مـالك بن نبي ومستقبل مشروع النهضـة
بقلم: أحمد زقاوة –
قال تعالى " إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ضمن سياق هذه الآية كان مالك بن نبي يفكر في بلورة حضارة المجتمع ما بعد الموحدين الذي فقد كل الخصائص التي تجعل منه مجتمعا تاريخيا، وكان مبدأه في ذلك أن قضية كل مجتمع أو أمة هي قضية حضارة.
ولأجل هذه المهمة أختار إستراتجية تفكيك المفاهيم النظرية ومختلف الأطروحات الفلسفية والاجتماعية التي تكون بنية الفكر الإسلامي والفكر الغربي ثم بعد ذلك أخذ يشخص الواقع العربي والإسلامي الى مكوناته الجزئية على مستوى الفرد، المجتمع، الدولة، الحركات الإصلاحية والمذاهب معتمدا على الدقة " وبكل براعة" في تحليل الأبعاد النفسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، الدينية وأنثروبولوجية التي تحدد تركيبه المجتمع ككل. وفي نفس الاتجاه ظهر مالك بن نبي بارعا في الكشف عن جدلية التأثير والتأثر بين الثقافتين ( الإسلامية والغربية ).
و في المرحلة الأخيرة أرسى معالم البناء الاجتماعي للأمة واقترح لها الحلول الممكنة والشروط الضرورية للنهضة.
إن الظروف التي يمر بها المجتمع الإسلامي الواسع والمجتمع الدولي يجعل نسبة ثقتنا في مشروع النهضة الذي بشر به مفكرنا تزداد أكثر فأكثر، ونحن ننطلق هذا من افتراض فحواه أن الأفكار التي ينطوي عليها هذا المشروع لم تكن خاضعة لبعد زمني محدد وإنما تأخذ بعدا زمنيا طويل المدى.
من هنا تبرز أمامنا خاصية المستقبلية أو الاستشراف في فكر مالك بن نبي فهذه الميزة وهذا الافتراض هو مؤشر على صلاحية أفكاره وصيرورتها في المستقبل، والكثير من الأحداث التي شهدها ويشهدها العالم اليوم قد تنبأ بها مالك بن نبي من أمثلة ما توقع سقوط الإتحاد السوفيتي، تغير خريطة الأديان والمذاهب في العالم حدوث ثورة بالمفهوم التاريخي والاجتماعي في منطقة العالم الإسلامي (وكانت بالفعل في إيران). فالدارس لمشروع النهضة عند مالك خصوصا الجانب المستقبلي فيه تتجلى أمامه أربع خصائص تميزه:
1 - الأصالة.
2 - التنظير.
3 - التجديد.
4 - الفعالية
فما أحوج المستضعفين وهم يواجهون تيارات وامبريالية القرن الواحد والعشرين إلى مشروع بمثل هذه الخصائص ذلك أن مسألتنا اليوم، هي البحث عن وجهتنا في عالم متغير أكثر تقننة وأفكره.
و علينا أن نتساءل هل هدفنا هو اللحاق بالغرب الليبرالي أم أننا نريد نموذج حضاري يتجاوز الثغرات والأزمات التي عاشتها الأيديولوجيات وتعيشها الحضارة المعاصرة ؟
ثم ما هو دورنا في وضع عالمي متأزم يشهد كل يوم بؤر توتر على مستوى الروح والمادة أصبح فيها الإنسان في النهاية مهدد بالخطر ؟
يرى مالك بن نبي أن وجهة العالم الإسلامي اليوم لا يجب أن تفرضها الظروف العالمية وإنما يفرضها وتتحكم فيها الشروط النفسية والفكرية التي تشكلت عبر مسار التاريخ كله، ومن جهة أخرى نجد هذه الوجهة تتحدد وفق المهام الإستراتيجية المنوطة بالأمة وهذا هو المقصود من قول مالك " إما أن نغير أو نغير".
أما المسألة الثانية فهي من أكبر الإشكاليات التي يعيشها العقل العربي والإسلامي والتي مازال يتخبط فيها دون حل مقنع، وكل يوم نستيقظ فيه إلا ونجد مفاهيم جديدة تفتح واجهات أخرى للصراع الداخلي بين أفراد الأمة فمفاهيم كالتجديد، التحديث، العولمة، التطبيع، التكتل... الخ. ساهمت كثيرا في تمزيق شبكة العلاقات الاجتماعية والفكرية خصوصا.
إن الغرب الليبرالي يعاني هو الأخر صراعات على مستوى الذات، فقد عرف النصف الأخير من القرن العشرين تلاشي كبرى الأيديولوجيات، فمن الاشتراكية والشيوعية التي حكمت نصف العالم إلى القومية العربية التي تعاني من تمزق على مستوى أفكارها وفشل تام في أضفاء هوية للعالم العربي وفي تحقيق وحدة عربية وشيئا فشيئا تحول الخطاب العربي من الدفاع عن الوحدة العربية إلى الذود عن وحدة القطر العربي.
أما في الجهة الشرقية من قارة أسيا حيث اليابان والصين والنمور الصناعية فإن التركيبة الاجتماعية والنفسية والعقائدية لهذه الأمم لا تسمح بنهوض حضاري ذات بعد إنساني تضطلع بمهمة الإنقاذ والخلاص.
فالبشرية اليوم فرض عليها أن تحكم بشىء جديد أسمه الليبرالية التي ببقائها منفردة في العالم ينتهي التاريخ حسب فرانسيس فوكوياما، ليبدأ عصر جديد من الصراعات المقبلة بين الثقافات والحضارات وعلى وقعها تعيش الإنسانية في قلق وحيرة وتيه انه فعلا "عالم بلا معنى" كما سماه الباحث نور الدين العايدي.
ان طموح البشرية اليوم الى شيء من الاستقرار وضمان العيش الكريم وحقوق الإنسان وإرساء ثقافة السلم بين الشعوب وتجسيد مبادئ الديمقراطية وفي الأخير إلى حوار بين الحضارات لهو دليل على فقدان الأمل ونهاية مهمة الليبرالية.
لذلك ينبغي ان ندرك جيدا السر والسبب في توجه العالم في مطلع القرن 21 نحو وضع ميثاق للاخلاقيات الكونية يستمد لا من الليبرالية أو الشيوعية بل من الأديان الثلاثة، الإسلام، المسيحية واليهودية.
ففي وضع خطير كهذا يتحدد دورنا وتتضح رسالتنا أكثر لأننا بصدد بناء حضارة تقوم بعملية "ري" ظمأ الشعوب وأنسنة الإنسان. و في هذا السياق يوصينا مالك بن نبي بنقطة مهمة وهي "أن نجاحنا في المعركة العالمية يكون بقدر نجاحنا في معركتنا الداخلية" هذه المعركة التي تقوم على حسن إختيار مشروع النهضة الذي نريده ونؤسس له مع التنبه الى مجمل الأخطاء التي حذرنا منها المفكر والمتمثلة في: عقدة الانبهار بالغرب، التكديس، الشيئية، الذرية وذهان السهولة وذهان الصعوبة.
ونحسب أن مشروع النهضة لفيلسوف الحضارة مالك بن نبي مؤهل لقيادة وتوجيه الأمة نحو الاضطلاع بالمهمة الملقاة على عاتقها. أن النخب العربية والإسلامية مدعوة للنظر والتمعن بجدية وعمق في أفكار الرجل وعرضها على الأجيال الطالعة حتى لا يبقى في ذاكرة التاريخ وتنسى أفكاره في بطون الكتب، ليهمش في النهاية كما همش أستاذه المرحوم حمودة بن ساعي.