إشكالية الإعلام وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: أ. موسى عبد اللاوي -
قبل أن نتطرق إلى جوهر الموضوع فهذه مقدمة كمدخل نقف من خلالها على أهمية الإعلام قديما وحديثا أخذاً وعطاء, استقبالا وتبليغا..
مدخل إلى الموضوع من خلال التنبيه على:
أولا: أهمية الإعلام, في نشر تعاليم الإسلام, وإيصالها لجميع الأنام
تعلمون أن مملكة سبأ وملِكَتها بلقيس – في عهد نبي الله سليمان عليه السلام وصل الدين من بلاد الشام فلسطين إلى أرض اليمن عن طريق الإعلام..
عندما تفقد سليمانُ الطائر الهدهد.. فإذا به يأتي وهو يحمل أخبارا غير عادية.. !وكانت له القدرة على تقديم عرض شامل مدعم بالأدلة والبراهين كما هو في سورة النمل" وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو لياتيني بسلطان مبين, فمكث غير بعيد فقال أحطتُّ بما لم تُحِطْ به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله فزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والارض ويعلم ما يخفون وما يعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم.." النمل/26.
فكانت النتيجة بعد الدعوة هي الإقبال على الله وإتباع نبي الله "قالت رب إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمان لله رب العالمين"النمل/44.
1- الإعلام عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- دراسة تاريخية وصفية-
إن المتفحص لتراث جمعية العلماء يدرك جليا أن نشاطاتها كانت تحمل في طياتها صبغة إعلامية هادفة لها بعد تربوي وإصلاحي سواء ما تعلق بالتربية والتعليم والتدريس, أو ما يندرج في الوعظ والإرشاد, أو ما يتصل بالدعوة والتذكير والإعداد, أو ما تنشره في الصحف قصد تبليغ الرسالة وإقامة تواصل مثمر جاد..
(فبعد احتفال المستعمر الفرنسي بمضي قرن على احتلال الجزائر فكان الرد العملي على الذين كانت أصواتهم تردد (الجزائر فرنسية) فجاء شعار: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا, والجزائر وطننا "، وقد ظهر هذا الشعار أول ما ظهر مكتوباً على كتاب "الجزائر" للشيخ أحمد توفيق، ثم تناولته الألسنة والأقلام ولقن لطلبة العلم وذلك يوم الثلاثاء17 من شهر ذي الحجة عام 1349 هـ الموافق لـ الخامس من ماي 1931 في (نادي الترقي) بالعاصمة إثر دعوة وجهت إلى الكثير من علماء الإسلام في الجزائر, من طرف (هيئة مؤسسة) مؤلفة من أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي معتدلي الفكر, لا يثير ذكرهم حساسية أو شكوكا لدى الحكام الفرنسيين, ولا عند الذين لهم وجهات نظر أخرى في الاجتهاد وتقييم الوضع القائم في الجزائر..
فأُعلِن: أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع, لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها.
وقد لبّى الدعوة وحضر الاجتماع التأسيسي أكثر من سبعين عالما, ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية: (مالكيين وإباضيين, ومصلحين على اختلاف توجهاتهم , موظفين وغير موظفين), كما حضر الاجتماع طلبة العلم من مختلف جهات الوطن
2-غياب ابن باديس عن الاجتماع
الجدير بالذكر أن ابن باديس لم يحضر الاجتماع التأسيسي للجمعية من الأول, وكان وراء ذلك هدف يوضحه الشيخ خير الدين أحد المؤسسين الذي حضر الجلسات العامة والخاصة لتأسيس الجمعية, يقول : "كنت أنا والشيخ مبارك الميلي في مكتب ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ أحد المصلحين (محمد عبابسة الأخضري) وطلب منه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) في العاصمة وكلفه أن يختار ثلة من (جماعة نادي الترقي) الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك حكومة الاحتلال الفرنسي أو مخاوف بعض العلماء الذين لهم رؤى أخرى اجتهادية لها اعتبارها في الشرع ووزنها في, المجتمع حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام, وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس.
وتكون الثلة المختارة هي مَن يقوم بتوجيه الدعوات..
ويقول الشيخ خير الدين : "وأسرّ إلينا ابن باديس أنه سوف لا يلبي دعوة الاجتماع ولا يحضر يومه الأول حتى يقرر المجتمعون استدعاءه ثانية بصفة رسمية, لحضور الاجتماع العام, فيكون بذلك مدعوا لا داعيا, وبذلك يتجنب ما سيكون من ردود فعل السلطة الفرنسية والمشايخ الآخرين الذين لهم منهجهم في التعليم والإصلاح, قد لا يتوافق بالضرورة في فروعه وجزئياته مع نظرة الشيخ ابن باديس واجتهاده.. وهذا يكون مسلكا آمنا لتجنب أيضا ردود فعل مَن يتحرجون من كل عمل يقوم به ابن باديس.
بعد الاجتماع العام الذي انطلق على الساعة الثامنة صادق الجميع بعد التشاور على مشروع القانون الأساسي للجمعية، وفي اليوم الموالي – يوم الأربعاء –على الساعة الثانية بعد الزوال عقد اجتماع بقصد انتخاب الهيئة الإدارية، فاقترحت عليها جماعة فوقع الإجماع على اختيارها، وانفضت الجلسة في الساعة الخامسة مساء. فاجتمع المجلس الإداري عند الثامنة من مساء اليوم نفسه وانتخب الشيخ ابن باديس رئيسا للجمعية وتم استدعاؤه، كونه كان غائباً حيث لم يحضر معهم في اليوم الأول ولا في اليوم الثاني ، وفي اليوم الثالث جاء إلى الاجتماع وألقى كلمة جاء فيها: "(إخواني، إنني قد تخلفت عن جمعكم العظيم اليوم الأول والثاني فَحُرِمْتُ خيراً كثيراً، وتحمّلتُ إثماً كبيراً، ولعلكم تعذرونني لمّا لحقت في اليوم الثالث، وأذكر لحضراتكم ما تعلمونه من قصة أبي خيثمة الأنصاري لما تخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ثم لحقه فقال الناس هذا راكب .. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كن أبا خيثمة ، فقالوا : هو أبو خيثمة، فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل عذره ودعا له بخير. ومثلكم من كان له في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة."
