نحو فهم أعمق للأسس التعليمية عند البشير الإبراهيمي
بقلم: ولهة حسين -
تعدُّ التربية أخطر مهمة يمارسها الإنسان على نفسه وعلى غيره، وأنبل رسالة يؤديها إن تحكّم فيها وعرف أسرارها، وأحاط بأساليبها، وطرائق آدائها، كما يعتبر التعليم عماد التربية الفردية والاجتماعية، ودعامة أي أمة تصبوا إلى حماية نفسها من الجهل، وإلى تنوير القلب والعقل كي تتخلص من أرزاء التبعية بأي شكل من الأشكال كانت، ومن الاستعباد على أي وجه جاء وتمثل، كما تعد المدرسة العامل الأساس في التغيير، والتي من خلالها يمكن التوصل إلى نظامٍ تعليمي عالي الجودة، قادر على التعامل مع مراحل النمو الفعلي، والاجتماعي، والبدني، والنفسي للطلاب وحينما كان التعليم يعني إيصال العلوم والمعارف إلى الآخرين بوسيلة مناسبة، تعين المتعلم على حفظها وفهمها وتطبيقها؛ فإنه قد راح أهل العلم وأصحاب الفكر منذ القديم، يتفنّون ويبدعون ويجددون في الطريقة التي من خلالها يمكن تقديم العلوم للمتلقي؛ لتصل إليه بشكل ملائم، فيفيد منها إفادة كبيرة، وتساعده على تحصيل تلك الفائدة من المتعلمين، وقد راح سلفنا يؤسس لعملية تربوية تعليمية تُسهِم في تكوين النشء تكوينًا يغرس فيهم كفاءات نفسية وعلمية عالية، وآداءات وسلوكات راقية، ونجد في الجزائر جمعية العلماء المسلمين التي تعد بحق بوابة الفكر التربوي الهادف إلى إصلاح الأمة، ويعد البشير الإبراهيمي أحد روادها وأعلامها، وقد حرص على نشر العلم، ودأب في العمل من أجل ذلك، وأسهم إسهاماً بالغاً في تنوير عقول شباب الجزائر، وزرعِ الغيرة على الدين واللغة العربية، وكل صنوف العلوم في نفوسهم، في وقت كان فيه المجتمع الجزائري يرزأ تحت وطأة الاستعمار ويشكو الظلم والفقر والاضطهاد. وسأتطرق في موضوعي هذا إلى نظرة العلاَّمة البشير الإبراهيمي إلى العملية التعلمية وأهم المقومات التربوية التي تحقّق القفزة الملموسة في المجتمع، والبلاد، وغير ذلك مما له علاقة بالموضوع.
العملية التعلمية عند العلامة البشير الإبراهيمي:
لم يكن البشير الإبراهيمي مصلحاً أو مرشداً فحسب، بل هو أكثر من ذلك؛ إذ يعتبر مفكراً ومنظراً في مجال التربية والتعليم، وقد ساعدته ثقافته الدينية، وتجربته التعليمية وسياسته الرشيدة كعلمٍ من أعلام جمعية العلماء المسلمين من ضبط بعض آليات التعلم والتي اكتسبه
بالخبرة والمراس من أرقى الجامعات العربية، كسوريا وتونس كما مكَّنته من سبرِ أغوار المتعلمين، وإرساء جملة من القواعد والأسس التربوية والتعليمية؛ حيث كان ذو شخصية »متعددة الجوانب، تجمع بين معالم الكاتب القدير، والفيلسوف المفكر والأديب الحق1 « فكانت دعوته للقيام بثورة ثقافية شاملة، عن طريق نشر العلم والعمل على إحياء الإسلام وتجديده تطبيقا لتعاليمه واستجابةً لمتطلبات عصره بارزة جلية في مقالاته، وخطبِه، إذ يقول: »ندعو للعلم الذي هو سلَّم السعادة، ورائد السيادة 2 « ونظر إلى الفعل التربوي، والعملية التعّلمية من جانبها الآدائي في المجتمع، ثم من جانب أنها أصل قوام الأمم، فكان أن أقام تلك النظرة وفق استراتيجية بيداغوجية وعلمية، تستهدف المتعلم – كونه نواة التغيير– من أجل بناء شخصيته بناء فكريا وثقافيا، ونفسيا، وأَدرك بسلامة حسه ورفاعة ذوقه، أن ذلك لا يتم في غياب التخطيط المحكم فسعى إلى وضع خطة متدرجة، محسوبة متوافية بإحكام، شملت المعلِّم والمَتعلِّم، والمنهج، والوسائل التعليمية المتاحة والمساعدة على التكوين، ولا يكون هناك تعليما مؤسساً، ما لم تكن هناك مدرسة لأنها »أكبر دعامة تقوم عليها النهضة الجزائرية« 3 ولما كان المجتمع الجزائري وقت الاستعمار الفرنسي يعجز حتى عن التعبير عما يريده من تعليم، كان من البديهي أن يكون هناك تعليما حرا، وعمل الإبراهيمي على توسيع حدود التعليم في الجزائر، ونادى بفتح أكثر عدد من المدارس الحرة، كما ركز على وجوب انتقاء المدخلات التعلمية، بغية إعداد جيل يستطيع مجابهة المستعمر ويحافظ عن أصالته ومعالم هويته، وتكون له القدرة على مقارعة