الرزء العظيم بوفاة الأستاذ ابن باديس

بقلم: محمد الصالح بن عتيق -

لقد تركنا الأستاذ العظيم يعاني أتعابا جسدية ونفسية، وربما كانت هذه أشد وطأة على نفسه الحساسة، وصدق من قال:

وإذا كانت النفــوس كبـــارا *** تعبت في مـرادهــا الأجســام

وكيف لا تضيق نفسه الكبيرة، والحرب العالمية الثانية يعلو لهيبها في أوروبا، وتلامذته يأتون إليه يدعونه، والخناق مضروب عليه لا يستطيع أن يفارق مدينة قسنطينة، وهم في طريقهم إلى الحرب حيث ينتظرهم الموت في سبيل عدوهم، وقد شاهدته والحزن يعصر أنفاسه على هؤلاء الشباب الذين كان يعدهم ليوم عظيم، يوم يقول كلمته وينادي بالثورة ضد العدو المستعمر في الوقت الذي حدده، وهو اليوم الذي تعلن فيه إيطاليا الحرب على فرنسا، كما كان يحدثنا بذلك ويأمرنا بالاستعداد.

ولكن القدر عاجله في 16 أفريل 1940 وأطفأ هذه الشعلة.

ولما بغلنا بوفاته، أسرعنا في ذهول وهلع إلى مدينة قسنطينة قاصدين منزل أبيه حيث وضع جثمانه في فنائه، والناس يدخلون عليه أفواجا لإلقاء نظرة أخيرة عليه وتوديعه، ولن ننسى منظره الرهيب، وكدت لا أصدق أنه ميت لما يعلو وجهه من بهاء وجلال، وترتسم على محياه معالم الجد ومسحة من النور، قارنت بين الحال الذي اعتدى عليه بالضرب سنة 1926 ونحن من حوله معشر الطلبة نواسيه، وبين الحال في هذا اليوم الذي أصبح فيه جثة هامدة لا يستطيع أن يخاطبنا أو يعظنا كما كان، فتمثلت بقول الشاعر:

لقــد كانت في حيـاتك لـي عظـات *** وأنت اليـوم أوعـظ منـك حيــا

وجاءت ساعة الدفن الرهيبة فتجمعت الجموع الغفيرة، وتعد بعشرات الآلاف حول منزل أبيه، وحملوه على الأعناق والجزع يلفهم جميعا، وكم كان مؤثرا منظر أولئك النساء الحزينات اللائي كن يستمعن إلى عظاته بالجامع الأخضر.

فكلما رأوا شخصا من العلماء على رأسه عمامة أقبلن عليه، وأجهشن بالبكاء وتمثلنا فيه الفقيد.

إن وصف هذا اليوم، وما نال الناس فيه من هم وحزن، لا يستطيع القلم أن يعبر عنه وصدق القائل، جلال الرزء عن وصف يدق...

وانتهى موكب الجنازة إلى المقبرة الخاصة بالعائلة، ووضع الجثمان وتقدم العلامة مبارك الميلي وصلى عليه، وأبنه بكلمات مؤثرة، جاء فيها قوله يخاطب الراحل: ((نم هنيئا مطمئنا، فما غرسته سينمو ويثمر، فقد تركت بعدك رجالا وإخوانا، وتلاميذ يجددون لك العهد اليوم بأنهم سيواصلون الكفاح ويستمرون في السير على النهج الذي تركتهم عليه مستمدين من الله العون، ومن روحك الطاهرة الدليل والمرشد))...

ثم تقدم الأستاذ العربي التبسي فألقى كلمة جاء فيها قوله:

((إذا مات ابن باديس فإن العلم لم يمت، وإذا سقط في الميدان فإن فيه بقية من رجال سيحملون راية الإصلاح والكفاح))...

وبعدها تقدم الدكتور ابن جلول وألقى بدوره كلمة أشاد فيها بأعمال الفقيد وجهاده في سبيل وطنه ودينه.

وبعد الدفن تفرق المشيعون يعلوهم الحزن وتغمرهم الكآبة يدعون له بالرحمة ويعزون أنفسهم بأن له أصحاب سيواصلون بعده العمل في الطريق الذي رسمه.

وهكذا مضى ذلك اليوم الأليم، بين غم وهم بالنسبة للمصلحين والوطنيين، أما الاستعمار وأعوانه فكانوا في سرور وابتهاج.

