فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبراهيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ (3\3)

بقلم: سعد بن عبدالله بانِيمة -

أَيقَظَ الإِبراهِيمي الهِمَمَ، وقَرعَ الأَسمَاعَ، بكلِماتٍ تحمِلُ شَيئًا مِن الغِلظَةِ والـقَسوَةِ، أحيَانًا. لـكنها في حَقِيقَتِها مَـحبَّةٌ ورَحمَةٌ. فقد كان مُستَشعِرًا لبَلاءِ تقلِيدِ شبَابِ الإسلامِ للغَربِ ورَدَّه إلى الاستعدَادِ الذَّاتي لدَينَا، "كاستعدادِ المرِيضِ للمَوتِ"، و"شُعورٍ بالنَّقصِ في أَنفُسِنا لبُعدِ عَهدِنا بالعِزَّةِ والكَرَامَةِ"، و"لموتِ أشياءَ فينا تصَاحِبُ مُوتَها في العَادَةِ يَقظَةُ أَشياءٍ. ففَقدُ الإحسَاسِ بالوَاجِبِ تَصحَبُه يَقظَةُ الشَّهواتِ الجسدِيةِ. ومُوتُ النَّخوَةِ –كما يقول- تصحَبُهُ سُرعَةُ التَّقلِيدِ وعادَةُ الخُضوعِ للغَالِبِ وسُرعَةُ التَّحلُّلِ والذُّوبَان.

وكان الإبراهيمي ذُو نَظرَةٍ ثَاقِبةٍ لعَلاقَةِ الغَربِ بنا، فهو يقول: "إنَّ الغَربَ لا يُعطِينا إلا جُزءًا ممَّا يأخُذَه منَّا، ولا يُعطِينا إلا ما يَعُودُ علينا بالوبَالِ. وقد أعنَّاه على أَنفُسِنا فأصبَحَ المهَاجِرُ منَّا إلى العِلمِ يَذهَبُ بعَقلِه الشَّرقي فيَنبُذَه هناك كأنَّه عقَالٌ على رَأسِه، لا عَقلٌ في دِماغِه، ثمَّ يأتِينا يوم يَأتي بعَقلٍ غَربي، ومِنهم مَن يأتي بعَقلٍ غَربي ومعه امرَأَةٌ تحرُسُه أن يَزيغ!".[1]

ومـع كُلِّ الهِجماتِ وكثرَةِ الـعقَبَاتِ والـنكبَاتِ الـمُحِيطَةِ بالشَّبابِ والشَّاباتِ، إِلَّا أَنَّ الإِبراهيمي –رحمه الله- كان صاحِبَ هِمةٍ عَليَّةٍ ونَفسٍ زكيَّةٍ، أَبَت أَن تَذِلَّ أو تَهِن! أَو تَقنَطَ أو تَيأَس! فقَام بإنشَاءِ المعَاهِدِ الـدِّينيّةِ والمدَارِسِ الـتَّعليميَّةِ. فأَنشأَ ما يُسمّى بـ(الـمعاهِد البادِيسي)، والذي أُسِّسَ بـقَصدِ رَفعِ الأُميَّةِ التي اجتَاحَت البِلادَ، وحَرَفتِ الـشَّبابَ. فأَقبَلَ عليهِ الـشباب لـيَتعلَّمُوا مِنه، وينهَلُوا مِن مَعِينه. فكان كما قال المصلِحُ عن نفسه: "لـيعلم أبناؤُنا -مُعلِّمو هذا الجيل- أنَّنا -ولا مِنَّةَ عليهم- مَهَّدنا لهم كَثِيرًا مِن العِقابِ، وذلَّلنا لهم كَثِيرًا مِن الصِعَابِ، وحلَلنا كَثِيرًا مِن العُقدِ الاجتمَاعِيةِ التي عَقدَها البُعدُ عن هدَايةِ الدِّينِ، والجَهلِ بحقَائِقِه، ووَطَّأنا لهم أكنَافَ النُّفوسِ المستَعصِيةِ عن العِلم، المستَعصِمةِ بالجَهلِ، فأَقبَلت على العِلمِ بعد أن كانت عنه مُعرِضَةٌ، وجَادَت في سَبيلِه بالمالِ بعد أن كانت به شَحِيحَةٌ، واستمَرأت القِراءَةَ فآمَنَت بها وأَنِسَت، واستَوبَلت الأُمِّيَّةَ فكفَرَت بها، واستوحَشَت مِنها، وعَرفَت القُرآنَ بعد أن هَجَرته وتَنَكرَّت له، وأَصبَحَت تَهتَزُّ لسمَاعِ لُغَةِ القُرآنِ اهتزَازَ النَّشوَةِ والطَّربِ، وفتَحنَا أذهَانَها على حقَائِقِ الإسلامِ، فأَدرَكَتها وجَدَّت في طَلَبِها بعد أن كانت تتَلهَّى عنها بقُشُورٍ تُسمِّيها الإسلامِ، ووَصلنَا ماضِيَها المشرِقِ بحَاضِرِها المظلِمِ لينعَكِسَ عليه إشرَاقُه بعد أن قطَعَت الصِّلةَ بينها وبينه بجَهلِها ورُعُونتِها، ووَجَّهنَاها إلى سعَادَةِ الحيَاةِ وشَرفِ الحيَاةِ وجِدِّ الحيَاةِ، بعد أن كانت قانِعَةً مِنها لهزلِها وسفَاسِفها وتوافِهِها. وكل ذلك مما يُعِينُ المعلِّمين لهذا الجيل، ويُخفِّفُ عنهم المشقَّةَ"[2].