الظلم، ومجابهته ومحاربة الجهل وردعه، بالحجة البينة والدليل القاطع، وقد رأى أنذلك لا يتحصل فعلا ما لم يكن التعليم مؤسسا على أمرين أساسين لا ينبغي على أحد بأي حال من الأحوال أن يغفلهما، أو يتساهل فيهما، ألا وهما: الإسلام، واللغة العربية، وليس من معنى السعي في تعلم أصولهما، وأحكامهما، أن يعرض المرء عما سواهما، بل لقد كانت غايته -إضافة إليهما- إقامة الوزن لتلك العلوم »التي أصبحت وسائل للحياة، أو هي الحياة نفسها« 4 وحينما كان التعليم يخضع للواقع وينطلق منه، فإّننا نجد الإبراهيمي ركّز على ذلك؛ فعمل على تثبيت بعض الأسس والأركان التي رأى أنها تسهم في تهذيب السلوك، وتنقيح الفكر، وتصفية الذهن وبخاصة إذا علمنا أن هناك واقعا يصعب التنبؤ بما يمكن أن يفرزه في ظل وجود المستعمر الفرنسي الذي سعى منذ أول يوم من وجوده في الجزائر إلى القضاء على كلّ ما له علاقة بالدين الإسلامي واللغة العربية، بالإضافة إلى ما كان يعانيه المجتمع الجزائري من فقر وحرمان، أدى بهم إلى التفكير في الحصول على لقمة العيش، والانصراف عن سبل العلم؛ حيث إن الحكومة الفرنسية كانت » تعتمد في الوصول إلى غاياتها... على الساحر الأكبر، وهو المال؛ تغوي به وتغري وتغرّ، وتخيل إلى الناس من سحره أنها تنفع وهي تضر«5 وأمام ذلك لم يكن أمام العلامة إلا أن يسعى جهده في نشر الوعي القومي، انطلاقاً من العقيدة الإسلامية، فاهتم بالتركيز على:
· تنظيم حَلق الدروس في الإرشاد والوعظ الديني في المساجد؛
· إقامة الخطب؛ بغية غرس الإيمان، ونشر الفكر الجمعي؛
· إنشاء مكاتب حرة للتعليم المكتبي للصغار؛
· تنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة؛
· تغذية النفوس بالأصالة والكرامة، وإعادة بناء الذات؛ إذ يرى أنه » لم يبق للأمة من سلاح تدافع به الحكومة، وتبطل به سحر المال، إلا الإيمان والكرامة والعزيمة والإصرار، وهذه كلها من أوائل ما يغرسه الإسلام في نفس المسلم.6«
فالإبراهيمي يقر بأن أساس نجاح التربية والتعليم، إنما هو الإيمان النابع من العقيدة الإسلامية، واللغة العربية.
التعليم عند الإبراهيمي وغاياته: تُعد العملية التعلُّمية هدفا يراد منه سلوكا معينا ويرتقب من ورائه فعلا يحدث تغييرا في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وكل جديد يحصل في الأمة، إنما هو »وليد التطورات، والحوادث المفاجئة؛ التي تعمل في تكوين العالم كله تكويناً جديداً وأن أول ما تفعله الحوادث، طبع الأفكار والعقليات طبعا جديدا« 7 . وما دام النّمو السليم يتضمن التكييف مع الواقع، وما دامت الوظيفة الأساسية للتربية تعمل على جعل الإنسان قادراً على ملاءمة حاجاته مع الظروف المحيطة به؛ فإن العلامة محمد البشير الإبراهيمي نظر إلى العملية التربوية على أنها فعل إيجابي يهدف إلى بناء المتعلم(( الطفل)) - في مراحله الأولى- من النواحي الآتية:
أولا: الناحية الدينية: انطلق الإبراهيمي من إيمانه الراسخ في أن المتعلم أو المعلم، لا يمكنه أن يحدث الفارق في مجتمعه، ولا يزيد في صلاحه، أو تحريره من الجهل والاستعمار، ما لم يَتشَّرب من الإسلام ما يكفيه شر العدو، ومن العربية ما يعينه على حفظ تراثه، وتاريخه، لذلك دأب على توجيه الكُتَّاب والمعلمين على أن يركزوا في تعليمهم، أو كتاباتهم تناول ما له صلة بذلك، ويرتجى منه النفع والصلاح فنجده يقول» : أمامكم مباحث التاريخ الإسلامي، وعبره، وعضاته، وسير أمجاده فأحيوها تحيوا بها وتحيوا« 8 فالإبراهيمي يعَلم أن التاريخ جزء هذا الوطن وشعبه، وهو للأول المرآة، وللثاني المعَلم، والمقوم الأساسي لوجوده، ولأّنه كان يدرك أن الإسلام وحده القادر على جمع كلمة الأمة، وأن العربية بها يتحرر الفرد الجزائري، ومن خلالها يحصل على حريته؛ فإنه دعا إلى الإصلاح الديني والعلمي، والتركيز على تعليم اللغة العربية، وبيان شرعة الله، جاء عنه في جريدة البصائر قوله» : أمامكم حقائق الدين وفضائله، وآداب الإسلام، وحكمه؛ فاشرحوها وبينوها...