هكذا كان ابن باديس يستلهم أقواله وأفعاله من السنة النبوية.
وألقى خطاباً آخر في ذلك الاجتماع عندما باشر مهام الرئاسة، هذا نصه:
3- خطاب رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. إخواني: إنني ما كنت أعد نفسي أهلاً للرئاسة لو كنتُ حاضراً يوم الاجتماع الأول، فكيف تخطر لي بالبال وأنا غائب ؟ لكنكم بتواضعكم وسلامة صدوركم وسمو أنظاركم جئتم بخلاف اعتقادي في الأمرين فانتخبتموني للرئاسة
إخواني: كنت أعُدُّ نفسي مِلْكاً للجزائر أما اليوم فقد زدتم في عنقي مِلْكية أخرى ، فاللهَ أسأل أن يقدرني على القيام بالحق الواجب.
إخواني: إنني أراكم في علمكم واستقامة تفكيركم لم تنتخبوني لشخصي، وإنما أردتم أن تشيروا بانتخابي إلى وصفين عُرِفَ بهما أخوكم الضعيف هذا,
الأول إنني قَصَرْتُ وقتي على التعليم فلا شغل لي سواه فأردتم أن ترمزوا إلى تكريم التعليم إظهاراً لمقصد من أعظم مقاصد الجمعية وحثاً لجميع الأعضاء على العناية به كل بجهده.
الثاني: أن هذا العبد له فكرة معروفة، وهو لن يحيد عنها ولكنها – أي الفكرة - يبلغها بالتي هي أحسن، فمن قبلها فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوّة في الله فوق ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ، فأردتم أن ترمزوا بانتخابي إلى هذا الأصل، وهو أن الاختلاف في الشيء الخاص لا يمس روح الأخوة في الأمر العام.
لقد كان ابن باديس ورفاقه أعضاء جمعية العلماء، من الحصافة بمكان، حيث أبدوا أشياء وأضمروا أخرى، مكتفين في تصريحاتهم الرسمية بإعلان الدعوة إلى الإصلاح الديني والتعليمي حذرًا. فقد جاء على لسان رئيسها: (أن الجمعية يجب أن لا تكون إلا جمعية هداية وإرشاد، لترقية الشعب من وهن الجهل والسقوط الأخلاقي، إلى أَوْج العلم ومكارم الأخلاق، في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيها الأمي، الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، عليه وآله الصلاة والسلام، ولا يجوز بحال أن يكون لها بالسياسة وكل ما يتصل بالسياسة أدنى اتصال، بعيدة عن التفريق وأسباب التفريق..)
ويضيف ابن باديس قائلاً: (إن المسلمين هم السواد الأعظم في وطنهم، فإذا تثقفوا بالعلم، وتحلوا بالآداب، وأُشْرِبُوا حبّ العمل، وانبعثت فيهم روح النشاط، كان منهم كل خير لهذا الوطن وسكانه على العموم، بما يُسرّ به الحاكم والمحكوم.
ويختصر لنا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مهمة الجمعية بقوله: (إن المهمة التي تقوم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأدائها، وهي السير بهذه الأمة إلى الحياة عن طريق العلم والدين، هي أقوم الطرق وأمثلها وأوفقها لمزاج الأمة..)
ويمكننا القول: بأن الجمعية ركّزت في مراحلها الأولى على الأهداف التالية:
1- تصحيح المعتقدات الفاسدة ،وتنقيتها من الخرافات والبدع، وتطهيرها من مظاهر التخاذل والتواكل.
2- محاربة الجهل بتثقيف العقول، والرجـوع بها إلى القرآن والسنة الصحيحة، عن طريق التربية والتعليم.
3ـ المحافظة على الشخصيـــة العربيــة الإسلاميــة للشعـب الجزائـــري، بمقاومة سياسة التنصير والفرنسة التي تتبعها سلطات الاحتلال.
والشيء الذي تجدر الإشارة إليه في هذا المجال، هو أنه رغم أن الفصل الثالث من القانون الأساس للجمعية، يحرّم عليها الخوض في المسائل السياسية، إلا أن هذه الأخيرة قد تركت لأعضائها كامل الحرية للخوض في السياسة، بصفتهم الشخصية لا بوصفهم أعضاء فيها، حفاظًا على كيان الجمعية واستمرار مسيرتها.
ثانيا: دور صحافة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عملية التربية والإصلاح
فبالرغم من سياسة الإقصاء التي تعرَّضت لها الجمعية والتضييق على نشاطاتها، إلا أنها أصدرت صحفاً عدة، تعبِّر عنها مثل: "السنة النبوية"، و"الشريعة المحمدية"، و"الصراط السوي"، و"البصائر".
نعم, ما إن قام دعاة وعلماء الإصلاح في الجزائر بحملتهم الإصلاحية الشاملة مدة من الزمن حتى تنبهوا إلى الدور الخطير والمهم الذي يمكن أن تلعبه الصحافة في الخروج بالدعوة الإصلاحية التي شرعوا فيها، من حدود المدن التي كانوا يمارسون فيها دعوتهم، إلى مستوى جمهور الوطن الجزائري كله..
وكان ذلك نابعا من أمرين اثنين :
أولهما: اتصالهم وتأثرهم بالحركة الفكرية في المشرق والتي كان لها صحفها الخاصة .
ثانيهما : الأعداد الكبيرة للصحف التي أنشأها المستوطنون أو التي كانت تصدر في فرنسا وتوزع في الجزائر .