لقد بادر الإِبراهيمي ورِفَاقُهُ في "جمعية العلماء" بإِيفَادِ الـشَّبابِ إِلى الـتَّعلُّمِ خَارجَ حُدُودِ الـجَزائِرَ، في كُبرَى الـمعَاهِدِ والمنَارَات. ففِي تعدَادِه للـمشَارِيعِ الـعِلميةِ التي حقَّقتها الـجَمعِيةُ بعثَاتٌ إلى جامِع الزَّيتُونةِ في تُونس، وإلى جَامِعِ القَرويين بمدِينةِ فَاس مِن المغرب الأَقصى[3]. وكان هدف الإبراهيمي بذلك إعداد جيل متمكن من العلم، متسلح بالإيمان، يقوم بواجبات الإصلاح والتغيير كما ينبغي. "إنَّ زمَانَكم بَطَلٌ فقَاتِلُوه بالبُطُولَةِ لا بالبطَالَةِ؛ وإنَّ البَطَلَ هو الذي يتعَبُ ليَستَريحَ غَيرُه!"[4].

وواجَهَ الإبراهيمي، ومَن معه في "جمعية العلماء"، الـخِلافَاتَ بين الأحزَابِ الـسِّيَاسيَّةِ الموجُودَةِ وَقتَها، فقد كانت تُهدِّدُ الـوَطَنَ وتجرُّ عليه ضغَائِنَ وأحقَادًا، وتَفرُّقًا وافتِرَاقًا بين أبنَاءِ الـدِّينِ الواحِدِ والـوَطنِ الوَاحِدِ. وقد حَكَى الإِبراهيمي براثِنَ هذا الـجُرحِ، وما أَعقَبَه مِن آلاَمٍ ونكبَاتٍ، فقال: "إنَّنا لا نتَصوَّرُ كيف يخدِمُ السِّياسيُّ أُمَّتَه بتَقطِيعِ أوصَالِها، وشَتمِ رِجالِها، وتَسفِيه كُلِّ رَأيٍ إلَّا رَأيَه. ولا نتصوَّرُ أنَّ ممَّا تُخدَمُ به الأُمَّةُ هذه الدروسُ العَالِيةُ(!) في أسَاليبِ السَبِّ التي يُلقِّنُها بعضُ الأحزابِ لطَائفةٍ مِن شبَابِ الأُمَّةِ في معَاهِدَ المقَاهي والأَزِقَةِ! إِنَّ تربيَةَ الشُّبَانِ على الشَّتمِ والسبَابِ جَرِيمَةٌ لا تُغتَفرُ !"[5].

