المنهج النقدي في التفسير عند الإمام عبد الحميد ابن باديس 1/2
بقلم: د. محمد الدراجي -
لقد كان للحركة الإصلاحية التي رفع لواءها الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله، عظيم الأثر في ربوع العالم الإسلامي، مشرقا و مغربا، ولقد أحسن العلامة ابن باديس تصوير هذا التأثير فقال:« إن السيد رشيد رضا بما نشر من تفسير للقرآن الكريم على صفحات المنار، و ما كتب في المنار، و في غير المنار، هو الذي جلى الإسلام بصفاته الحقيقية للمسلمين و غير المسلمين، وهو الذي لفت المسلمين إلى هداية القرآن، وهو الذي دحض خصوم الإسلام من المنتمين إليه ومن غيره، وهتك أستارهم حتى صاروا لا يحرك أحد منهم أو من أشباههم يده إلاّ أخذ بجنايته، فهذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى، اليوم، في العالم إصلاحا و هداية، بنيانا و دفاعا، كلها من آثاره رحمه الله، وجزاه أفضل ما يجزي به العاملين»(1).
وأكثر الحركات تجاوبا مع حركة المنار التجديدية في المشرق، حركة الإصلاح في الشمال الإفريقي بزعامة الإمام المصلح، والمفكر المجدد عبد الحميد بن باديس، هذه الشخصية التي لا تضارعها في ثرائها إلا شخصية جمال الدين الأفغاني".
ولئن تعددت جوانب العظمة في هذه الشخصية العملاقة، إذ هو مصلح اجتماعي كبير، سخر قدراته لمحاربة مظاهر التدهور الاجتماعي في الأمة الإسلامية.
ومرب أفنى عمره في تربية الأجيال و ربطها بأصولها الثقافية و الفكرية و الحضارية حتى لا يمسخها الاستعمار بالتجنيس و الاندماج.
وصحفي قدير وظف القلم و القرطاس لبلوغ مآربه في إيقاظ الحس الوطني و الديني عند قطاع عريض من هذا الشعب المعطاء.
ومجاهد كبير، جابه الاستعمار الفرنسي دون خوف أو وجل، فأفسد عليه مشاريعه و مخططاته.
وشاعر مرهف الإحساس يتدفق شعره بالمعاني الجليلة و الحكم السامية...
و مفكر من الطراز العالي غلغل الفكر في البحث عن أساب الوهن الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية.
وأديب كبير امتلك ناصية اللغة، وله أسلوب يبوئه مكانه عالية بين الكتاب المجيدين.
وخطيب مفوّه يشد إليه السامعين، ويستثير كوامنهم ويحرك وجدانهم، وهو مفسر لكتاب الله تعالى، له نظرات موّفقه في إدراك أسراره، وفهم معانيه.
وغيرها من الجوانب التي أشار إليها عارفوه، وهي كلها تحتاج إلى دراسة مستفيضة تكشف القناع، وتميط اللثام عن عظمة هذا الابن البار للجزائر الذي عاش للإسلام و الجزائر، ونحن في هذا المقال إنما يهمنا ابن باديس المفسر.
ابن باديس و التفسير
رغم مشاغل الأستاذ العلاّمة ابن باديس التربوية الإصلاحية و السياسية، فإنه كان يخصص جزءا من وقته للقرآن الكريم أساس دعوته وحركته الإصلاحية يتدارسه ويدرسه للناس بالجامع الأخضر كل ليلة بعد صلاة العشاء حتى أتم تفسيره كاملا في مدة تقارب الخمس و عشرين سنة، يقول العلامة محمد البشير الإبراهيمي منوها بهذا العمل، مشيدا بهذا الجهد، واصفا إياه بالفخر لهذا القطر:« أتم الله نعمته على القطر الجزائري بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لتفسير الكتاب الكريم درسا على الطريقة السلفية، و كان إكماله إياه على هذه الطريقة في خمس و عشرين سنة متواليات مفخرة مدخرة لهذا القطر، و بشرى عامة لدعاة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي كله، تمسح عن نفوسهم الأسى و الحزن لما عاق إمام المصلحين محمد عبده عن إتمامه درسا و لما عاق حواريه الإمام محمد رشيد رضا عن إتمامه كتابة»(2).