فمن بين الإنجازات الهامة الكبرى التي أنجزتها وحققتها جمعية العلماء المسلمين، في بداية مشوارها إصدار جريدة البصائر..فقد كان لتأسيس جريدة البصائر الغراء, في سنة 1935 والتي كان شعارها الثالوث المقدس:" الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا".
نعم فقد كان لصدور جريدة البصائر في تلك الفترة الحالكة السواد أثرا كبيرا في نفوس الجزائريين واعتبروها كسلاح ذو حدين في وجه محاولات الاستعمار الرامية إلى القضاء على اللغة العربية، وبصدورها تم القضاء على الفراغ الثقافي المهول الذي كان سائدا آنذاك.
وبذلك يمكن القول أنه بصدورها وإبرازها للوجود كجريدة رائدة انتعشت الثقافة العربية بالجزائر والفضل في إحيائها يعود بالدرجة الأولى إلى الدور الذي لعبه رائد النهضة الجزائرية الحديثة: الإمام عبد الحميد بن باديس وإلى نخبة من العلماء الأفاضل ورجال الدين وبعض الزوايا وغيرهم فجميعهم ناضل وجاهد جهاد الأبطال لإحياء الإسلام واللغة العربية.
وتعتبر جريدة البصائر من أهم الجرائد في الجزائر في ذلك العهد من حيث الكتابة والمواضيع الهامة التي كانت تتناولها بالتحليل والتعليق، وأهميتها تعود بالدرجة الأولى إلى الطاقم المشرف عليها وعلى تحريرها زيادة على طبعها وإخراجها في شكل أنيق وجميل، وقد استمرت في الصدور من عام 1935 إلى عام 1956،حيث أوقفتها سلطات الاحتلال الفرنسي عن الصدور إبان قيام ثورة التحرير الوطنية الكبرى
ثالثا: دور جمعية العلماء على المستويين الداخلي والخارجي في عهد الاحتلال آنذاك من حيث الاهتمام بنشر الوعي والدعوة إلى الإصلاح
مما لا جدال فيه، أن من يعود إلى جريدة البصائر الغراء في عهد الاحتلال الفرنسي وإلى مضامينها وما كانت تنشره بين صفحاتها من مختلف المواضيع ، فإنه يجدها أنها فعلا في المستوى المطلوب. مما يدل دلالة واضحة أن لجمعية العلماء المسلمين مواقف مشرفة تجاه عديد من القضايا العربية، الإسلامية والدولية. وخاصة القضايا العربية التي أخذت حيزا كبيرا من الكاتبات والتحاليل. ولعل ما كتب عن قضية فلسطين الجريحة وقضايا تونس والمغرب وسوريا ولبنان إلى جانب الحديث عن القضايا الإسلامية، كقضية باكستان وإندونيسيا وغيرها من القضايا التي تناولتها وتطرقت إليها جريدة البصائر بالكتابة والتعليق عليها، لخير شاهد على ما قدمته جمعية العلماء من جلائل الأعمال خدمة للقضايا العربية والإسلامية المطروحة على الساحة السياسية آنذاك.
ولعل ما كتبه ابن باديس والبشير الإبراهيمي عن قضية فلسطين يغنينا عن كل تعليق، مما يدل على مدى اهتمام علماء الجزائر ومفكريها ومؤرخيها بالقضايا العربية والدولية مع أن الجزائر كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الغاشم إلا أن ذلك لم يمنع عظماء جمعية العلماء من الكتابة والتعبير عن تضامنها اللا مشروط تجاه القضايا العربية منها والعالمية على حد سواء.
رابعا: المضامين والمواضيع في صحافة الجمعية
ابن باديس الإمام الصحفي
إضافة إلى صحف وجرائد الجمعية فقد كانت لابن باديس جرائده الخاصة كما هو حال أبي اليقظان كذلك وسيأتي ذلك في موضعه.
ففي مقال في جريدة الشهاب كتب ابن باديس تحت بند" الوطن" قائلا:" (وأعلن "الشهاب" من أول يومه, و"المنتقد "الشهيد من قبله أن " الوطن قبل كل شيء" وما كانت هذه اللفظة يومئذ تجري على لسان أحد بمعناها الطبيعي الاجتماعي لجهل أكثر الأمة بمعناها هذا وعدم الشعور به, ولخوف أقلها من التصريح به. أما اليوم فقد شعرت الأمة بذاتيتها وعرفت هذه القطعة من الأرض التي خلقها الله منها ومنحها لها, وأنها هي ربتها وصاحبة الحق الشرعي والطبيعي فيها سواء اعترف لها به من اعترف أم جحده من جحد, وأصبحت كلمة(الوطن)إذا رنت في الآذان حرّكت أوتار القلوب وهزت النفس هزا).
إلى أن كتب في الاخير (.. هذا عرض سريع لصوّر من الماضي والحاضر, لنواح عديدة من الامة والوطن وما يتصل بهما, يبيّن ما كان من تأثير تلك الأصول الإسلامية التي تمسك بها "الشهاب" فيها. فالله نرجو أن يثبتنا على الحق ويعيننا علي الصدع به , وصدق تنفيذه, وحسن تبليغه حتى يبلغ المسلمون كل خير وسعادة وكمال). عبد الحميد بن باديس/ الشهاب ج 2 م 14ص1-7 غرة محرم1357هـ/ مارس 1938م-.(المرجع/ أثار عبد الحميد ابن باديس الجزء:2.)
ففي عام 1925م صدرت جريدة " المنـتقد " لصاحبها الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وكان هدف الجريدة هو تسليط الضوء على أخطار المستعمر ونشر تعاليم الإسلام الصحيحة بين الجزائريين وبث الوعي في المجتمع فصدر أول عدد منها في 03 جويلية 1925 م الموافق لـ 11 ذي الحجة سنة 1343 هـ بمدينة قسنطينة تحت شعار (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء) .