لذلك كان يَنصَحُ الشَّبابَ ويُحذِّرُهم مِن دعَاةِ تلك الأَحزَابِ البَعِيدَةِ عن دِينِهم وهَويَّتِهم، فيقُول: "العِلمَ، العِلمَ، أَيُّها الشَّبابُ، لا يُلهِيكم عنه سِمسَارُ أحزَابٍ ينفُخُ في مِيزَابٍ، ولا دَاعِيةُ انتخَابٍ في المجَامِعِ صخَّابٌ، ولا يَلفِتنَّكم عنه معلِّلٌ بسَرابٍ، ولا حَاوٍ بجرَابٍ، ولا عَاوٍ في خَرابٍ يَأتَمُّ بغُرَابٍ، ولا يَفتِنَّنكم عنه مُنزَوٍ في خَنقَةٍ، ولا مُلتَوٍ في زَنقَةٍ، ولا جَالِسٌ في ساباط على بسَاطٍ، يُحاكِي فيكم سُنَّةَ اللهِ في الأسبَاطِ! فكُلُّ وَاحِدٍ مِن هؤلاءِ مُشعوِذٌ خَلَّابٌ وسَاحِرٌ كذَّابٌ"[6].

وممَّا كان يَشغَلُ الإبراهيمي في إِعدَادِه وتَرتِيبِه داخِل مُجتَمعِه قَضِيةُ تَزوِيجِ الـشَّبابِ، والـمَشَاكِلِ الـتي تَقِفُ عائِقًا بينهم وبين بُلوغِ هذا الـمُرادِ![7] فقد كانت هناك عِدةُ مشَاكِل أَحَاطَت بالشَّبابِ، وتسَبَّبت في عُزُوفِهم عن هذه النِّعمَةِ العَظِيمةِ. وقد تَحدَّثَ الإِبراهيمي عنها فقال: "فإنَّ مِن بعضِ هذه المشَاكلِ ما لو تمَادَى وامتَدَّ لأتَى بنيَانَ الأُمَّةِ مِن القَواعِدِ، وقَضى عليها بالمسخِ أَولًا، والتَّلاشي أَخيرًا! أَعضَلُ هذه المشَاكِلِ، وأَعمَقُها أَثرًا في حيَاةِ الأُمَّةِ، وأَبعدُها تَأثِيرًا في تكوينِها، مُشكِلَةُ الزَّواج بالنِّسبَةِ إلى الشُّبَّان"[8].

وأعاد الإبراهيمي مشكلة عدم رغبةِ الـشباب في الزواج لأسباب عدَّة، منها:

- غلَاءُ الـمُهُورِ وتَعجِيزُ الشَّبابِ بالشُّروطِ، وقد تنَاولَ هذه القَضِيةَ فأجَادَ فيها وأَرشَدَ الطَّرَفَين لما فيه صَلاحُ الأِمرِ.[9]

- والـخَوفُ مِن الـمُستَقبَلِ الـمُترَتِّبِ على تكَاليفِ الزَّواجِ وتكثِيرِ الـنَّسلِ؛ والامتِناعُ بـدَاعِي عدمِ الزَّواجِ مِن الفتَاةِ الأُمِّيَّةِ! وقد تحدَّثَ الإِبراهيمي عن هاتين الـعَقبَتين وسَببِ انتشَارِهما وتَفشِّيهما في الـمجتمعِ، وكيفيةِ الوِقايةِ منهما.[10]