أمامكم اللغة وعلومها وآدابها؛ فابحثوا ونقبوا واحدوا ركابها، واسعوا لبيان فضلها، سعيكم لتعليمها، وأشربوا قلوب أولاد هذه الأمة: أنه ما غرد بلبل بغير حنجرته« 9 ونقرأ من اتجاهه هذا، أن الدين واللغة، بهما تتحقق الغاية الكلية من التعليم؛ لأن المتعلم في نهاية الأمر يكون ممثلا لمجتمعه، ووطنه وتاريخه فهو إن لم يتزود بسلاح الدين الإسلامي الذي شب عليه، وباللغة العربية التي فطم عليها، والتي عليها يجتمع كل لسان عربي وغير عربي باسم الدين والوطن الواحد فإن علمه لا يمثل إلا شخصه ولا يرتجى منه خيراً لوطنه، ولمجتمعه؛ لأن اللغة هي عربة الوعي الجمعي، وهي أصدق سجل يعبر عن التاريخ، وحضارة الأمة ومن ضيع لغته ضيع هويته.
ثانيا: الناحية العقلي: يعتبر التعليم المصدر الذي يتغذى منه العقل، والجهاز الذي يساعد الإنسان على تفهم قدراته، وتفهم عناصر البيئة التي يعيش فيها، وقد حرص الإبراهيمي على أن تكون العملية التعلمية محكمة، ودقيقة يراعى فيها المستوى العمري للمتعلم، وذلك أثناء عمليات النقل والتفاعل؛ حتى يحصل التكيف والاكتساب، ولا بدلها من توجيه وإرشاد وضبط؛ حتى ينمو الطفل نموا صحيحا وفي اتجاه صحيح، فيقدم على »تعليم الأميين الكبار مقدار ما يرفع الأمية عنهم« 10 لأن الغاية المرجوة منهم هي أن يدركوا ما يجب أن يكونوا عليه في حين أن تعليم الصغار، لا يكون مفرغاً، ولا عشوائيا، إنما ينبغي »تلقين الصغار أبسط القواعد في أسهل التراكيب، ثم تمكينها من نفوسهم بالتمرينات التطبيقية والحرص على إشرابهم معنى ما يقرأون والاجتهاد في تربية ملكة الذوق والاستنتاج في نفوسهم... والتشجيع على التكلم أمام الناس بما يمليه الخاطر، من غير اعتماد على وحي معلم أو كتاب« 11 فمتى كان التلقين قائما على المقدمات والانتقال من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى المعقد وصاحب ذلك التدريب والتطبيق؛ فإن الفائدة تحصل في العقل لا محالة.
ثالثا: الناحية الاجتماعية: إن منهج الإبراهيمي، ونظرته للتربية لا تقتصر على كونها عملية يراد منها التثقيف وحسب، إنما غايته القصوى أن تظهر نتائج التعليم في النسيج الاجتماعي سلوكا، وتفكيرا، وتوجيها »فالمسلم لا يكون مسلماً حقيقيا...حتى تستقيم اجتماعيته؛ فيحسن إدراكه للأشياء،وفهمه لمعنى الحياة وتقديره لوظيفته فيها« 12 ويتجلى لنا من قوله هذا: أن العلاقة بين المجتمع والعملية التعلّمية علاقة بناء وتكامل، فلكي يستقيم التعليم، ويرتجى منه الفائدة لا بد أن يكون هناك إصلاح ديني وإصلاح اجتماعي. فالتعليم يكون من المجتمع ويعود إليه ونمثل على ذلك بالخطاطة الآتية:
المجتمع « التعليم
الواقع المخرجات المدخلات (شكل(1
العملية التعليمية
قراءة الشكل(1): يعيش المجتمع واقعا معينا، تفرضه ظروف معينة سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية...الخ، تُسهم بشكل مباشر في تحديد المدخلات التعلمية، والتي يراد منها إحداث الفارق من واقع، إلى آخر، ولا يمكن تحصيل تلك الغاية، ما لم تكن هناك عملية تعلمية فعلية، تراعي الواقع الاجتماعي، وتضبط طبيعة المخرجات، وتوجهها بانتظام، كما لا يمكن أن يتحقق نجاح هذه العملية إن لمَت حدث استجابة - على مستوى معين- في المجتمع؛ من أجل سيرورة تعلمية ناجحة ومن ثم نستنتج أن التعليم عند الإبراهيمي يستهدف المجتمع، وأن المجتمع هو الكفيل بخلق الظروف الملائمة من أجل تحسينه، ولا تخرج غاية التعليم عنده عن التميز والتفاضل والقوة لأن الأمم » تتفاضل وتتعالى بالبناء للخير والمنفعة والجمال والقوة، وما عدا هذه الأربعة، فهو فضول عابث، لا يدخل في قصد العقلاء، وقد بنى أسلافنا لكل أولئك مجتمعة ومفترقة« 13 هذا ما أراده الشيخ الإبراهيمي من طالب العلم، وهكذا آثر أن تكون الغاية من التعليم، والحقَّ الحقَّ لفظ فوه، فأي شرف أعز وأمنع من البناء الصالح، والمنفعة التي لا ضر فيها للآخر، والجمال الناشد تناسق البنية الاجتماعية والوحدة الوطنية، والقوة التي تجعل أهل الكهف ينتشرون في أرضهم دون خوف، وهم على ذلك في أمان؟!