وفي افتتاحية العدد الأول أراد ابن باديس أن يبين أهدافه وغاياته وأراد أن يعرف دعوته للناس فكتب يقول: "باسم اللّه، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحمّلها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون… وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها.
نحن قومٌ مسلمون جزائريون، فلأننا مسلمون نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى كمال إنساني ، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر.
واستطرد الإمام يقول: « إن الدين قوة عظيمة، لا يستهان بها، وإن الحكومة التي تتجاهل دين الشعب تسيء في سياسته، وتجلب عليه وعليها الأضرار ».
لقد صال وجال بكلماته ليضع أمام القارئ إطار فكره، ومضمون دعوته.
وبدأ يخطو في ذلك خطوات هادئة ناجحة، في كل خطوة من هذه الخطوات حيطة وحذر وذكاء، حتى لا يقع في مواجهة مع المستعمر المتسلط قبل أن يسمعه الناس، ويجتمعوا حوله.
وفي العدد الثاني الصادر في 9 يوليو 1925م، أكد من جديد على استقلالية الجريدة وشرح فلسفتها التي تعتمد على الوفاء للوطن والجرأة في بيان الحق "إننا لسنا لإنسان، ولا على إنسان، وإنما نخدم الحق والوطن… ونكرر القول إن "المنتقد" لا يباع ولا يشترى". وأصبحت هذه الصحيفة منبراً لتوجيه وتوعية الجزائريين وقناة لنقد الوضع الاستعماري المفروض على الجزائر وصوتاً لمناصرة القضايا الكبرى للمسلمين في فترة العشرينيات كثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي ومساندة الشعب الليبي.
ثم أعلن الرجل من على منبر «المنتقد» دور هذه الصحيفة قائلاً: «إننا سننتقد الحكام، والمديرين، والنواب، والقضاة، والعلماء، وكل من يتولى شأناً من أكبر كبير إلى أصغر صغير، من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين».
وقد نشرت في عددها السادس مقالاً للشيخ مبارك الميلي تحت عنوان: «العقل الجزائري في خطر»، كما نشرت في عددها الثامن قصيدة للشيخ الطيب العقبي تحت عنوان: «إلى الدين الخالص» ومثل هذه القصيدة وذلك المقال يعدان جراءة كبرى في ذلك العهد لتناولهما العادات المألوفة بالنقد والتجريح.
ولكن فرنسا فطنت إلى خطورة هذه المقالات، وأصدرت قراراً بتعطيل الجريدة بعد صدور العدد الثامن عشر منها، فكان مصيرها "كالعروة الوثقى "التي أنشأها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأوقفتها السلطات الفرنسية والبريطانية بعد صدور العدد الثامن عشر.
وهكذا كان لصحيفة المنتقد دور كبير في عرض آراء ومقترحات عبد الحميد بن باديس، ولكنه لم يهدأ، ولم تفتر عزيمته، وواصل طريقه من خلال الصحافة.
وتعتبر الافتتاحية المشار إليها آنفا مهمة لكونها أول افتتاحية يكتبها ابن باديس بعد أن دخل عالم الصحافة, ولأنه أيضا شرح فيها مبادئه التربوية وآراءَه السياسية, كما وضح فيها منهجه في النقد الاجتماعي والسياسي بكل وضوح ودقة .
في السنة نفسها (أي في سنة 1925م) وبعد أن أوقف الاستعمار جريدة "المنتقد" أصدر الشيخ جريدة "الشهاب" وكانت في أول الأمر أسبوعية ثم تحولت في فبراير من سنة 1929 م إلى مجلة شهرية ، تحتوي افتتاحية ، ومقالات وفتاوى وقصصا وأخبارا و طرائف وتراجم وغير ذلك …
وكان في السنوات الأولى يكتب معظم مقالاتها بنفسه ويوزعها أيضا بنفسه .
إلا أن هذه المرة اتسمت الشهاب بعدم الصدام مع السلطة، بالرغم من اتسامها بالصبغة الدينية في غالب موضوعاتها، فقام بشرح التفسير والأحاديث مع ربط المسائل الدينية بالواقع الجزائري.
ومن خلال استقراء مواد مجلة "الشهاب" حدد الكتاب والباحثون أهم الأساليب الإصلاحية التي سارت عليها الجمعية، والتي كانت محصورة في محورين اثنين وهما :
- تصحيح عقائد الناس وأعمالهم على وفق ما كان عليه سلف هذه الأمة .
- الاهتمام بالتعليم.
فهاتان القضيتان كانتا أهم الملامح التي تشكّل سمة الخطاب الإسلامي في هذه المجلة الرائدة، فعلى صعيد إصلاح عقائد الناس وأعمالهم أفصح الشيخ عن المنهج الذي تبنّاه فيها، فكتب قائلا : " قمنا بالدعوة إلى ما كان عليه السلف الصالح من التمسك بالقرآن الشريف والصحيح من السنة الشريفة وقد عرف القائمون بتلك الدعوة ما يلاقونه من مصاعب ...كالذيول التي ألصقها بالدين المغرضون أو أعداء الإسلام الألداء و الغافلون من أبناء الإسلام ".
أما على صعيد التعليم ، فقد كان يرى فيه أمضى سلاح لمقاومة المعتدي و طرده من أرض الجزائر، لذلك اهتمّ به اهتماما عظيماً و أولاه كل عنايته و وقته و مَـلَـكاته، حتى وصفه الأستاذ أنور الجندي رحمه الله بقوله : "وهو الذي ينشئ المدارس والمعاهد في طول البلاد وعرضها ثم هو الذي يمضي يومه كاملاً في حلقة الدرس يفتتح الدروس بعد صلاة الصبح حتى ساعة الزوال بعد الظهيرة، ومن بعد المغرب إلى صلاة العشاء.
وإذا خرج من المعهد ذهب رأساً إلى إدارة جريدته "الشهاب" يكتب و يراسل "البصائر" ويجيب على الرسائل فيقضي موهناً من الليل، حتى إذا نودي لصلاة الصبح كان في الصف الأول".