لقد قدَّمَ الإبراهيمي فَلسَفَته للزَّواجِ للشَّبابِ بقوله: "أَيُّها الشُّبَّان! إنَّكم لا تخدِمُون وَطنَكم وأُمَّتَكم بأَشرَفِ مِن أن تتَزَوَّجُوا، فيُصبِحَ لكم عِرضٌ تدَافِعُون عنه، وزَوجَاتٌ تحَامُون عنهن، وأَولَادٌ يُوسِّعُون الآمَالَ. هنالك تتَدرَّبُون على المسؤُوليات، وتَشعُرون بها، وتَعظُمُ الحيَاةُ في أَعيُنِكم، وبذلك تزدَادُ القَوميَّةُ قُوَّةً في نُفُوسِكم. إنَّ الزَّوجَةَ والأَولادَ حِبالٌ تَربطُ الوَطنيَّ بوَطنِه، وتَزيدُ في إيمَانِه، وإنَّ الإعرَاضَ عن الزَّواجِ فِرارٌ مِن أَعظَمِ مَسؤُوليةٍ في الحيَاةِ. ولمـَن تُخدَمُ الأَوطَان؟ إذا لم يكن ذلك لحمَايةِ مَن على ظَهرِها مِن أَولادٍ وحُرُمٍ، ومِن في بَطنِها مِن رُفاتٍ ورِمَمٍ. قد كان أجدَادُكم العَربُ يضَعُون نساءَهم وذَرَارِيهم خَلفَ ظُهورِهم في ساعَةِ اللِّقَاءِ لئَلَّا يفِرُّوا.. وهذا هو الحفَاظُ"[11].

وصاياهُ للـشَّبابِ:

مَلأَ الإِبراهيمي -رحِمهُ الله- الـدُّنيا عِلمًا وحِكمَةً، ونَـصِيحَةً ووَصِيَّةً. فكانت كَلِماتُهُ ووَصَايَاهُ بـلسَمًا للواثِقِين، ونِبرَاسًا وهُدىً للـمُخلِصين الـصَّادِقين. وقد اختَصَّ شبَابَ وَطَنِه وأُمَّتِه بالكَثِيرِ مِن الوصايا، لـيكُون عَونًا لهم على إِرشَادِهم في حيَاتِهم، والزَّادَ لهُم بعد ممَاتِهم.[12]

ووصَايَاه مُتنَوعَةٌ جَامِعةٌ، تتَـعلَّقُ بحثِّهم على الاعتزَازِ بدِينِهم، والنِّضَالِ مِن أَجلِ عَقيدِتهم، والتَّخلُّقِ بأخَلاقِ أَسلَافِهم، والتَّدَبُّرِ لـكتَابِ رَبِّهم، وبذلِ المهَجِ في سَبيلِ أَوطَانِهم، والـتَّحلِي بآدابِ الـعِلمِ والـسَّكينَةِ فيه. فكانتَ -كما قال: "ولم يَزل التَّذكِيرُ في كُلِّ أطوَارِ الإنسَانيةِ مَدَدًا رَوحَانِيًّا يُثِيرُ الخَامِلَ إلى العَملِ، ويحثُّ العَامِلَ على مُواصَلةِ العَملِ!"[13].

ومن أجمل وصاياه للشباب وكلماته لهم:

حثُّه إيَّاهم للتَمسُّكِ بالدِّينِ والأخلاقِ واللُّغةِ والأُخُوةِ: "يا شباب الإسلام.. وصيتي إليكم أن تتصلوا بالله تديّنًا، وبنبيّكم اتّباعًا، وبالإسلام عملًا، وبتاريخ أجدادكم اطِّلاعًا، وبآدابِ دينِكم تخلُّقًا، وبآدابِ لُغَتِكم استعمَالًا، وبإخوانكم في الإسلام ولِداتكم في الشبيبة اعتناءً واهتمامًا، فإن فعلتم حُزتُم مِن الحياةِ الحظَّ الجليل، ومِن ثوابِ الله الأَجرَ الجزيل، وفاءت عليكم الدُّنيا بظِّلها الظَّليل!"[14]؛ "وكتابُ ربِّكم أيُّها الشَّبابُ هو البُرهَانُ والنُّور، وهو الفَلَجُ والظُّهورُ، وهو الحجَّةُ البَالِغةُ، والآيَةُ الدَّامِغةُ، فلا يُزهِّدنَّكم فيه زِندِيقٌ يُؤَوِّلُ وجَاهِلٌ يُعطِّلُ، ومُستَشرِقٌ خَبِيثُ الدَّخلَةِ، يتَّخِذُه عِضين، ليَفتِن الغَافِلين، ويُلبَّسَ على المستَضعَفِين"[15].

