من مواقف الإمام عبد الحميد بن باديس المثالية!
بقلم: محمد الصالح بن عتيق -
إن من المفيد أن أفرد فصلاً خاصاً بالشيخ عبد الحميد بن باديس، مقدما إليك أيها القارئ الكريم، هذه الشخصية من خلال مواقفه، والثوابت من نظراته، والتجديد لمطالبة الأمة، التي لا يمكن فك عراها عن الكيان الجزائري في نفس الوقت الذي كانت فيه الهجمة الفكرية من طرف الإدارة الاستعمارية، التي تزعم أن الجزائر ليست أمة عاملة في صياغتها، صياغة أكاديمية، مجتهدة في تلفيق الأدلة على ذلك، وبنت على هذا محاربة كل ما له علاقة بالإسلام، واللغة العربية، والقيم والعادات الجزائرية، والقضاء على كل ما يثبت وجودها كأمة !
فقد عمدت إلى مصادرة المؤسسات التعليمية، وأبدلتها بمؤسسات فرنسية استعمارية، ترمي وراء هذا إلى محو الشخصية الوطنية إلى الأبد. ففي هذه الظروف – الحالكة – يظهر الشيخ عبد الحميد بن باديس – كالأسد الهصور- مناديا.
شعب الجـــزائر مسلـــم *** وإلى العروبـــــة ينتسب
من قــال حــاد عن أصلـه *** أو قـال مـات فقد كـذب
فيبعث في هذه الأمة –الجريحة في كرامتها- الروح التي تبحث عن ذاتها واثبات هويتها، وذلك بالتصحيح، وفهم الدين فهما سليما، ومحاربة الآفات الاجتماعية التي يبثها المستعمر في أوساط الشعب ليزداد ارتكاسا فيها، ويضيع شخصيته، وتاريخه !
في هذه الظروف الحرجة، وقف الإمام ابن باديس موقفا حاسما ضد محاولات (دمج الأمة المسلمة الجزائرية في العائلة الفرنسية). وحارب هذه النزعة الاستعمارية حربا لا هوادة فيها، محدثا ثغرات في الجدار الذي ضرب على الشعب. وما موقفه مع ضابط المخابرات الفرنسي الذي سيأتي ذكره، إلا من هذا القبيل.
إحداث دروس الوعظ (للنساء) بالجامع الأخضر:
من جرأة الإمام ابن باديس –رحمه الله- تعليم النساء، وهي المنطقة التي كانت – عادة – محرمة تحريما مغلظا، على من يحاول أن يصلح من شأنها أو يخفف من وطأتها، كل ذلك لم يوهن من غريمته، ولم يقف سدا في طريقه، فقد خرق السياج، وصاح في المجتمع غير هياب ووجل:
إن المرأة كالرجل سواء في الاحتياج إلى العلم، أو حضور مجالس التذكير، وأتبع القول بالعمل، وخصص أوقات للنساء بالجامع الأخضر، يستمعن إلى عظاته، ونصائحه الدينية والاجتماعية. ولم يبال لما يحدث، شأنه في كل ما يتوجه إليه من الأعمال التي يؤمن بفائدتها.
وإني لأذكر مرة إذ وجدته إذ جلسا بإحدى الدكاكين، فاستدعاني إلى الجلوس. وما استقر بي المجلس حتى وجه إليّ هذا السؤال: ما قولك في فتح دروس بالجامع الأخضر للنساء؟ فقلت: لا يخلو الحال من صعاب يا أستاذ؟ فقال: أعلم هذا. ثم التفت إلى أحد الإخوان الجالسين، وكان مسنا وطالب علم – هو الشيخ محمد زغليش– وقال له: وأنت ما ذا ترى؟ فأجابه: الأمر خطير، والأقدام عليه مجازفة، فالبلاد لم تعهد هذا، والأعداء ينتهزونها فرصة ويؤلبون علينا العامة والدهماء.