وكانت مجلة "الشهاب" إلى جانب هذا مهتمة بقضايا الأمة الإسلامية وبالخصوص قضية فلسطين مما جعل لها شهرة في العالم الإسلامي وشهد بفضلها كبار العلماء والمصلحين .
كتب الإمام حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة الشهاب التي أسسها في القاهرة في نهاية الأربعينيات كلمة تقدير وجهها للإمام عبد الحميد بن باديس ومجلته الشهاب فقال: "قامت مجلة الشهاب الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن الكريم وسنة النبي العظيم سيدنا محمد. وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب" المصرية الناشئة أثرها وتجدد شبابها، وتعيد في الناس سيرتها في خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء".
وهكذا، كانت مجلة "الشهاب" في مسيرتها المباركة مشعل نور، ونبراس هداية يضيء للجزائريين الطريق ليتلمّسوا نحو الخلاص، في تلك الظلمات الحالكة والظروف العصيبة التي مرت بها الجزائر، إلا أن الشيخ بسبب هذا التأثير الإعلامي القوي والفاعل لهذه المجلة، واجه الكثير من المصاعب والعقبات التي وقفت في سبيله، حيث توقفت المجلة غداة اندلاع الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر من عام 1939 م، على يد السلطات الفرنسية .
وبعد حرمان الجمعية من إصدار أية جريدة دام قرابة السنتين (من يناير سنة 1934 م إلى سبتمبر سنة 1935 م) وبعد جهود كبيرة بذلتها الجمعية لأجل الحصول على رخصة من الحكومة الفرنسية بإصدار جريدة باسم الجمعية ، صدرت في 27 سبتمبر 1935 م جريدة :
"البــصائر" :
ولا باس من العودة إلى البصائر لتأثيرها الكبير بما أنها حال لسان الجمعية تعبر عن نهجها وتوضح أفكارها.. فقد استمرت مدة تؤدي رسالتها وتوقفت قبل الحرب العالمية الثانية، ثم استأنفت صدورها من جديد في سلسلتها الثانية ابتداء من 25 يوليو سنة 1947 م واستمرت إلى أن توقفت ثانية في السادس من أفريل سنة 1956 م أي بعد حوالي سنتين من قيام الجهاد المسلح سنة 1954 م .
وتعد البصائر من أهم الجرائد التي أصدرتها الجمعية لأنها وإن كانت صدرت لتكون لسان حال الجمعية وتدافع عن قضايا العروبة والإسلام إلا أنها كانت تناقش جميع القضايا التي تهم الأمة الجزائرية والعالمين العربي والإسلامي.
أما بالنسبة لأبواب الصحيفة فإن العدد الثاني منها يوضح لنا الموضوعات التي طلبت البصائر من الكتاب أن يتناولوها بكتاباتهم وهي :
1- حقائق الإسلام ومحاسنه، شرحها وبيانها.
2- إحياء السنن الميتة التي تركها الناس وذلك بالقول والفعل.
3- التاريخ الإسلامي : عبره وعظاته وسير أمجاده .
4- الأمراض الاجتماعية.
5- الحث على العلم وتنبيه الناس إلى أهميته.
6- الكتابة في موضوع اللغة العربية و آدابها.
إلا أن هذه الموضوعات لم تكن تخضع لتبويب ثابت حتى استلم رئاسة التحرير الشيخ مبارك الميلي فرسم طريقا للجريدة من جميع النواحي وكانت أبوابها التي ستظهر في جميع الأبواب هي: المقال الافتتاحي، أخبار الجمعية في الجهات، أخبار العربية والإسلام في العالم، مقالات العلماء مقالات شباب العلماء، وقد تطورت هذه الأبواب فأصبح بعضها ثابتا مثل أخبار العالم الإسلامي وأحاديث جمعية العلماء وحوادثها.
هذا الكم الهائل والمتميز من الصحف التي أصدرها علماء الجمعية قبل تأسيسها أو بعد ذلك يدل دلالة واضحة على النشاط الفكري الذي كان يمتاز به العلماء ، وعلى أهمية الصحافة في نظرهم، بل كانت عندهم من أهم وسائل التربية والتعليم التي تساهم في تصحيح عقائد الناس، ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتبصير العقول وفي ذلك يقول ابن باديس رحمه الله تعالى : "ننشر في هذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيح لمسألة في أصول العقائد أو أصول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يُرتاب في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم، في نمط وسط بين الاستقصاء والتقصير".
فكانت الصحافة بحق من أمضى الأسلحة التي حاربت بها الحركة الإصلاحية خصومها ونشرت بها أفكارها، بالرغم من التضحيات المادية الجسيمة التي يصاب بها أصحابها، وملاحقة القوانين الاستثنائية لهم، بل بالرغم من تعرضهم أحيانا للتضييق والاعتقال، لأنها كانت دائما في نظرهم كما قلنا : من أهم الوسائل في إرجاع الناس وربطهم بدينهم الصحيح، ومن أهم الوسائل في إيقاظ الهمم وتحفيز النفوس لطرد المستعمر الفرنسي.
وفاتــــه :
توفي ابن باديس في 8 ربيع الأول 1359هـ 16 أبريل 1940م، وحضر جنازته نحو 50 ألف شخص، رغم كل العراقيل التي وضعتها سلطة الاحتلال. وقد صرح مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري ورائد الحركة السياسية الجزائرية "أن وفاة هذا الزعيم الروحي تعتبر أكبر كارثة لا على الإسلام وحده، بل على الحزب الوطني أيضاً"
خامسا: الشيخ أبو اليقظان
اسمه الكامل هو: إبراهيم بن عيسى حمدي أبو اليقظان، وُلد في مدينة لقرارة بولاية غرداية في 23 صفر1306هـ الموافق لـ:5 نوفمبر1888م.