المقومات الأساسية للتربية والتعليم عند الإبراهيمي:
تبرز أستاذية الإبراهيمي التربوية في عنايته بكل الأركان أو المقومات الأساسية لعملية التربية ونلخصها في المقومات الآتية:
1. المادة العلمية: اعتنى العلامة بالمادة العلمية التي تُعلَّم وتُلقُّن للطالب وركز على انتقاء ما يقدم للمتعلمين من مواد تبني المتعلم: نفسيا، وذهنيا، وخلقياً؛ إذ ليس كل من يكتب بالعربية، أو يتثقف بالثقافة الفرنسية، ولا كلّ من يستطيع أن يخطب في المجتمع، أو يحز من العلوم ضروبا، يسمى مثقفاً، أو عالماً، أو مصلحاً وهو في ذاته وشخصيته عار من الحقيقة 14 . كما نجده يقر بوجوب مسايرة العصر وأن يقدم للمتعلمين ما ينفعهم في حاضرهم، ومستقبلهم، وينشئ عقولهم على التفكير الصحيح، ويصوغهم صياغة متقاربة، إذ يرى أن الملكات لا تكفي فيها القريحة والطبع حتى تمدها الصنعة بإمدادها، ما دامت » المواضيع تتجدد، والمعاني تتوارد وتتشابه، ثم تتمازج، ثم تتمايز، فمن الواجب أن ننحت من هذا المعدن القديم جوهرة ونصقلها« 15 ونقرأ مما سبق: أن الإبراهيمي يرى أن تربية ملكة من الملكات لا تقوم على المألوف أو المجَتر، ولا على أساس عشوائي للمدخلات التعلمية، بل يجب تحديد المادة، واختيارها؛ بحيث يستأنس لها العقل ويضيف عليها، بعد أن يتمكّن منها المتعلم، وتتخامر في ذهنه وتتمايز؛ فجودة المخرجات رهينة بجودة المدخلات، ويمكن تلخيص مضمون المادة العلمية التي يجب أن يتلقاها طالب العلم كما يراها الإبراهيمي في النقاط التالية:
· أصالة المادة العلمية. بالاعتماد على ما صح وثبت بالدليل، والابتعاد عن القشور ومما لا فائدة من ورائه؛
· الاعتماد على اللغة العربية كأساس في التربية والتعليم، ولا ينافي تعلم
· اللغات الأخرى؛
· مسايرة العصر في التعليم من حيث النظام والقوة والفعالية؛
· حفظ القرآن الكريم لأنه أساس العلوم كلها؛
· اعتماد الكتب السهلة ذات المحتوى المبسط؛
· وجوب تنوع المادة العلمية من المعارف العامة؛ كالتاريخ والأدب والحكمة والأخلاق والتربية، والرياضيات والطبيعيات.
2. الأستاذ أو المعلم: أولى العلاّمة البشير الإبراهيمي أولوية للمعلم، وأبدى اهتمامه به، وقد برز ذلك في كتاباته، لا لشيء إلا لأنه دعامة النشء والمجتمع والوحيد الذي يقوم بعملية التربية والتعليم، حتى لأنه عند الإبراهيمي بمثابة المجاهد، واللبنة الأساس التي تقوم عليها المدرسة، وانظر إلى وصفه لهم قائلا: » أما دعائم هذا البناء... فهم أشبال الغاب وحماة الثغور، عمار المدارس، وسقاة المغارس، مربو الجيل وأئمته، أبناؤنا المعلمون المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد« 16 فقد أنزله منزلة يستحقّها على جلاء قدره، وسعة جهده، وقد رأى الإبراهيمي أن وظيفة المعّلم ليست تربوية فحسب، بل له أدوار أخرى في مجتمعه كالتوجيه، والتثقيف، وكلّ ما من شأنه أن يضفي الحياة في النفوس والعقول، لذلك وجب عليه أن يتزود من كل علم بسهم؛ حتى يكون فعله له، لا عليه.