ربطُه بينهم وبين أحلامِ أُمَّتِهم التي تعَوِّلُ عليهم: "إنَّ أُمَّتَكم تُعَوِّلُ عليكم شَرطَ أن تُعِدُّوا أَنفُسَكم إعدَادًا رُوحيًّا لا بَدَنيًّا، فإذا أَشرَقَت أنوَارُ الإسلامِ وغَمرَت هِدَايَتُه كُلَّ المجتَمَعِ البَشري، فإنَّ هذا المجتَمَعَ سيَنعَمُ بالخَيرِ العَمِيمِ، وتتَحقَّقُ له السَّعادَةُ في الدُّنيَا والآخِرةِ. والإعدَادُ الرُّوحيُّ يجعَلُ المسلِمَ مُوقِنًا بأنَّه إذا مَاتَ في سَبيلِ اللهِ ينتَقِلُ مِن حيَاةٍ بَعضُها شقَاءٌ إلى حيَاةٍ كُلُّها سعَادَةٌ؛ فكونوا مُسلِمين كَامِلين، أي كونوا عامِلين في سِبيلِ الله، وإيَّاكم أن تكونوا أنصَافَ أو أربَاعَ مُسلِمين، وحاسِبوا أنفُسَكم قبل أن تحَاسَبُوا، واقتَدُوا بالقُدوَةِ الصَّالِحةِ، وإنَّ الواحِدَ منَّا يستطيعُ أن يَقُودَ الملايين بشَرطِ أن تكون النُّفُوسُ مُستَعِدَّةً. وإنَّ هذا الشَّبابُ إذا تَدرَّبَ على الإقدامِ وقُوَّةِ العَزيمَةِ وعَدمِ الخُوفِ إلا مِن اللهِ فإنَّه يأتي بالأعَاجِيبِ"[16].

لقد وجَّه الإبراهيمي الشَّبابَ لدَورِهم الرِّيادِي في التَّجدِيدِ والدَّعوةِ والإصلاحِ: "إنَّ دِينَكم شوَّهته الأضَاليلُ، وإنَّ سِيرَةَ نبيِّكم غَمَرَتها الأبَاطِيلُ، وإنَّ كتَابَكم ضيَّعَته التَّأَوِيلُ، فهل لكم يا شبَابَ الإسلامِ أن تمحُوا بأَيدِيكم الطَّاهِرةَ الزَّيفَ والزَّيغَ عنها، وتَكتُبُوه في نُفُوسِ النَّاسِ جَدِيدًا كما نَزَل وكما فَهِمَه أصحَابُ رَسولِ اللهِ عن رَسولِ الله. إنَّكم قد اهتدَيتم إلى سوَاءِ الصِّراطِ فاهدُوا إلى سوَاءِ الصِّراطِ. إنَّكم لو عَبدتُّم اللهَ الليلَ والنَّهارَ لكان خَيرًا مِن ذلك كُلِّه عندَ اللهِ، وأَقرَب زُلفَى إليه أن تجَاهِدُوا في سبيله بهدَايةِ خَلقِه إليه"[17].

ونَصَحَ الشَّبابَ بالجَمعِ بين صِحَّةِ العَقلِ والجَسدِ: فـ"لا يَنفَعُ الشَّبابَ أُمَّتَه إلَّا إذا جمعَ بين صِحَةِ العَقلِ وبين صِحَةِ الجِسمِ. أمَّا صِحَةُ العَقلِ فإنَّ علينا بُنيَانَها، وفي ذِممِنا ضَمَانها! وأمَّا صِحَةُ الجسمِ فمِن المسكَنِ الصَّالحِ مُبتَدَاها، وإلى الغِذاءِ النَّافِعِ مُنتَهاها. وكِلا هذين دَينٌ على الأُمَّةِ وَاجِبُ الأدَاءِ!"[18].