وقد لُقِّبَ بعميد الصحافة الوطنية . حفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية والشريعة.
تتلمذ على يدي أستاذيه:
1- الشيخ الحاج عمر بن يحي 2- والإمام الشيخ اطفيش محمد بن يوسف.
ترأس أول بعثة علمية جزائرية إلى تونس في عام1914م. و واصل دراسته في جامع الزيتونة.. وكان من الإصلاحيين.
كما كانت كتاباته لتحرير فلسطين واضحة حيث انخرط في لجنة إغاثة فلسطين.
ومن شعره على فلسطين والقدس:
ألا يا أختَ مكة خبِّرينا*** ألستِ مقرَّ جــــلّ المرسلينا؟
ومَنزلَ أنبياء الله حقا*** ومعراجاً لخير العالمينـــــــــــــــــا
فلسطين العزيزة ما دهاكِ*** ألستِ لأُزْدِ قحطانٍ عَرِينا
ألم تك راية الفاروق تحمي*** حِماكِ تذود عنكِ الغاصبينا
ومن شعره أيضا:
يا صانعين من الجزائر أمةً *** تبغي لها فوق السحاب قصــــــورا
رُوضوا النفوس على الوئام وألحموا*** صدع القلوب وأفعموها نورا
صفوا الصفوف ونظِّموا أشتاتها*** إنْ رمْتمُ حقاً لها التقديــــــــــرا
سيراً على نهج الكتاب وسنةِ الـــ***ـــــمختار تُحزون جنةً وحريرا.
وفي عام 1931أسس المطبعة العربية لذلك يعتبر أول جزائري يؤسس مطبعة حديثة في الجزائر.
وفي سنة 1934 انتخب عضوا في المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
كان الشيخ أبو اليقظان مولعا منذ صغره بالصحافة، اطلع على أشهر الصحف والمجلات العربية في زمانه، فقال في هذا الشأن: " كان ميلي إلى الصحافة منذ طفولتي فطريا غريزيا، وكنت شغوفا بمطالعة الجرائد العربية" خاصة التي تتناول أخبارا عن العالم الإسلامي في يقظته وسباته. وازداد شغفه بالصحافة بعد هجرته إلى تونس لمواصلة دراساته العليا في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية حيث وجد نفسه منغمسا في بحر الصحافة " غواصا ماهرا رغم تلاطم أمواجها وغور عمقها.. !
ويعترف الشيخ أبو اليقظان أنه دخل عالم الصحافة من باب الفطرة والغريزة، وتعلم فنونها وأسرارها بالتجربة والعمل والصبر والاستفادة من احتكاكه بالشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي فتح ذهنه على المسألة السياسية وعالمها المعقد. فقال أبو اليقظان في هذا السياق: " أنا لم أتتلمذ عند صحافي فآخذ عنه أسلوبه وإنما أخذت دروسا في السياسة عن الأستاذ عبد العزيز الثعالبي بتونس ودروسا في أساليب الكتابة بإدماني على قراءة الجرائد المصرية ولاسيما جريدة اللواء المصري اليومية لسان حال الحزب الوطني المصري. ثم إني بعد ذلك أتبع خطواتي الصحافية بما توحي به إلي فطرتي وما تلهمني إليه غزيرتي".
أحب الشيخ أبو اليقظان الصحافة ، وكرس لها ربع قرن من حياته، مشاركا في الصحف الجزائرية والتونسية، ومؤسسا لثماني صحف بين عام 1926 و1938.
نعم فقد أصدر الشاعر والأستاذ الكبير بل أحد أعمدة الصحافة الإصلاحية في الجزائر أبو اليقظان مجموعة من الجرائد، أولها " وادي ميزاب " حيث كانت البداية لجهاد مرير دام ثلاثة عشر سنة أصدر خلالها ثماني جرائد أسقطت واحدة تلو الأخرى لحرارة لهجتها، وجرأة معالجتها لمختلف القضايا ، وهي كالتالي:
1- (وادي ميزاب )صدرت (119عددا من 01/10/1926 إلى 18/01/1929م.
2- (ميزاب) في عام (عدد واحد، 25/01/1930م.)
3- (المغرب) من عام (38 عددا من 29/05/1930 إلى 09/03/1931م).
4- (النور) (78 عددا من 15/09/1931 إلى 02/05/1933م).
5- (البستان ) (10 أعداد من 27/04/1933 إلى 13/07/1933).
6- (النبراس )(6 أعداد من 21/07/1933 إلى 22/08/1933.
7- (الأمة ) (-170 عددا من 08/09/1933 إلى 06/06/1938.).
8- (والفرقان )(6 أعداد من 08/07/1938 إلى 03/08/1938).
قلت بدأ بجريدة " وادي ميزاب " التي صدرت في عام1926 وكان فيها أبرز مقال هز المستعمر هو مقال بعنوان :" الاعتماد على النفس "
نعم, فالحاجة أم الاختراع.. والاعتماد على النفس - بعد الله عز وجل – هو بداية لتحقيق الذات وإثبات لِوُجود, وجود الأمة الثائرة على المحتل وكسر كل القيود.
اهتمت هذه الصحف بالأدب والاجتماع والسياسية والأخبار المحلية والعالمية. ونشرت بيانات ومناشير لمنظمات وطنية ودولية. وتتابع أيضا الأحداث الثقافية الهامة في الجزائر و خارجها وتنشر تقارير عنها، فمثلا غطت جريدة الأمة في عدة حلقات وقائع المؤتمر الخامس لجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بتلمسان في عام 1935.