ولقد أدركت الأمة الجزائرية، قيمة هذه المفخرة، وقدرت عظمة هذه البشرى فسارعت عن بكرة أبيها، زرافات ووحدانا، لإقامة احتفالات احتفاءا بالمفسر، و اهتماما بالتفسير، ولقد حاول الإبراهيمي تصوير روعة هذا الإقبال، ولكنه اعترف بعجز التعبير عن الوصف فقال: «وليس وصف مشهد دخول هذا الموكب إلى قسنطينة و انغماس الضيوف و المضيفين في غمرة من نشوة الفرح البالغ حد الذهول بالذي يسعه بياني و إن وسعه إدراكي و عياني»(3).
ولقد كانت هذه الاحتفالات آية في التنظيم و آية في الدلالة على تعلق الأمة الجزائرية بكتاب الله عز وجل، وبالعلماء الذين يأخذون بأيديها لفهم هذا الكتاب والعمل به و آية كذلك على أن الكلمة الصادقة من الداعية الصادق التي تتخذ القرآن مصدرا لها، وحسن فهمه منهجا لها، تحدث في النفوس، و المجتمعات، ما لا تحدثه الأسلحة الفتاكة و الجيوش الجرارة.
ولقد جادت قريحة محمد العيد آل خليفة- رحمه الله- بقصيدة عصماء، صور فيها عظمة الحدث.
بمثلك تعتز البلاد و تفخر *** وتزهر بالعلم المنير وتزخر
طبعت على العلم النفوس نواشئا ***بمخبر صدق لا يدانيه مخبر
نهجت لها في العلم نهج بلاغة *** ونهج مفاداة كأنه حيدر
حبتك عمالات الجزائر حرمة *** مشرقة عظمى بها أنت أجدر
ففي كل وفد راشد لك دعوة *** و في كل حفل حاشد لك منبر
يراعك في التحرير أمضى من الظبى *** و أفضى من الأحكام أيان يشهر
ودرسك في التفسير أشهى من الجنى *** و أبهى من الروض النظير و أبهر
ختمت كتاب الله ختمة دارس *** بصير له حل العويض ميسر
فكم لك في القرآن فهم موّفق *** وكم لك في القرآن فهم محرر
قبست من القرآن مشعل حكمة *** ينار به السر اللطيف ويشهر
وبنيت بالقرآن فضل حضارة *** أقر لها كسرى و أذعن قيصر
حكيت جمال الدين في نظراته *** كأن (جمال الدين) فيك مصور
و أشبهت في فقه الشريعة عبده *** فهل كنته أم (عبده) فيك ينشر
أعد يا ابن باديس الحديث و أبده *** بأنغمك التي أنت بها تؤثر
قسنطينة اعتزت بأن وفودها *** على الخير فيها و الهدى تتجمهر
وفود سلام لا وفود خصومة *** تبشر فيها بالرضى وتبشر
وتهدي إلى عبد الحميد تحية *** كزهر الربى أو أنها منه أعطر
وتهنئةً منها بختم مفسَّر *** من القول لا يسمو عليه مفسر(4)
ونكتفي بهذا الجزء من تلك القصيدة الرائعة، للشاعر الملهم الموهوب، محمد العيد آل خليفة، شاعر النهضة الإصلاحية و العلمية و الأدبية، في الشمال الإفريقي، وهو سجل صادق لهذا الاحتفال العظيم، الذي بلغ الذروة في كل شيء، ولكن شيئا واحدا بقي يكدر ذلك الصفو الذي بلغ حد الكمال.. وينغص تلك الغبطة التي بلغت حد الحبور، وهو أن ذلك التفسير كان تدريسا، ولم يقيض الله تعالى من يدّون تلك النفائس و الدرر، ولقد أدرك العلامة محمد البشير الإبراهيمي ذلك يوم الاحتفال، فقال:« وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن على هذه الطريقة في القطر الجزائري فإن دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيدها بالكتابة، ولو وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخرا لا يقوّم بمال، ولاضطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال ، ولتمخض لنا ربع قرن عن تفسير يكون حجة هذا القرآن على القرون الآتية.»(5)
ومن قرآ تلك النماذج القليلة المنشورة في الشهاب باسم مجالس التذكير علم أي علم ضاع و أي كنز غطى عليه الإهمال. »
نعم إنها لخسارة لا تقدر بثمن، تلك التي ضيعها المسلمون لما لم يدونوا تلك الدروس النفيسة في التفسير، وإن المرء لتتملكه الدهشة، ويأخذه العجب كل مأخذ، لما يرى من تفريط تلامذة ابن باديس و حوارييه في تلك الدرر النفيسة التي لا تقوم بمال.