فانتفض الشيخ وقال: إن الدين جاء للرجال والنساء على السواء، وإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سوى بينهما في التبليغ، فلماذا لا نقتدي به؟ ثم قال: أنا لست من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، بل من الذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا. وسأفعل إن شاء الله، ولكن ما يكون، أنا اعلم أنهم سيقولون: إن ابن باديس رمانا بالداهية، وأراد أن يحرج الأمة في كرامتها وسيجيبهم الآخرون، ويشتد الخلاف، ويحتدم الجدال بين المنتقدين والمحبذين. وأريد أن تتحرك هذه الحجارة، ولو تطأ رقبتي !
وساد بعد ذلك صمت. ثم وجه إليّ سؤالا قائلا. وأنت هل تخصص درسا أو درسين في الأسبوع للنساء من الدروس التي تقوم بها في الوعظ والإرشاد للرجال؟
فقلت: إنني يا سيدي أنتظر تجربتكم، وسنتخذ منها ذريعة لذلك.
فقال: لا بأس، لا بأس، لا أحملكم المسؤولية وحدكم، بل سأتحملها أنا عنكم، وأواجه المشكلة بمفردي، على أن لا تتأخروا عن القيام بهذا الواجب.
فتح الأستاذ دروسا دينية خاصة للنساء بالجامع الأخضر بقسنطينة، وما أن شاع الخبر حتى اكتظ المسجد بهن. وكانت هذه الدروس تتناول واجبات المرأة المسلمة نحو بيتها وأولادها وزوجها، ونحو دينها ووطنها، وكان – رحمه الله – بارعا في بيان ما عليه نساؤنا من الانصراف إلى الماديات، وإهمال الروحيات، والإقبال على الانشغال بالقشور دون اللباب، والتردي في مهاوي الخرافات، والعادات، إلى غير هذا ما يدلنا على خبرته الواسعة بأمراض أسرنا، كل ذلك بأسلوب جذاب، ولغة بسيطة ولكنها بليغة تأخذ بالألباب، وتفعل في النفوس فعلها السحري، وإن من البيان لسحرا.
آثار هذه الدروس:
لم تمر على فتح هذه المدرسة إلا بضعة أيام حتى أحدثت انقلابا خطيرا في تفكيرهن: فهذه زوجة أرغمت زوجها على الصلاة، وشهود الجماعات، والمشاركة في المؤسسات الإصلاحية والوطنية، أو تفارقه للأبد ! وهذه الأم أرغمت أبناءها وبناتها على القيام بالواجبات الدينية، والأخلاق الإسلامية، أو تقطع الصلة بينها وبينهم !
أما مجتمعاتهن في الولائم، والحمامات، والمآتم، فقد انقلب من العبث والهزل، واللغو، إلى البحث والمناقشات، والتبليغ. فكانت نهضة أساسية، وحركة ثورية. ولكن مع الأسف كانت قصيرة جدا، توقفت بموت الأستاذ !
ومن هذه التجربة الرائدة نستنتج: أن استعداد المرأة المسلمة للمشاركة في خدمة الدين والمجتمع له أثره، متى وجدت من يفسح لها المجال، ويقودها بزمام العلم والدين، ويحسن توجيهها، لا جرم أنها المدرسة الأولى للطفل والقعدة الأساسية لبناء الأسرة، وتربية الأجيال.
وما أصابنا من الأمراض الاجتماعية، وانتشار الفساد في أوساطنا، وانحراف شبابنا إلا من جراء جهل الأمهات، وتخلفهن عن ركب الحياة، وصدق القائل:
(فليس ربيـب عالية المعـالي *** كمثل ربيـب ســافله الصفــات)
يجد ربي الآن أن أضيف إلى ما ذكرت من مواقف الإمام، مواقف أخرى جديرة بالاهتمام والتسجيل. وهي كثيرة، ولكنني أذكر ما علق منها بالذهن، وكنت ممن حضرها، وعاينها، منها:
أولا: موقفه الشهير ضد إقامة الاحتفال بمرور قرن على احتلال قسنطينة:
من مواقف الشيخ والتي أجد فيها محل التنويه والاهتمام: موقفه ضد إقامة الاحتفال بمرور قرن على احتلال مدينة قسنطينة من طرف الجيش الفرنسي.