وظيفته: قدم الإبراهيمي جملة من الوظائف، التي ينبغي على المعلم أن يؤديها بحرص وأمانة ولعل أهمها: تقديم المعرفة للمتعلمين بأناة، يهدف من خلالها إلى إبانة الغامض، وتيسير الصعب العسير؛ حيث نجده يقول » :أمامكم العلم بآفاقه المتسعة؛ فبينوا ورغبوا، وأهيبوا بالغافلين عنه والمتخلفين عن ركبه؛ أن يشمروا ويسارعوا، وأن يتمسكوا بأسبابه، ويأخذوه عن أقطابه« 17 وفي مقام حديثه عن علاقته بالتلامذة ودوره إزاءهم يقول » :يقويهم في الدينيات علماً وعملاً، وفي القرآن حفظا وفهما، ويروض ألسنتهم على القراءة والخطابة، وأقلامهم عن الإنشاء والكتابة، وعقولهم على التفكير الصحيح، ويصوغهم صياغة أخلاقية متقاربة ويشرف بهم على علوم الحياة من باب الرياضيات والطبيعيات... « 18 من هنا كانت قيمة المعلم كبيرة في نظر الإمام البشير الإبراهيمي؛ لأنّه يدرك أن صلاح أي أمة تكمن في صلاح معلميها، وفي تشريف العامة لهذه النخبة، كونها تغذي النشء والبلاد بما فيه صلاح لحياتها، ونفع في أمورها.
سمات المعلم الناجح: وللمعلم المتحقق بالعلم عند الإبراهيمي شروط وعلامات تؤهله للتدريس، وآداء مسؤوليته على أكمل وجه، ومن بين هذه الشروط ما يتعّلق بذاته، ومنها ما يتعلق بطلبته وتلاميذه، ونورد من جملة هذه الشروط ما يلي:
أولا: الشروط والعلامات الذاتية: من أهم الشروط والعلامات التي ينبغي أن تتوافر في المعلم، كما يرى بذلك العلامة محمد البشير الإبراهيمي ما يلي:
· التحلي بالتقوى وإخلاص العمل لله، فهي العدة في الشدائد، والعون في الملمات وهي مهبط الروح والطمأنينة، وهي متنزل الصبر والسكينة، وهي مبعث القوة واليقين، وهي معراج السمو إلى السماء، وهي التي تثبت الأقدام في المزالق وتربط على القلوب في الفتن 19 كما يجب أن يتمثّل فيه الإيمان العميق بشرف العلم والتعليم؛ حتى تتجلى ثمرة العلم يانعة عن طريق العمل، فمتى كان قوله مطابقا لفعله؛ حصلت الغاية، أما إذا جاء قوله مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ منه، ولا أن يقتدى به في علم؛ لأن المعلِّم – كما يقول الإبراهيمي- لا يستطيع أن يربي تلاميذه على الفضائل إلاّ إذا كان هو فاضلاً، ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان صالحاً فهم يأخذون عنه بالقدوة أكثر مما يأخذون عنه بالتلقين 20 . فالخلق صفة لابد للمعلم أن يحوزها؛ لأنّه بمثابة اللؤلؤة، ولا يستحسن أن يصيبها العرم؛
· ضرورة الاستزادة من العلم؛ بإكثار القراءة والمطالعة والبحث والتقصي والاستفادة من الجديد فمن النّصائح التي كان يوجهها للطلبة والمعلمين ...» وإن التعليم لأحدى طرق العلم للمعلم قبل المتعلم، إذا عرف كيف يصرف مواهبه وكيف يستزيد وكيف يستفيد، وكيف ينفذ من قضية إلى قضية، وكيف يخرج من باب إلى باب، فاعرِفوا كيف تدخلون من باب التعليم إلى العلم، ومن مدخل القراءة في إلى الفهم، وتوسعوا في المطالعة يتسع الإطلاع« 21 فالمعرفة أساس التحكم الرافد المعرفي، والإحاطة والإلمام بالموضوع يسهلان على المعلم حسن التعامل مع المتعلم، ومن ثم تحدث الاستجابة بين الطرفين، وتحصل الفائدة في نفسية المتعلم فالمعلم الناجح، من يوصل المعارف إلى غيره بأسلوب يبعث على الراحة والإصغاء؛ وينتج عنه الممارسة، والإذكاء، والمهارة فتتثبت الكفاءة؛
· الصبر على المكاره، والثبات في الشدائد والأزمات.