ولقد كاد أن يحصل الشيء نفسه مع تفسير الشيخ محمد عبده رحمه الله، الذي كان يفسر كتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبق إليه، مع استقلال في الفكر، لكن السامعين، كما يقول الإبراهيمي «...مع اعتقادهم بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها مما لم تنطو عليه حنايا عالم و صحائف كتاب لم تتسابق أقلامهم لتقييد تلك الدروس إلا قليل، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد، ولو لم يقيض الله محمد رشيد رضا لهذا العمل الجليل لضاع كله، ولكن الله وفقه لحفظ معاني تلك الدروس، وسدد قلمه في أدائها، ثم نهج نهجه بعد موته وسار على شعاع هديه في تفسير كلام الله، فأبقى لهذه تلك الأسفار القيمة المعروفة بتفسير المنار... «
ولكن الألطاف الإهية التي ألهمت ابن باديس رحمه الله أن ينتقي عينات من تلك النفائس ويكتبها كافتتاحيات لمجلته الشهاب، واختار لها عنوانا موحيا، مليئا بالدلالات، ومفعما بالرموز وهو « مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير. «
مؤهلات التفسير عند الإمام ابن باديس
إذا كان التفسير هو محاولة فهم مراد الله عز وجل من وحيه على قدر الطاقة البشرية، كما مر معنا، فإن العلماء قد أوضحوا بأنه أشرف العلوم الشرعية قاطبة، لأنه العلم الذي يتخذ من كلام الله موضوعا له، يكشف عن خباياه، ويستلهم منه الهدايات، ويقتبس منه التعاليم، ويحدد معالم المنهج الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويبوئ من أخذ بمعالم ذلك المنهج دور الريادة و القيادة، و الشهادة على الأمم..
ولذا فإن التفسير ليس كلأ مباحا لكل من هب ودب، وإنما يحتاج المفسر إلى مؤهلات علمية و أخلاقية، حتى يكون أهلا لتعاطي التفسير، و إلا شمله ذلك الوعيد الشديد الذي توعد به النبي صلى الله عليه وسلم:« من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار«(6).
و العلامة ابن باديس، قد حقق العلوم و المعارف التي يجب أن تتوفر في المفسر، من الملكة اللغوية وسعة الاطلاع على السنة، و مقاصد الشريعة و أسرار التشريع، و الأطوار و التقلبات التي مرت بها المجتمعات الإسلامية و البشرية على العموم، ولقد أدرك الإبراهيمي رحمه الله هذه المؤهلات في ابن باديس فقال :" ثم جاء أخونا وصديقنا الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قائد تلك النهضة بالجزائر بتفسيره لكلام الله على تلك الطريقة، وهو ممن لا يقصر عمن ذكرناهم في استكمال وسائلها في ملكة بيانية راسخة، وسعة إطلاع على السنة و تفقه فيها و غوص على أسرارها، و إحاطة و باع مديد في علم الاجتماع البشري وعوارضه، و إلمام بمنتجات العقول و مستحدثات الاختراع و مستجدات العمران، يمد ذلك كله قوة خطابية قليلة النظير و قلم كاتب لا تفل له شباه".
وعاد العلامة محمد البشير الإبراهيمي في موضع آخر إلى الحديث عن مؤهلات التفسير عند الإمام عبد الحميد بن باديس، وكيف أن المؤهلات التي رزقها ابن باديس لم يرزقها إلا الأفذاذ المعدودون من البشر فقال رحمه الله: « له ذوق خاص في فهم القرآن كأنه حاسة سادسة خص بها، يرفده بعد الذكاء المشرق و القريحة الوقادة، و البصيرة النافذة، بيان ناصع، و إطلاع واسع، وذرع فسيح في العلوم النفسية و الكونية وباع مديد في علم الاجتماع، ورأي سديد في عوارضه و أمراضه، يمد ذلك كله شجاعة في الرأي، وشجاعة في القول، لم يرزقها إلا الأفذاذ المعدودون في البشر«(7).