لقد هيأت الإدارة الاستعمارية كل الإجراءات لإقامة مهرجان عظيم، وعزمت على مشاركة جميع العناصر بما في ذلك الأهالي. وهنا تتحرك همة الشيخ و غيرته، ويعمل على معارضته بكل الوسائل، فيجمع هيآت معارضة، وجمعيات إسلامية، من مدينة قسنطينة، يخبرهم بما عزم عليه من معارضة لإقامة هذا الاحتفال الذي يجرح كرامة المسلمين من سكان هذا البلد، ويذكرهم بالمآسي التي ارتكبها الغزاة ضد الآباء والأجداد، فأخبروه بأنهم معه، وأنهم يستنكرون بشدة، إقامة هذه الذكرى المشؤومة.
وحينئذ حرّر بيانا موضحا فيه الهدف من إقامة هذه الذكرى، وما لها من التيل وإغاظة المسلمين ! ثم وجهه إلى سكان قسنطينة يأمرهم فيه أن يقاطعوا هذا الاحتفال، وأن لا يشاركوا فيه من قريب ولا بعيد.
فكان لهذا البيان تأثير على السكان، مما أرغم الإدارة الاستعمارية على العدول عن عزمها، واكتفت بإقامته رمزيا في دائرة محدودة. ومثل هذا لا يجرأ على القيام به إلا من كان مثل ابن باديس في إيمانه بربه، وتعلقه بوطنه.
ثانيا: موقفه من (الاندماج)
ومن مواقف الإمام ابن باديس البارزة، موقف سجله تحت عنوان (كلمة صريحة) عام 1936، أي قبل أن تبرز الحركة الوطنية في الجزائر !
قال ابن بديس في كلمته الصريحة التي نشرتها الشهاب في شهر أفريل عام 1936.
(إن هذه الأمة الإسلامية الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت !لكنها أمة بعيدة كل البعد في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود معين، من قبل الدولة الفرنسية)...
ثالثا: موقفه إزاء محاولة إقصائه عن الجمعية:
لقد هيأت الإدارة الاستعمارية الجو الذي يمكن أن تؤثر فيه على الأستاذ الإمام كي يتخلى عن رئاسة جمعية العلماء، و العمل معها.
لقد ضيقت الخناق على والده، وسدت في وجهه أبواب المعاملة مع البنوك! ومن المعلوم أن والد الإمام كان تاجرا يصدر الحيوانات إلى الخارج، وكان إلى هذا فلاحا كبيرا. وقد عاكسته الظروف فوقع في أزمة اقتصادية، أصبح معها مهددا بالإفلاس، ولا يبعد أن يكون للاستعمار يد في ذلك !
وفي هذه الظروف أرسل مدير الشؤون الأهلية بالولاية العامة استدعاء للأستاذ ليحضر بمكتبه في وقت معين، فذهب لمقابلته.
ولما دخل مكتب المدير، فوجئ بوجود والده، وأخيه السيد الزبير بالمكتب. وبعد تبادل التحية، وما تتطلبه اللياقة – عادة – دار الحوار التالي:
توجه المدير إلى الأستاذ، وسأله قائلا: من هذا؟ وأشار إلى والده.
فقال الأستاذ: هو أبي.
ثم وجه إليه سؤالا آخر قائلا: ومن هذا؟ مشيرا إلى أخيه الزبير.
قال الأستاذ: أخي.
فقال المدير: إذن، نحن إخوة ثلاث، وهذا أبونا، ومن حق الآباء على الأبناء: خدمتهم، وطاعتهم، أليس كذلك؟
فقال الأستاذ: نعم، ولكن في غير معصية الله، فحق الله مقدم على حقهم.