وظنوا أن الحركة الإصلاحية هذه نهايتها، حتى أن أحد غلاة الاستعمار قال: ((إن موت ابن باديس أهم عندنا من كسب الحرب القائمة ضد ألمانيا)).

وما دروا أن للإصلاح والوطن رجالا وأنهم كما قيل:

نجـوم سمـاء كلمـا غـاب كـوكب *** بـدا كـوكب تـأوي إليـه كـواكبه

فقد حمل الراية بعد ابن باديس نائبه الأول النابغة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي، وقام بالأمر بعده خير قيام، وقاد السفينة إلى شاطئ السلام، وكان خير خلف لخير سلف.

وفي شهر جوان انهارت فرنسا أمام الجيوش الألمانية وفي 15 منه وقع احتلال باريس من طرف ألمانيا وفي يوم 25 من الشهر نفسه عام 1940 م وقعت فرنسا الهدنة مع ألمانيا. وتغير نظام الحكم فيها، ولم يعد جمهوريا بل أصبح ديكتاتوريا، وانتصب المارشال (بيتان) حاكما مطلقا على القسم غير المحتل من التراب الفرنسي ومستعمراتها، وكان مقر حكومة الماريشال ((فيشي)).

ووجد المعمرون من هذه الحكومة خير أداة لبسط سلطانهم، وتسلطهم على الأهالي، وفرض سيطرتهم المطلقة فازداد الأمر حرجا، وسيق الأحرار والمفكرون إلى السجون والمنافي، وضاق نطاق العاملين في حقل التعليم والإصلاح.

ولم يعد في الإمكان عقد أي اجتماع للجمعية، ولا القيام بأي نشـاط من طرف ما، وتعطلت جرائدها وكـادت الصلة تنفصل بين أعضائها، ولم يقع منهم أي عمل ولا أدنى مشاركة، وتأييد لسياسة فرنسا في الجزائر، قبل وبعد، لا كتابة ولا كلمة واحدة مع حرصها على ذلك، مما زادها حقدا وخنقا عليهم، وإمعانا في المكـائد، ضدهم، ولم يسلم من كيدهم إلا من شذ وند، وانتشرت حبته من العقد.

ومع هذا فقد قامت مدرسة الميلية بعمل، بفضل التفاف الرجال العاملين على حمايتها، وإني أذكر هنا تلكم اليد البيضاء، التي كانت لنا نعم المساعد والمعين، التي مهدت كل صعب، وذللت كل عقبة تلك هي يد المحسن الكريم السيد محمد خطاب المقيم حاليا بالمغرب الأقصى، الذي لم ينسه شرف أصله بلاده الميلية فزارها في هذه السنة ولما علم أن حركة التعليم في حاجة إلى محل يفي بحاجته، تبرع ببناء مدرسة من خالص ماله، ولم تقف إعانته عند هذا الحد بل استمرت، ولولا ذلك لما استطعنا أن ننهض بالمشروع إلى المستوى الذي وصل إليه، فالضائقة يومئذ آخذة بالخناق، وجمع المال متعذر، والحاجز الحصين الذي تقيمه الإدارة حولنا والآذان والعيون كلها بالمرصاد من تحركاتنا، وكان مشروع المدرسة ينهار لولا المساعدة الأدبية الفعالة من طرف أعضاء جمعية التهذيب بالميلية ومن أبرز أعضائها السيد محمود بن نيني الوطني الغيور الذي كانت له مواقف شجاعة والذي لم يتخل عن نصرتنا في أحرج الظروف والسيد المخلص عبد الله إدريس وكذلك كاد المشروع يقضى عليه لولا حكمة الرجل الفاضل الشيخ محمد دريوش وتفانيه في خدمة الحركة الإصلاحية، ومجهوداته المبذولة في سبيلها من أول يوم نشأت وكان يمتاز بالإخلاص والذكاء والخبرة بطبيعة المجتمع يجمع إلى هذا ثقافة تحصل عليها من دراسته بميلة على العلامة الكبير الشيخ محمد بن الظريف الشهير بالميلي وكان زميلا في هذه الدراسة لنابغة العصر الشيخ مبارك الميلي وبينهما صداقة متينة فرحمهما الله رحمة واسعة.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.