كما علق البشير الإبراهيمي على الخطاب الذي ارتجله العلامة عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي، والذي كان موضوعه« العرب في القرآن« وحاول الإبراهيمي نقله إلى قراء الشهاب الغراء ولكنه أقر بالقصور وهو صاحب البيان الجهير و القلم الخطير، فقال معلقا: «... وهيهات لما نود من نقله للقراء بجمله و ألفاظه، فإنه خطاب عظيم في موضوع خطير لا يضطلع به غير الأستاذ في علمه بفنون القرآن وغوصه على مغازيه البعيدة و نفاذه في معانيه العالية»(8).
ومما يؤكد تضلع الشيخ عبد الحميد بن باديس في علوم التفسير،ما لاحظه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من أنه رحمه الله :« سلك في درس كلام الله أسلوبا سلفي النزعة و المادة، عصري الأسلوب و المرمى، مستمدا من آيات القرآن وأسرارها أكثر مما هو مستمد من التفاسير و أسفارها».
غرضه من التفسير:
إن الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، كان يعتبر نفسه خادما للقرآن الكريم، فقال في حفل الاختتام كلمة رائعة افتتح بها خطابه:« أنتم ضيوف القرآن...وهذا اليوم يوم القرآن...وما أنا إلا خادم القرآن»(9).
ولمكانة القرآن في منهجية عبد الحميد بن باديس الإصلاحية، فإنه كان دائما يؤخر الاحتفال الذي اقترحه بعض زملائه و رفقائه أن يقيموه له تنويها ببعض حقه على العلم، وشكرا لأعماله الجليلة و آثاره الحميدة في التعليم بهذا الوطن...واعترافا بكونه واضع أسس النهضة...فكان دائما يؤخر هذا الاحتفال و يقول: دعوا هذا حتى نختم دروس التفسير...
كأنه يرى أن عمله في التفسير هو أجل أعماله في التعليم...كأنه رحمه الله كان معلق البال بهذا العمل و يخشى أن تقطعه قواطع الدهر(10).
ولقد كان ابن باديس رحمه الله، شديد التأثر بالطريقة الهدائية في التفسير، التي انتهجتها مدرسة المنار، فقد استهدف ابن باديس في تفسيره تخريج أجيال مؤمنة، متخلقة بأخلاق القرآن لأنه يؤمن بأن القرآن الذي كون رجالا في السلف لا يكثر عليه أن يكون رجالاً اليوم لو أحسن فهمه و تدبره فقال رحمه الله :« فإننا نربي –والحمد لله- تلامذتنا على القرآن من أول يوم ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كسلفهم، وعلى هؤلاء الرجال تعلق هذه الأمة آمالها و في سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها«(11).
وهذا النص يبين لنا بوضوح الأهداف السامية، و الغايات النبيلة التي رام ابن باديس تحقيقها من خلال الدرس التفسيري، وهي محاولة بعث المجتمع الإسلامي الذي عرف مرحلة الركود الحضاري منذ أزمنة بعيدة، عن طريق
بناء الإنسان المسلم بناء قرآنيا يكسبه الفعالية الحضارية ويخرجه من مرحلة الذهول الحضاري التي يعيشها، فقال رحمه الله: «لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه و العذاب المنوع الذي نذوقه و نقاسيه إلى بالرجوع إلى القرآن إلى علمه و هديه و بناء العقائد و الأحكام و الآداب عليه«(12).
وعاود ابن باديس الكرة ثانية عند تفسير قوله تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (13)
ليؤكد بأن القرآن هو منطلق الإصلاح، فبعد تقسيمه الأمراض التي تعترض المجتمعات البشرية إلى نوعين، أمراض أرواح وأمراض أبدان، أوضح بأن القرآن الكريم هو منطلق الإصلاح وهو شفاء المجتمع البشري مما شرع من أصول العدل وقواعد العمران ونظم التعامل فقال رحمه الله:« على أن القرآن هو شفاء لأفراده فقد شرع من أصول العدل، وقواعد العمران ونظم التعامل وسياسة الناس، ما فيه العلاج الكافي، و الدواء الشافي لأمراض المجتمع الإنساني في جميع أمراضه وعلله، شفاء العقائد والأخلاق وهما أساس الأعمال و المجتمع، وهذه الثلاثة لا تكاد تخلو آيات القرآن من معالجته، وبيان ما هو شفاءها لها و لا شفاء لها إلا بالقرآن- و البيان النبوي راجع إلى القرآن- ومن طلب شفاءها في غير القرآن فإنه لا يزيدها إلا مرضا، فهذه الأمم الغربية بسجونها ومشانقها و محاكمها و قوتها قد امتلأت بالجنايات و الفضائح المنكرة التي تقشعر منها الأبدان، وهذه الممالك الإسلامية التي تقيم الحدود القرآنية كالمملكة النجدية الحجازية، و المملكة اليمانية، قد ضرب الأمن رواقه عليهما و استقرت السكينة فيهما، دون سجون و لا مشانق مثل أولئك، وما ذلك إلا أنهم داووا الملك بدواء القرآن، فكان الشفاء التام«(14).