وأردف المدير قائلا: أنت تعلم أن أباك يعاني أزمة اقتصادية حادة، وهو معرض للإفلاس، وفي ذلك ضياع لشرف العائلة، ولها منافسون وأعداء في البلد، أترضى لمركز العائلة أن ينهار أمام أعدائها ومنافسيها؟
فقال الأستاذ: وما حيلتي في ذلك؟
فأجاب المدير: في استطاعتك أن تنقذه.
قال الإمام: وكيف؟
قال المدير: تتخلى عن رئاسة الجمعية، والعمل معها، وحينئذ يمكن إعانته من طرف الحكومة.
وفي هذه اللحظة ينكب (الوالد) المسكين في حجر (الابن) الإمام مستعطفا ولده، وطالبا منه الموافقة على اقتراح المدير !
فقام الأستاذ في الحال، وفي انفعال قائلا: ليس لي – الآن – ما أقوله لكم، ولكنني سأجيبكم برسالة، وأرجوا أن تقتنعوا بها.
ثم استأذن الإمام، وقام من مجلسه، فقام السيد (ميرانت) المدير، وصافحه بحرارة، ثم رافقه إلى باب مكتبه، وودعه، راجيا منه أن يرسل بجواب في أجل قريب.
ولما عاد ابن باديس إلى قسنطينة، حرر رسالة مضمونها، العتاب واللوم على موقف المدير من العلم والتعليم، الذي كان المنتظر منه بصفته عالما، وممثلا لدولة تزعم أنها تحمل مشعل الحضارة، والعلم، في العالم !...
وختم الرسالة بأنه يأسف لعدم إجابته وتلبية طلبه في التخلي عن مهمته العلمية. وقبل أن يختم الرسالة قرأها علينا بمكتب مجلة الشهاب، ثم طواها، وسلمها إلى أحد الجالسين معنا، وهو السيد عبد الحفيظ الجناق ليضعها في البريد.
ثم ماذا كان بعد هذا الموقف الصارم؟
لقد ضغطت الإدارة على الوالد المسكين ليتبرأ من ولده، فكتب في جريدة (لاديبيش دي كوستنطين) يتبرأ من ولده عبد الحميد بحجة أنه عصاه !
فرد الشيخ الإمام على أبيه، وكتب في نفس الجريدة قائلا: إنني كنت ابنه يوم كان أبا لي، أما اليوم، فقد شاء أن يقطع الصلة فله ذلك!
ولا يبعد أن تكون هذه القصة مناورة للتخلص من المسؤولية أمام الإدارة، وليتخذ كل واحد منهما سبيله. هكذا كنا نفهم ما حدث بين الوالد وابنه، حسب ما يبدو لنا من القرائن. وأيا ما كان، فإننا نستخلص من هذه القصة أشياء:
إن الإدارة الاستعمارية تتخوف من حركة جمعية العلماء، ورئيسها الإمام ابن باديس، وترى في حركتها قطع الطريق عليها، وخيبة آمالها.
بث النزاع والتفرقة بين أفراد الأسر بوسائل دنيئة وسافلة.
شجاعة ابن باديس وصلابته وثباته على المبدأ، ومعاكسة الإدارة الاستعمارية فيما تطلبه وتسعى للحصول عليه. ويتجلى هذا في قوله: لو طلبت مني فرنسا أن أقول: لا إله إلا الله، لقلت: لا !
رابعا: موقفه ضد قرار منع الاحتفال بعودة الحجاج إلى الوطن:
كان الأستاذ الإمام يتحين الفرص والمناسبات لإقامة الاحتفالات الدينية، ومنها: الاحتفال بعودة الحجاج إلى الوطن، فسعى للحصول على رخصة للاحتفال بهم عند عودتهم بالجامع الكبير في قسنطينة.