سادسا: المضامين والمواضيع في صحافة الجمعية
مساهمة أبي اليقظان في صحف الحركة الإصلاحية
لقد كتب الشيخ أبو اليقظان في جرائد إصلاحية كجريدة الفاروق لعمر بن قدور، المنتقد والشهاب للشيخ عبد الحميد بن باديس وجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ففي "المنتقد " ساهم بمقال عنوانه " مَعَاملُ العقول" والتي تتمثل في أسس النهضة في أي مجتمع وهي: المدارس، النوادي الأدبية، المجامع العلمية، المكتبات، الجرائد، الرحلة والسفر. وقال في شأن الجرائد ودورها في تفعيل حركة التنمية والإقلاع النهضوي: "الجرائد والمجلات العفيفة السيرة، النزيهة المقصد فإنها مدرسة للخاص والعام القريب منها والبعيد، ومعرض عقول الأمم وأفكارها وترجمانها الفصيح المُعْرِب عن ضميرها. تلبس كل يوم لبوسَهُ وتصبغ كل وقت لونه تتنزل من سماء كتابها على القراء نجوما وأقساطا حسب التطورات العالمية وضروريات الأمم وحاجيات الشعوب. تطلع الكاتب على أحوال العالم وحركاته وتقلباته وهو في مكتبه، والعالِم وهو في معهده، والتاجر وهو في دكانه، والفلاح وهو في بستانه فيستفيد كل منها ما ينير أمامه السبيل تنفخ فيهم روحا جديدة فتجعلهم دائما أبناء يومهم يستعدون لكل حادث ويأخذون الحيطة لكل طارئ."
ورحب الشيخ ابن باديس بانضمامه إلى كُتّاب "المنتقد"، واعتبر ذلك مكسبا لحركة الإصلاح والنهضة في الجزائر بعد أن وصفه بـ "المفكر الوطني" و "الكاتب المفكر."
كما ساهم أبو اليقظان في العدد الأول من جريدة البصائر بمقال عنوانه: "موجة الإصلاح الديني والعلمي بالقطر الجزائري"، وقال فيه: "لأجل تنظيم الإصلاح الديني والعلمي بالقطر الجزائري وتعميم نشره وتقوية موجته أسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمساعي أفذاذ من أبناء تلك النهضة الحديثة فكانت للجزائر بمثابة العقد الثمين من جِيدِ الغادة الحسناء، لم تمض على إنشائها مدة وجيزة حتى ضربت موجة الإصلاح بها من أقصى البلاد إلى أقصاها حتى تسامع الناس أخبارها فكان لها دوي هائل في الشرق والغرب، وكان لها صوت مسموع في أقطار الإسلام وتفاءلوا من وجودها للجزائر خيرا كثيرا."
واتصل كذلك بأصحاب الجرائد الوطنية ونسج معهم علاقات متينة كالأمير خالد (الإقدام)، عمر بن قدور (الفاروق)، عبد الحميد بن باديس (المنتقد/ الشهاب)، الطيب العقبي (الإصلاح)، عبد الحفيظ بن الهاشمي (النجاح)، محمد السعيد الزاهري (البرق)، محمد البشير الإبراهيمي (البصائر)...الخ. وما تفرقوا إلا بعد أن اختلف الشيخ أبو اليقظان مع بعضهم في الفكر والمنهج.
ونالت هذه الجرائد حظوة عند النخبة الجزائرية التي تحرص على مطالعتها والكتابة فيها، أذكر منهم: مبارك الميلي، أبو يعلى الزواوي، محمد الرزقي الشرفاوي، إبراهيم بيوض، المولود الحافظي، محمد السعيد الزاهري، محمد الهادي السنوسي، عبد اللطيف القنطري، بلقاسم بن أرواق، حمزة بوكوشة، علي مرحوم، زهير الزاهري، مفدي زكريا، رمضان حمود، مبارك جلواح، عبد الرحمان غريب...الخ.
سابعا: بصماته في الصحافة التونسية
ولم تقتصر مساهمات أبي اليقظان على إعلام الجمعية وصحفها فحسب, بل تعدتها إلى الصحف الأخرى داخل الوطن وخارجه فلقد ساهم الشيخ أبو اليقظان في الصحافة التونسية خلال دراسته في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية. فكتب في مجموعة جرائد منها: المنير، الاتحاد، لسان الشعب، الأمة، الإرادة لسان حال الحزب الدستوري التونسي، والزهرة. وقد أحصى له فيها الباحث الدكتور محمد صالح الجابري 15 مقالا بين عام 1920 و1934.
وكانت مقالاته متنوعة بين الشعر والنثر، وقد تناولت قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية. وكان من أبرز مقالاته :
الثلاثية 🙁 الجزائر والإسلام، الجزائر والاتحاد، الجزائر والعلم؛)
والثنائية: (حياتنا بحياة أخلاقنا، حياة الأمة بحياة لغتها). ومن كتابته النقدية والسياسية: شكوى الجزائر، ميزاب يستغيث، كتاب مفتوح إلى الوالي العام، تهنئة الجزائر بفوز الأمير خالد...الخ.
ثامنا: صحف أبي اليقظان عابرة للأوطان
أصر الشيخ أبو اليقظان على تدويل صحفه والترويج لها خارج القطر الجزائري بمختلف الطرق، منها إعادة نشر مقالات النخبة الفكرية والسياسية التي صدرت في أشهر الجرائد والمجلات العربية والإسلامية (المنار، الفتح، اللواء، الشورى، الرابطة العربية، الرسالة، الأهرام، التمدن الإسلامي، العرفان، الزهرة...)، وأذكر منهم على سبيل المثال: أحمد شوقي، عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، محمد حسين هيكل من مصر، شكيب أرسلان، محمد علي الطاهر، محب الدين الخطيب ومصطفى السباعي من الشام، محمد الصادق بسيس، محمد الشاذلي خزندار وعثمان الكعاك من تونس، سليمان الباروني من ليبيا، المكي بن إدريس العمراوي ومحمد عبد الهادي التازي من المغرب...الخ
وكان أبو اليقظان يلجأ إلى إرسال نسخ من جرائده إلى معارفه للإشهار بها، أذكر منهم الشيخ أبا إسحاق أطفيش المقيم في القاهرة للترويج لها في الأوساط الثقافية المصرية، وقد وفق في ذلك إلى حد كبير إذ وجدنا تقاريظ شخصيات عربية مرموقة لبعض صحف أبي اليقظان. كما نقلت منها الصحف المشرقية باعتبارها مرجعية في قضايا عديدة خاصة ما تعلق بالجزائر والمغرب العربي.