فرؤية ابن باديس للإصلاح الاجتماعي تنطلق من القرآن الكريم، إذ احتوى هذا الأخير على علاج كل المشاكل التي تعترض الاجتماع البشري، ولذا فإنه-ابن باديس- استهدف من خلال دروسه في التفسير، بعث إحياء القرآن على الطريقة السلفية، ليحيي به الأمة الإسلامية التي تدين بهذا القرآن ، وكذا التقريب بين الأمة وبين أخلاق القرآن، لتعود هذه الأمة إلى مكانتها التي أرادها الله تعالى لها، تؤدي رسالتها على باقي الأمم و الشعوب، وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (15)، ويقول تعالى : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (16).
ومن يطالع تلك المقالات النفيسة في التفسير في مجال مجالس التذكير يدرك صدق هذا الذي نقول، ويلاحظ كيف جلّى ابن باديس الهداية القرآنية في أسمى معانيها، و أوضح صورها، و كيف ارتقى –الإمام ابن باديس- بدرس التفسير، وخلصه من مرحلة الركود و الانحطاط التي كان عليها.
نقده طرق تدريس التفسير ومناهجه العتيقة
والكلام هنا وثيق الصلة، شديد الارتباط بالعنصر السابق في المقال، إذ هناك علاقة تكاملية بين الغرض من التفسير و المنهج المتبع في التفسير.
ولذلك فإن دعاة التجديد الإسلامي المحدثين، قد اعترضت سبيلهم تلك المناهج العتيقة في التفسير، التي تحجب فعلا القارئ و الدارس عن الهداية القرآنية فدعوا إلى إزالتها و استبدالها بمناهج تقرب الإنسان من هداية القرآن، و تأخذ بيده إلى حسن الفهم لكتاب الله تعالى.
وفي مقدمة هؤلاء جمال الدين الأفغاني رحمه الله إذ دعا إلى الثورة على تلك المناهج التقليدية التي تحجب على المسلم نور القرآن وهدايته، لأنها تغرقه في مباحث لفظية و كلامية ومصطلحات غريبة يصعب عليه فك رموزها، فقال رحمه الله:« انصرفنا عن الأخذ بروح القرآن و العمل بمعانيه ومضامينه، إلى الاشتغال بألفاظه و إعرابه و الوقوف عند بابه دون التخطي إلى محرابه...وإنما نحن اليوم حملنا مع القرآن ألفاظا لفظية، ومناقشات حول أحكام فرضية و استنتاجات ليست في مصلحة البشر و لا هي من وسائل هدايتهم إلى الإيمان به، و أضفنا إليه من الشرح و التفسير ما لا يحصل له سوى الإغراب و إرضاء العامة»(17).
ويقول الأفغاني كذلك مبينا مدى اعتناء المفسرين المتأخرين على وجه الخصوص بالمماحكات اللفظية والكلامية، وابتعادهم عن النظر في القرآن من حيث هو صالح لقيادة البشرية لما فيه صلاحها في الدنيا والآخرة فقال: «القرآن و إني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المدقع...وكيف لا أقول وآسفاه، وإذا نهض أحد لتفسير القرآن فلا أراه يهيم إلا بباء البسملة ويغوص، ولا يخرج من مخرج حرف الصاد من لصراط حتى يهوي هو ومن يقرأ ذلك التفسير في هوة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيوية و الأخروية - مع استكماله الأمر على أتم وجوههما- فعم الجهل وتفشى الجمود في كثير من المتردين برداء العلماء حتى تخرصوا على القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية و القرآن بريء مما يقولون«(18).