سافر الأستاذ إلى مدينة عنابة، وكنت بصحبته أنا والشيخ الورتيلاني. وفور وصولنا إلى دار الحاج الخوجة بمدينة عنابة، أخبرونا بأن نائب الوالي اتصل به هاتفيا، يطلب منه أن يبلغ الشيخ ابن باديس بأنه يريد مقابلته في مكتبه حالا !
فقال الشيخ: ماذا يريد مني؟ لا حاجة لي بمقابلته !
وكان في المجلس الأستاذ جندي المكي فقال: بل سنذهب إلى مقابلته معا، فإن قال لنا كلمة، قلنا له عشرا !
فأعجب الأستاذ بهذه الجرأة وقال: نعم، إن قال لنا كلمة، قلنا له عشرا. فذهبوا لمقابلة نائب الوالي.
ولما رجعوا علمنا أن النائب أبلغه أمر الوالي، بالعدول عن إقامة الاحتفال بالحجاج في الجامع الكبير !
فأجاب الأستاذ ابن باديس: أنني وزعت منشورات في ذلك، وعينت فيها الزمان والمكان، بناء على الوعد الذي تلقيته من الإدارة، فكيف يمكن الرجوع عن هذا؟
قال نائب الوالي: أرى للخروج من هذه المشكلة أن تعتذر بالمرض.
فأجاب الأستاذ: أأزعم المرض، وأنا غير مريض؟ فماذا يسمى هذا؟ أليس كذبا؟ إن كنتم ترونه مستساغا، فنحن لا نستسيغه، وليعلم سيادة الوالي، أننا سنذهب غدا إلى الجامع في الوقت المحدد، وله أن يمنعنا بقوة الشرطة.
ومن الغد إكتضت الشوارع المؤدية إلى الجامع في شبه مظاهرة، وقد حضرت الشرطة، ووقف بعضهم بالأبواب يمنعون الناس من الدخول للجامع !
وجاء الأستاذ الإمام، ومعه جمع من الحجاج، شاقا طريقه في وسط الجموع، وانتهى إلى الباب، فدخل غير مبال برجال الشرطة، ومظاهر القوة، فتبعه
الناس وهجموا كالسيل الجارف، فلم يسع الشرطة إلا أن تتخلى عن طريقهم !
وأقيم الاحتفال والترحيب بالحجاج، وخطب الأستاذ فيه خطبة بليغة، ندد فيها – بشدة – بهذه الإجراءات التعسفية التي تتخذها الإدارة الاستعمارية. وكان ذلك سنة 1936.
خامسا: موقفه من (برقية التضامن) مع فرنسا:
كان موقفا صارما حقا، دلّ على ما كان يتحلى به الأستاذ ابن باديس من شجاعة وإخلاص. ففي سنة 1938، وقبيل الحرب العالمية الثانية بقليل، وفي الاجتماع السنوي لجمعية العلماء المنعقد بـ(نادي الترقي) في العاصمة، وفي اجتماع مكتب إدارتها الذي أبدى كل عضو فيه رأيه واستعداده لمواصلة الكفاح ضد من يحاول النيل من سمعتها، أو يقف في طريقها، باستثناء أحد أعضاء المكتب، فقد مال إلى المسالمة، والمساومة، فاقترح على المجلس أن تقدم الجمعية (شواهد الإخلاص لفرنسا) والتضامن معها، أسرة بالهيئات الرسمية، وغير الرسمية التي بعثت ببرقيات تضامن وتأييد لسياستها... قال: ولم يبق من الهيئات والجمعيات –أسوة – بالجزائر – إلا جمعية العلماء. ويرى تفاذياً من غضب الإدارة، وسوء معاملتها، أن تقدم الجمعية (برقية) للحكومة تعلن تضامنها معها، وإخلاصها لها !...