ونبَّهَهم إلى أنَّه: "لا حقَّ لكم على الوَطنِ، بل الحَقُّ كُلُّه للوَطَنِ عليكم. وإنَّ أوكَدَ حقُوقِه عليكم أن تُحقَّقُوا بالعِلمِ مطَالبَه، وتَعمُرُوا بالعِلمَ جوَانِبَه، وتُنِيروا بالعِلمِ غيَاهِبَه"[19].

وحذَّرَهم مِن الانشِغالِ بالماضِي ذمًّا أو مَدحًا عن العَملِ: "أُعيذُ الشَّبابَ المحمَّدي أن يَشغَلَ وَقتَه في تِعدَادِ ما اقتَرفَه آباؤُه مِن سيئَاتٍ أو في الافتخَارِ بما عَمِلُوه مِن حسَناتٍ، بل يبني فَوقَ ما بنى المحسنون، وليَتَّقِ عثَراتَ المسيئِين"[20]. "ليَحرِصَ الشَّبابُ على أن يكونوا كمَالًا في أُمَّتِهم لا نَقصًا، وأن يكونوا زَينًا لها لا شَينًا، وأن يُضِيفُوا إلى تَلِيدِ مَكارِمِها طَريفًا، وإلى قَدِيمِ محَاسِنِها جَدِيدًا، وأن يمحوا كُلَّ سيِّئَةٍ لسَلَفِهم بحسَنَة"[21].

ولم يغفَل عن التَّذكِيرِ بالأخلاقِ: "أَي شبَابَ الإسلام.. خُذُوها فصِيحَةً صَرِيحةً لا تتَستَّرُ بجِلبَابٍ، ولا تتَوَارَى بحِجَابٍ، إنَّ علَّتَكم التي أَعيَت الأَطبَاءَ، واستَعصَت على حِكمَةِ الحُكمَاءِ، هي مِن ضَعفِ أخلاقِكم ووَهنِ عَزَائِمِكم. فدَاوُوا الأخلاقَ بالقُرآن تَصلُح وتَستَقِم، وأُسُّوا العَزائِمَ بالقُرآنِ تَقوَ وتَشتَدُ"[22].

لقد نَثرَ الإبراهيمي دُرَرَه مِن النُّصحِ في مقَالاتِه للشَّبابِ، ولم يألُ جُهدًا في ذلك. وكان صَادِقَ العِبارَةِ، عَمِيقَ الفِكرَةِ، قَريبَ الخِطَابِ، وَاضِحَ الإشَارَةِ. فقد حذَّرَهم مِن اختِلافِ القُلوبِ وتَشَتُّتِ الأَهوَاءِ، وأوصَاهم بالتَّقوى وحُسنِ العِشرَةِ. وعزَّز فيهم حُبَّ القرآن: "أَي شبَابَ الإسلامِ.. إنَّ أوَّلَ أُمَّتِكم شَبيهٌ بآخَرِها عُزوفًا عن الفضَائِلِ، وانغِمَاسًا في الرَّذائِلِ، فلم يَزلِ بها هذا القُرآنُ حتى أَخرَجَ مِن رُعَاةِ النَّعَمِ رُعَاةَ الأُمَّمِ، وأخرَجَ مِن خُمُولِ الأُمِّيَّةِ أعلامَ العِلمِ والحِكمَةِ. فإن زعم زاعم أنَّ الزَّمَان غَيرَ الزَّمان، فقولوا: ولكن الإنسان هو الإنسان"[23]. و"تَدبُّرُ القُرآنِ واتِّباعُه هما فَرقُ ما بين أَوَّلِ الأُمَّةِ وآخِرِها. وإنَّه لفَرقٌ هَائِلٌ، فعَدَمُ التَّدبُّرِ أفقَدنَا العِلمَ، وعَدمُ الاتِّباعِ أفقَدنَا العَملَ. وإنَّنا لا نَنتَعِشُ مِن هذه الكَبوةِ إلا بالرُّجوعِ إلى فَهمِ القُرآنِ واتِّبَاعِه. ولا نُفلِحِ حتى نُؤمِن ونعمَلَ الصَّالحات: ((فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الـمُفلِحُونَ))، الأعراف: 158"[24].