ولقد سار العلامة ابن باديس على خطى السيد جمال الدين الأفغاني في نقد المناهج العتيقة في التفسير التي كانت سائدة في المعاهد العلمية في وقته، و أكد بأنها مناهج تحول دون الانتفاع بهداية القرآن، و اعتبر هذا مظهرا من مظاهر هجر القرآن، فعند تفسير قوله تعالى : وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (19) دعا إلى الاهتمام بعلم التفسير، باعتباره العلم الذي يحقق لنا تدبر آيات القرآن وتفهم معانيها، إذ لا يعقل أن يتخرج طالب من معهد من المعاهد العلمية المرموقة، ويتصدى للوعظ و الإرشاد، والتدريس والتعليم، دون أن يكون قد أخذ، بحظ وافر من علوم التفسير، و هذا من أكبر العيوب في تلك المعاهد،و إذا وجد درس في التفسير في أحد هذه المعاهد فإن محتواه، لا يعدو أن يكون مماحكات لغوية، وتطبيقات نحوية، فقال رحمه الله :« و دعانا القرآن إلى تدبره و تفهمه و التفكر في آياته و لا يتم ذلك إلا بتفسيره و تبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره و تبيينه فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في الحلول الآلية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلا بل و يصير مدرسا متصدرا و لم يفعل ذلك، و في جامع الزيتونة- عمره الله تعالى- إذ حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير فإنه – ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم و اصحابه في القواعد التي كان يحسب أنّه فرغ منها من قبل فيقضي في خصومه من الخصومات أياما أو شهورا فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلا دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير و إنما قضى السنة في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية فهذا هجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن"(20).
فكل منهج في التفسير لا يجعل من إبراز الهداية القرآنية هدفا أساسيا له فهو في المنظور الباديسي نوع من أنواع هجر القرآن، حتى ولو كان فاعل ذلك يحسب نفسه في خدمة القرآن، فدرس التفسير ليس من أجل تطبيق القواعد الآلية من نحو وصرف وبلاغة، وإنما هو من أجل فهم الشرائع والأحكام، وإدراك مقاصد التشريع وأسرار التكليف وتقديم إجابات حول المشاكل التي تواجه الإنسان، ولقد أدرك أحد الباحثين المعاصرين هذه الجوانب في تفسير ابن باديس فقال مقارنا بين هذا المنهج الباديسي في التفسير و غيره :« ولكم كان ابن باديس رحمه الله رائعا متفردا مسددا في تفسيره للقرآن الكريم، كان يعرض بثاقب فكره وواسع أفقه أسلوبه السهل الممتع هداية القرآن، ورسالته الشاملة للفرد والجماعة والدولة والإنسانية كافة، وكان يعالج مشكلات العصر على اختلاف جوانبها حين يفسر آيات القرآن، فهو يتكلم في لب قضايا السياسة والمجتمع وهو لا يغادر آيات الكتاب الكريم دون اعتساف أو حذلقة، ولكم أرى بعض من قد يفتنون العامة الآن بدروسهم في التفسير في موقف لا يحسدون عليه إلى جانب مثل ذلك العملاق الفقيه في كتاب الله الذي كان يقدم بتفسيره بعض الدلائل على أن هذا الكتاب حقا لا تنقضي عجائبه«(21).
الهوامش:
[1] - آثار ابن باديس ج3/ ص96.
2 - آثار الإمام الإبراهيمي، ج1/ ص318.
3- آثار الإمام الإبراهيمي، ج1/ ص336.
4- أنظر القصيدة كاملة، في المجالس التذكير، ص 462.
5 - آثار الإبراهيمي ج2/ ص328.
6- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن ج5/ ص 139.
7- آثار الإبراهيمي ج2/ ص 252.
8- آثار الإبراهيمي ج1/ ص 328.
9 - مجالس التذكير، ص 474.
10 - مجالس التذكير، ص 676.
11 - مجالس التذكير، ص 476.
12 - مجالس التذكير، ص 252.
13 - الإسراء، الآية 82.
14 - مجالس التذكير، ص 190-191.
15 - سورة البقرة، الآية 143.
16 - آل عمران ، الآية 110.
17 - جمال الدين الأفغاني: أحاديث وذكريات، ص 61.
18 - خاطرات جمال الدين الأفغاني، ص 99-100.
19 - سورة الفرقان، الآية 30.
20 - مجالس التذكير، ص 251.
21 - عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة، ص 7-8.