وهنا ظهر امتعاض شديد من جميع أعضاء المكتب، ورفضوا هذا الاقتراح، فظهر الغضب على وجه صاحب الاقتراح، وطلب في انفعال: أن لا يدرجوا اسمه في قائمة المرشحين لعضوية الجمعية. لكن الجماعة أصروا على أن يدرجوا اسمه في القائمة، وله الخيار بعد ترشيحه أن يقدم استعفاءه من الجمعية...
وقبل الموعد المقرر للحضور في الاجتماع بالنادي، ذهب صاحب الاقتراح إلى قاعة النادي حيث يوجد بها جمع غفير، وصعد المنصة، وأخذ المسمع، وحي الحاضرين، ثم طلب منهم أن يشطبوا اسمه من قائمة الأعضاء، لأنه ما زال متبوعا من طرف الإدارة الحاكمة، ومتهم عندها بارتكاب (جريمة) زورا وبهتانا، ومهما يكن من أمر، فإن هذه التهمة الباطلة لا تؤهله للعضوية في جمعية علمية دينية، أرجو أن تفهموني.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد وقع خلاف بيني وبين إخواني أعضاء مكتب الجمعية، لا يسمح لي بالاستمرار في العمل معهم، ولا يمكنني أن أصرح لكم الآن.
حسب هذا الاختلاف، وربما أصرح به بعد انتهاء جلسات الجمعية... فأحدث هذا بلبلة في الحاضرين، وأخذوا يتهامسون، ويعلقون !...
وفي هذه الفترة، دخل الأستاذ الإمام ابن باديس، واعتلى المنصة، وتناول المسمع، وخاطب القوم قائلا:
(إن الشيخ طلب إليكم أن لا تنتخبوه عضوا في الجمعية، كما طلب من مجلس إدارة الجمعية أن لا يسجلوا اسمه في قائمة المنتخبين، لأسبـاب ذكرها لكم.
لكن المجلس أثبته ولم ير له في ذلك عذرا !
ويا ليت الشيخ وقف عند هذا الحد، فقد أضاف إليه أنه على خلاف مع الأعضاء، وسيذكر أسباب هذا الخلاف فيما بعد !
فما هو هذا الخلاف الذي جعله ينسحب من الجمعية !
ولإزالة هذا الغموض فإنني أذكر لكم: إن سبب الخلاف هو أن الشيخ يقترح أن تقدم الجمعية (شواهد الإخلاص لفرنسا)، لتنال رضاها، وتسلم من أذاها ! فرفض الجميع هذا الاقتراح، وفي مقدمتهم أنا.
وأعلن: إنني غير مخلص لها، وكيف أكون مخلصا، ومدارسنا العربية الحرة مغلقة، ومعلموها في السجون؟
كيف أكون مخلصا، والمساجد محرمة على العلماء لتعليم الأمة وإرشادها؟
كيف أكون مخلصا، والشباب الوطني مشردون، ومطاردون، وقادتهم مبعدون؟
كيف أكون مخلصا، والأمة محرومة من حقها الطبيعي؟
إن اليد التي تكتب هذا الإخلاص، يجب أن تقطع وترمى ! ...)
وهنا دوت القاعة بالتصفيق، والهتاف بحياة ابن باديس.
وانتهى الاجتماع، وسار كل واحد في الطريق الذي اختاره لنفسه. وقد نشر – بعد هذا – الشيخ صاحب الاقتراح في جريدة البصائر ما معناه: أنه لم ينفصل إلا عن مكتب إدارة الجمعية، أما فكرة الإصلاح فلا تزال تربطه بالمصلحين رابطة قوية !
وإذا لاحظنا الظروف الحرجة التي كانت سائدة يومئذ، وإن فرنسا في حاجة أكيدة، لمساعدة الشعب الجزائري في هذه الحرب العالمية الثانية المقبلة، التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق، إذا علمنا هذا، أدركنا قيمة هذه المغامرة من ابن باديس وصحبه، وما سيتحملونه من كيد، ومكر من الاستعمار الحاقد. غير أن الإيمان بالله، والإخلاص للوطن، جعلهم يستهينون بكل ما سينالهم في هذا السبيل !
