملك منها كل شيء طرفه المستعمرون ودولتهم في الواقع، وإنما يسترون أنفسهم بطائفة من الدجالين المأجورين في الظاهر. ثم لقن الاستعمار دجاليه أولا: - حتى يشوشوا على الأمة ويبعدوا بينهما وبين المصلحين - بأن يتهموا العلماء بكل خبيثة، وأوصوهم بأن يبالغوا في الإساءة إليهم ما استطاعوا، على أن تضمن الدولة حمايتهم من أي عقاب، فقالوا في المصلحين: إنهم ملحدون زنادقة: وأنهم كفرة مارقون، وقالوا أنهم وهابيون يكرهون النبي وآل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أنهم صنائع دول أجنبية مأجورون، وقالوا أنهم شيوعيون ونازيون، وفاشستيون، وانكليز وهلم جرا ... ولكن صفاء فطرة الجزائريين وتعلقهم بالحق المجرد وتقديسه، والرغبة الصادقة في البحث عنه، ساقهم أخيرا، وبعد نقاش طويل، وجدال عنيف وخصومات شديدة، حتى بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره، ساقهم إلى النور فرأوا صورة الحياة واضحة، ورأوا وجه الحق جليا، فاعتنقوهما عن رغبة وشوق وعن قناعة وإيمان، وبعد حين، أصبحت الأمة الجزائرية كلها مصلحة، بل أصبحت بعد ذلك كلها ثائرة - ثائرة على الشر والباطل - ثائرة على الاستعمار الذي هو منبع كل شر وباطل، فحملت السلاح جادة، وأقسمت صادقة، أن لا تضعه حتى تتحرر منه تحررا كاملا، وهي واصلة عما قريب بإذن الله.
جريدة بيروت المساء 28 - 2 - 1956 والمنار الدمشقية