هذه أسطر في تَوضيحِ الـمعَالِم الإِصلاحِيَّةِ لدى الشَّيخِ مُحمَّد البَشيرِ الإِبراهيمي -رحمه الله، في الاهتمام بالشباب ونَشرِ الـعِلمِ والفَضِيلةِ فيهم، واستِنهَاضُ هِمَمِهم، جامِعًا في هذه الـمَسِيرَةِ بين الـعِلمِ والرَّحمَةِ.


الهوامش:

[1] الآثار: ج4/312. وقد فصَّلتُ الـقَولَ في الـكَلامِ عل مسأَلةِ الإِلحادِ ذَاكِرًا (تارِيخها وأسبابِها ومظاهِرها وطرق الوقاية منها)، في الـمَنهجِ الإِصلاحِي لدى المصلح الإِبراهيمي عند الـكلام على (الإِصلاح الـفكري). يسَّر الله نـشره.

[2] الآثار: ج2/110.

[3] الآثار: ج4/255.

[4] الآثار: ج2/110.

[5] الآثار: ج3/67.

[6] الآثار: ج3/316.

[7] عَرَّفَ الإِبراهيمي (الزّواجَ) بأنه: "عَقدٌ بين قَلبَين، ووَصلٌ بين نَفسَين، ومَزجٌ بين رُوحَين، وفي الأَخيرِ تَقرِيبٌ بين جِسمَين!"[7]. الآثار: ج3/297. وقال مُذكِراً بفضل هذه الـشعيرةَ وعَظِيمِ أثرِها: "راعَى الإسلامُ -وهو دِينُ الفِطرَةِ- كُلَّ ذلك، فنَدبَ إلى الزَّواجِ، وحَضَّ عليه، وسمَّاه إحصَانًا، وشَرعَ له مِن الأحكامِ ما هو أقرَبُ إلى التَّيسيرِ والفِطرَةِ والتَّسامُحِ، كلّ ذلك ليَحفَظَ على الشَّابِ والشَّابَةِ دِينَهما وعِرضَهما، ويَضبِطَ عليهما عوَاطِفَهما، فلا تَمتَدُّ العَينُ إلى مُحرَّمٍ، ولا تَهفُو النَّفسُ إلى محظُورٍ، ولا يجَاوزَان بالفِطرَةِ حُدودَ الله". الآثار: ج3/294.

[8] الآثار: ج3/293.

[9] الآثار: ج3/295، وج3/393، وج3/394.

[10] الآثار: ج3/393.

[11] وقد فصّلتُ الـكلامَ حولَ جهُود الإِبراهيمي في حلحلةِ هذ الـمشاكِل من (بطالة) و(طلاق) و(زواج)، في كلامِي حول (الإِصلاح الاجتماعي). يسَّرَ الله إِتمَامَهُ ونَشرَه.

[12] وللإِبراهيمي مقالةٌ رَصِينَةٌ، ووصايَا ثَمِينَةٌ، نَشرَها في أَربعِ حلقَاتٍ، سمَّاها (الشاب الجزائري كما تمثِّلُه لي الخواطِرُ). الآثار: ج3/510- 517. فانظرها فهي ممتعةٌ مُقنِعَةٌ!

[13] الآثار: ج1/51.

[14] الآثار: ج4/121.

[15] الآثار: ج4/271.

[16] الآثار: ج4/210.

[17] الآثار: ج4/272.

[18] الآثار: ج2/253.

[19] الآثار: ج3/315.

[20] الآثار: ج4/121.

[21] الآثار: ج4/121.

[22] الآثار: ج1/163.

[23] الآثار: ج1/163.

[24] الآثار: ج1/327.


آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.