سادسا: موقفه مع أحد ضباط المخابرات الكبار:
وكنا مع الشيخ عبد الحميد بن باديس في مكتب التربية والتعليم سنة 1939، والحرب قائمة، وقد طلب الإذن أحد ضباط المخابرات الفرنسية على مستوى الشمال الإفريقي، فأذن له بالدخول فدخل، وحي وصافح الجميع. ثم جلس وعرف نفسه فرحب به الشيخ بما تقتضيه اللياقة عادة، ثم دار الحديث بينهما حول الكتب التي تدرس للطلبة، وكان الشيخ يجيبه، ثم تطرق السائل إلى الحديث عن علماء المسلمين بصفة خاصة بالأندلس، يريد بذلك أن يعرف ما عند الأستاذ من الإطلاع على التراث العربي في الأندلس.
فاستوى الأستاذ في المجلس، وأفاض في الحديث عن العلوم، والمعارف، والمؤلفات، والمؤلفين، وعن الحضارة التي ازدهرت في ربوع الأندلس، والتي منها استفادت أوروبا، وخرجت من ظلمات الجهل، والتخلف بفضل ما قرأوه من هذه المؤلفات بعد ترجمتها. وقد ضرب لذلك أمثلة كثيرة، لما أخذته أوروبا عن العرب والعربية !
وكان الرجل مندهشا لما يسمع من الشيخ، معجبا باطلاعه الواسع. ثم علا صوت الشيخ في شيء من الحدة قائلا: هذا هو اللسان الذي تريد فرنسا أن تقطعه بعد ما استفادت منه أكثر من غيرها، أهذا هو الجزاء؟
فظهر على الضيف شيء من الخجل والحياء وقال: إن فرنسا لا تنوي شرا نحو اللغة العربية، وهي تعرف فضلها، ولكن المسألة لا تعدو أكثر من أن تكون سوء مفاهمة. وما جئت إلا لأحدثكم في هذا الموضوع، وعسى أن تنقشع الغيوم بينكم وبين الإدارة. ثم سكت ونظر إلى الشيخ طويلا !
فهم منه الشيخ، أنه يريد أن يضيف شيئا آخر فقال: وماذا بعد؟
فقال: أريد أن أتحدث إليكم على انفراد !
فانتفض الشيخ وقال: إن هؤلاء إخواني وشركائي، وليس لي شيء أختص به دونهم !
فبهت الذي كفر، وطلب الإذن بالخروج، وخرج !
سابعا: آخر موقف ختم به حياته:
كان آخر موقف للإمام الأستاذ ابن باديس – رحمه الله – هو ذلك الموقف المشرف، الذي ختم به حياته المليئة بالأعمال الصالحة...
فقد كانت آخر محاولة الإدارة الاستعمارية: زيارة (والي قسنطينة) للأستاذ في مرضه الذي توفى فيه. وكان في دار والده.
وفي هذه الزيارة عرض (الوالي) عليه: أن يصرح بأنه نادم على زج جمعية العلماء في السياسة كما يقال، وأنه لا يحمل حقدا لفرنسا !
وهنا حاول الأستاذ القيام، وقال في غضب: أخرجوني من هنا، أو أخرجوه ! فقام (الوالي) وخرج يتعثر في أذيال الخيبة والهزيمة !
ولفظ الإمام أنفاسه في ذلك اليوم، فمات رحمه الله، ولم تنل الإدارة الاستعمارية أدنى تنازل عن حربه ومقاومته لها !
وقد حكى لي الأستاذ صالح أرزور النائب بالمجلس الجزائري –سابقا– والمتصل بالإدارة الاستعمارية، أنها سجلت: أن الرجل الوحيد الذي لم تنل منه الإدارة تنازلا، أو تسامحا معها إلى أن فارق الحياة هو: عبد الحميد بن باديس.