ثانيا: شروطه مع المتعلمين: ونوجز أهمها في: الشفقة على المتعلمين، والتحبب إليهم ورعاية الأطفال، وسياستهم بالرفق والإحسان باللين والتواضع، ومساعدتهم على قضاء حوائجهم إن كان ذلك باستطاعته، فهم بالنسبة إليه كالأولاد مع آبائهم حيث يقول » : فواجب المربي الحاذق المخلص إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، هو أن يتحبب إليهم ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسائلهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم ويحادثهم بلطف وبشاشة ويبسط لهم الآمال ويظهر لهم العطف، ما يحملهم على محبته« 22 كما ينبغي عليه دراسة ميول الأطفال ونفسياتهم ويكون المعلم بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم بعطفه، ويوزع عليهم بشاشته، ويزرع بينهم نصائحه.
· اتّخاذ أسلوب الترغيب في سياسة الأطفال ورعايتهم بدل أسلوب الترهيب، لأن الأول إيجابي؛ وأثره باق، والثاني سلبي؛ وأثره موقوت، لأنه يعتمد على الخوف ويربي الجبن، وبخاصة في المراحل الأولى للطفولة، يقول الإبراهيمي»: ليحذر المعلمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العنيفة التي كانت شائعة بين معلمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة« 23 ويبدو أن الإبراهيمي كان ينظر بعين المستقبل وبعين الأب الحنون، والأم الرؤوم، بدليل أن علماء النفس التربوي يقرون أن التسرب المدرسي راجع إلى العنف الممارس على المتعلم من طرف الأسرة، أو المدرسة، متمثلة في المعلمين، أو الإداريين 24 لذلك فإن الوسطية في التعامل مع التلميذ، هي وحدها الكفيلة بخلق الرغبة في التعليم وتحقيق غاياته.
3. طريقة التعليم وآداءاتها: من المقرر المعروف عند التربويين، أّنه لا يكفي أن تكون المادة العلمية مادة أصيلة نافعة، ولا أن يكون المعلم من أهل العلم المتحققين به، أو المتخصصين فيه؛ إذ لا يكفي ذلك حتى يكون لديه طريقة صحيحة لتوصيل العلم لمن يطلبه، وهذا ما عنيت به التربية أبلغ عناية، وقد تفطن الإبراهيمي لذلك قبل أن نعرفها اليوم في منظوماتنا التربوية، واهتم به، ونبه إليه المعلمين، فهو يرى أن الطريقة الناجحة لتربية النشء، ليست في الزخم الهائل من المعلومات، بل التي تستند إلى المنهج الصحيح، القائم على مبدأ الربط بين الهدف
والسلوك، والمزج بين المبادئ والنظريات والممارسات الفعلية للعمليات التعّلمية وتكوين الاتّجاه السلوكي الأخلاقي قبل الفهم واستيعاب المعلومات، ونجده قد عبر عن ذلك في غير ما موضع، منها ما أشار إليه حينما التقى في المدينة المنورة مع الشيخ ابن باديس؛ حيث اتفقا على جملة المبادئ في العملية التربوية والتعليمية » كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس
بالمدينة المنورة في تربية النشء ألَّا نتوسع له في التعليم، وإنّما نربيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا« 25 كما عبر عن أهمية التخطيط الجيد للتدريس في كثير من مقالاته، وإن لم يصرح بلفظ التخطيط إلا أننا نستشفه من كلامه كقوله» :إن التعليم لإحدى طرق العلم للمعلم، قبل المتعلم، إذا عرف كيف يصرف مواهبه، وكيف يستزيد، وكيف ينفذ من قضية من العلم إلى قضية وكيف يخرج من باب منه إلى باب، فاعرفوا كيف تدخلون من التعليم إلى العلم26« والفكرة الصحيحة، أو المنهج التربوي الفعال عند الإبراهيمي يبنى على:
· التخطيط للتدريس، وتجنب الارتجال في تقديمه؛
· استخدام العقل والفكر في الاستنتاج؛
· بناء النتائج على مقدمات وأسباب؛
· الاعتماد على التمثيل في القواعد والأصول؛
· الاهتمام بالجانب التطبيقي والعملي للنظريات والقواعد العلمية، وعدم ؛ التركيز فقط على الجانب النظري 27
· اتخاذ أسلوب التدرج في التربية والتعليم من مرحلة إلى مرحلة أكمل؛
· مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وإمكاناتهم الذاتية، وتلقينهم العلوم على قدر فهمهم؛
· الحرص على أن تكون التربية قبل التعليم، والتعليم من أجل تحقيق كفاءة.