وهناك رسائل عديدة تشهد على انتشار جرائد الشيخ أبي اليقظان. خارج القطر الجزائري، منها رسالة بعثها الأمير شكيب أرسلان القائمين على جريدة وادي ميزاب يشكرهم فيها على كرمهم ويثني على جهودهم. أو هذه الرسالة من اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي العام إلى الشيخ أبي اليقظان للتبادل بين جريدة المغرب ونشرات هذه الهيئة الدولية. أو هذه الرسالة من القنصل المصري بمرسيليا ملتمس الاشتراك لمدة سنة في جريدة الأمة.
تاسعا: مصادرة الاستعمار للصحف الحرة
كتبت هذه الجرائد في القضية الوطنية والقومية. وروجت لبيانات وأفكار جمعيات وحركات التجديد والتحرير والتبصير، ودافعت عن القيم الإسلامية والأخلاق الاجتماعية وقاومت البدع والخرافات، وانتقدت الساسة الاستعمارية في الداخل والخارج.
كانت سلطة الاحتلال تراقب هذه الصحف وتصادر واحدة وراء الأخرى بذرائع مختلفة. فقد أصدرت الولاية العامة الفرنسية في الجزائر قرارا في 24 ماي 1938 يمنع بموجبه تداول وتوزيع العدد 157 من جريدة الأمة بذريعة أنه يتضمن مقالا منقولا عن مجلة الفتح لصاحبها محب الدين الخطيب موجه ضد السياسة الفرنسية. كما صدر العدد 138 من الجريدة نفسها في صفحة واحدة بسبب نزعتها الوطنية وتعاطفها مع حزب الشعب الجزائري بزعامة مصالي الحاج. ثم أصدرت الإدارة الاستعمارية بعد ذلك قرارا ثانيا في لتعطيلها بشكل نهائي.
استنكرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هذا القرار واعتبرته حلقة جديدة في سجل مصادرة حرية التفكير والرأي: " لقد ساءنا وساء كل حر خبر تعطيل جريدة الأمة الغراء التي يصدرها بالجزائر الصحافي الكبير الشيخ أبو اليقظان نائب أمين مال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
كما ندد الشيخ ابن باديس في مجلة الشهاب بقرار تعطيل الأمة فقال: "قد عطلت الأمة مثل أخواتها، فضمت وساما جديدا إلى صدر الأستاذ (أبي اليقظان)، ونحن ننتظر من همته ومضائه أن يطّلِع على قرائه في أمد قريب، إنه من الظلم والاحتقار للصحافة العربية أن تبقى هكذا تحت سيف التعطيل دون سؤال أو وجواب. وإنا لنرجو أن يعاد إلى الحق والإنصاف يوما ما اعتباره.. فتُعَامَلُ الصحافةُ العربيةُ معاملة قانونية ويحاكم المخالف للقانون ففي ذلك الإنصاف والاحترام وهو أساس كل ود ووئام."
ولم تنجح حملة الاستنكار المحلية والخارجية في إقناع السلطة الاستعمارية في العدول عن قراراتها السابقة. وكذلك لم يستسلم الشيخ أبو اليقظان، فسرعان ما أصدر جريدة أخرى عنوانها الفرقان. ورحبت البصائر بالفرقان وتمنت له عمرا مديدا. وحياه الشيخ علي مرحوم وتفاءل في دورها في خدمة الوطن. وتعاطف معها الشيخ أبو العباس أحمد التيجاني متمنيا أن تسلم هي من التعطيل والمصادرة. غير أن الإدارة الاستعمارية لم تعطها الفرصة لتعمر وتنشر رسالتها، فأوقفتها بعد شهرين، فلم يصدر منها إلا ستة أعداد فقط. ولم تفلح الاحتجاجات لإقناع المصادرين بالعودة عن قرارهم. ولم يصدر بعد ذلك أبو اليقظان جريدة أخرى خاصة بعد تضاعف استبداد الاستعماريين، وقيام الحرب العالمية الثانية وما ترتب عنها من ظروف سياسية واقتصادية. بالإضافة إلى مرض الشيخ أبي اليقظان الذي أصابه الشلل في جنبه الأيسر حيث أصيب بالفالج.
لقد تعرضت كل الجرائد الثمانية التي أصدرها الشيخ أبو اليقظان للمصادرة، كما تعرض صاحبها الملتزم بقضايا الوطن والأمة لكثير من المتاعب والمضايقات، لا يقوى على تحملها إلا ذوو الهمة والإخلاص والوفاء للمبادئ، والاقتناع الراسخ بالفكرة، والإيمان العميق بنصرة الله.
فقد حارب الفتن بقلمه, وأنار العقول بكتاباته , كان مصلحا قائما بتشخيص الواقع مقدما لذلك العلاج الناجع..
وقد توفي في سنة 1973م.تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته آمين,
عاشرا – وأخيرا- الخاتمـة:
الخلاصة التي تحصلنا عليها هي أن الإعلام بشكل عام والصحافة على وجه الخصوص كل ذلك له أثر كبير في تعليم المجتمع وتثقيفه وإرشاده وتوجيهه وتنويره
ومسك الختام من مقال للشيخ ابن باديس الإمام, إذ لخص الهدف من دعوته قائلا:" وغايتنا أن يكون المسلمون مهتدين بهدي نبيهم في الأقوال, والأفعال , والسير, والأحوال حتى يكونوا للناس كما كان هو صلى الله عليه وسلم مثالا أعلى في الكمال" والحمد لله رب العالمين.