4. المتعلم (الطالب): إذا كان من أركان التربية ومقوماتها المادة العلمية التي تُطلب وتدرس والمعلم الذي يوصلها، والطريقة التي بها توصل المعارف والمعلومات؛ فإن الطالب الذي يتلقاها ويحصلها هو الركن الرابع، وهو المقصود بعملية التربية والتعليم كّلها، وقد عني به إمامنا الإبراهيمي كما عني بسائر أركان التربية، بل عنايته به كانت أبلغ وأعمق؛ لعلمه أن المتعلم هو الثروة التي لا تضاهيها ثروة، كونها صمام أمانٍ للوطن، والوريد النابض للمجتمع، وها هو يخاطبهم قائلا » :إنّكم يا أبناءنا مناط آمالنا، ومستودع أمانينا، نعدكم لحمل الأمانة وهي ثقيلة، ولاستحقاق الإرث، وهو ذو تبعات، وذو تكاليف، وننتظر منكم ما ينتظره المدلِج في الظلام من تباشير الصبح« 28 وعناية الإبراهيمي بالمتعّلم تبدأ من المراحل الأولى؛ أي من الطفولة، فقد أدرك الإبراهيمي أنه لا تضيع أمة من الأمم حظوظ الطفولة والناشئة من الرعاية والعناية، إلا ويفوتها حظ الاستفادة من الرجولة، لأن هذه الأخيرة في صلاحها ونجاحها وفعاليتها، متوّقفة إلى حد كبير على نوعية الرعاية والتربية التي تُقدم إلى الناشئة، وتحقيق ذلك يعتمد على الطريقة التربوية السليمة التي أشار إليها، كمعرفة نفسياتهم وفطرتهم وميولهم وقدراتهم النفسية والبدنية، العقلية والروحية. كما أولى الإبراهيمي عناية كبيرة بالشباب واهتماما متزايدا ورعاية مكثفة به فالشباب طاقة من الطاقات الأساسية في الأمة، ومكسب من مكاسبها التي يجب أن تحفظ وتصان، وصدق حين قال: » شباب الأمة هم عمادها، وهم مادة حياتها، وهم سر بقائها، وخير شباب الأمة المتعلمون المثقفون، البانون لحياتهم وحياة أمتهم على العلم؛ وصفوة الشباب المتعلم المثقف هم المتشبعون بالثقافة الإسلامية العربية والمقدمون لها، لأّنهم هم الحافظون لمقوماتها، والمحافظون على مواريثها وهم المثبِتُون لوجودها، وهم المصححون لتاريخها، وهم الواصلون لمستقبلها بماضيها« 29 ويقدم الإبراهيمي لطلبة العلم جملة من المبادئ التربوية والخصائص التعليمية، التي بها يحصل العلم وترسخ المعرفة يمكن إجمالها في ما يلي:
· الانقطاع للعلم والتبتل إليه، وإنفاق الوقت الكثير في تحصيله والاجتهاد في تلقيه، وفي هذا الصدد يقول» : إنّكم لا تضطلعون بهذه الواجبات، إلا إذا انقطعتم لطلب العلم، وتبتلتم إليه تبتيلا، وأنفقتم الدقائق والساعات في تحصيله وعكفتم على أخذه من أفواه الرجال، وبطون الكتب واستثرتم كنوزه بالبحث والمطالعة، وكثرة المناظرة والمراجعة، ووصلتم في طلبه سواد الليل ببياض النهار30«
· الاستزادة من تحصيل العلم بالبحث والمطالعة وكثرة المناظرة والمراجعة بتقسيم الأوقات في ذلك؛
· العكوف على أخذه من أفواه الرجال وبطون الكتب، والرحلة في سبيله العلم للقاء العلماء والمشايخ، إذ يقول » إن أسلافكم كانوا يعدون الرحلة في سبيل من شروط الكمال فيه31«؛
· وجوب تقييد العلم ونسخ الأصول ...»كانوا يقيدون، وأنتم لا تقيدون وكانوا ينسخون الأصول بأيديهم ويضبطونها بالعرض والمقابلة، حرفاً حرفاً وكلمة كلمة« 32 فتقييد العلم وتدوينه أحفظ للطالب والقارئ، ولهما ولغيرهما أبقى؛
· وجوب التعرف على الجديد من العلم الواسع، والآراء المفيدة من الكنب؛
· الإخلاص في طلب العلم، وعدم التهاون في البحث؛ وفي ذلك يقول» : إن بيع القلم واللسان، أقبح من بيع الجندي لسلاحه33«؛
· الاستعداد القوي والهمة البعيدة، والنفس الكبيرة في طلب العلم، والإيمان به؛
· عدم الاعتماد على حلق الدروس وحدها، والاعتماد معها على حلق المذاكرة الفردية والجماعية؛
· عدم الاعتماد على الكتب المقررة لوحدها، والاعتماد على غيرها من الكتب المبسوطة الميسرة، موجها كل طالب إلى وجوب الاستزادة من روافد نافعة؛ وبذلك نجح أسلافنا؛ إذ كانوا »يرجعون بالرواية الواسعة، والمحفوظ الغزير وينقلون الجديد من العلم، والطريف من الآراء، والمفيد من الكتب34«؛
· الانقطاع عن الشواغل الفكرية والجسمية التي تحول دون التحصيل وتعيق الفهم وتذهب التركيز؛
· الابتعاد عند طلب العلم عن المناقشات الحزبية والخلافات السياسية.
5. المدرسة: لا يختلف اثنان على أن البشير الإبراهيمي، كان رائداً من رواد التوجيه التربوي وقدم للشعب الجزائري في أحلك أوقاته فرص التحرر من سلطة التعليم الفرنسي، وتجلى ذلك من خلال دروسه، ووعضه، مطالبا - كما طالب صديقُ دربه عبد الحميد ابن باديس– ببناء المدارس وقد حرص على وجوب إنشائها، والتعّلم فيها؛ إذ كان يرى أن العلم لا بد أن ينهل من المدارس وأن المدرسة وحدها القادرة على تحقيق غايات التعلم، وهي للمتعّلم خير مورد ومعين وقد ربط الحياة بالعلم، وألاَّ حياة لعلمٍ بلا مدرسة، بل إن » : الحياة بالعلم والمدرسة منبع العلم ومشرع العرفان، وطريق الهداية إلى الحياة الشريفة...أما إرواء العقل والروح، وإرضاء الميول الصاعدة بهما إلى الأفق الأعلى، فالتمسهما في المدرسة، لا في القصر، ولا في المصنع، ولو تباهت الأبنية المشيدة بغاياتها...لأسكتت المدرسة كلّ منافس« 35 فأساس بناء المجتمع، وتذكية العقول وتهذيب النفوس هي المدرسة تلك الجوهرة المتناسقة؛ لأن فيها نظام وترتيب والمتعلم فيها يبني نتائجه على مقدمات.
6. آراء الإبراهيمي، والتربية الحديثة: لا تعدو أن تكون المدرسة – في رأي العلامة الإبراهيمي - المعبر الذي يمر فيه الطفل من حياة المنزل الضيقة إلى الحياة الاجتماعية بأوسع معانيها، ولذلك يجب أن تتحول إلى مجتمع حقيقي يمارس فيه الطفل الحياة الاجتماعية، إنها ليست بناية فحسب، بل مجتمع حي يسهم في التربية بأوسع معانيها، وهذا ما ذهب إليه علماء التربية المحدثون حيث ألحوا على وجوب » العناية بالتربية الاجتماعية بالنسبة للناشئة؛ لأن المربين المعاصرين يعلقون عليها أكبر الآمال لضمان سعادة الفرد... ذلك لأنّ الفرد إنما يعيش للمجتمع وبالمجتمع، فهو أساس بناء الأمة 36 « وقد سبق العلّامة الإبراهيمي ما قال به أصحاب النظريات المعاصرة في مجال التربية والتعليم، بل ذهب إلى أبعد مما قالوه عن المدرسة والمتعلم، والعلاقة بينهما وبين المجتمع؛ إذ رأى بأّنها بنيان ينتج فن البناء، ومشكاة تغذي النشء بفاكهة العقل التي جذرها في التاريخ وعنانها في المستقبل، وأصلها ثابت، وهذا ما عبر عنه أحد التربويين الغربيين المعاصرين وهو ماثيو ليبمان (matthew lipman)حين قال» :
المدرسة هي ساحة المعركة؛ لأنّها أكثر من أي مدرسة اجتماعية أخرى... إن الفكرة المقبولة هي أن المدارس تعكس القيم المعترف بها في زمانها...ومن ناحية أخرى فإنها سوف تنزع في ظل مثل هذه الظروف إلى أن تكون مؤسسة محافظة بل تقليدية« 37 وإذا نظرنا إلى هذا الاعتراف نستشف منه دعوة إلى مدرسة تقليدية، بكلّ ما يجعل منها مدرسة تربوية، تعليمية، من تخطيط للعمليات التعلمية والتربوية، بالإضافة إلى بناء المناهج وإعداد الكتب، واختيار محتوياتها، بما يتلاءم وطبيعة المجتمع، واقتصاده وواقع حياته، وتاريخه...الخ. ولقد آثرت توضيح تفاعل عناصر التدريس –عند الإبراهيمي- باعتماد الترسيمة الآتية؛ وذلك من باب الاستئناس، أو الاستفادة والمنفعة.
¯ المجتمع
® المدرسة ¬
المعلم ¬ المادة العلمية ¬ طريقة التعليم ¬ المتعلم
¯ العملية التعليمية (التدريس)
(شكل (2
قراءة الشكل ( 2): إن العملية التعليمية عند الإبراهيمي أساسها المجتمع والمدرسة هي وجه المجتمع في حضارته، ورقيه، أو عكس ذلك، وهي تُبنى عن طريقه، أملا في أن تكون صورته ومنقذه من الظلام، والتخلف؛ فهي منه وإليه ولا تسمى المدرسة مدرسة، ما لم يكن هناك معلِّما ومتعلما، والعلاقة الجامعة بينهما، هي علاقة تربوية تعليمية، ولكي يكون هناك تفاعل وإنجاز تربوي، لا بد من توافر أمرين أساسيين هما: المادة؛ ونقصد بها النشاط التعليمي والمحتوى، ثم طريقة التعليم؛ ونعني بها: المنهاج، وكيفية تقديم المادة وعرضها على المتعلم
ومراعاة الكم بحسب الزمن، والمستوى العمري للمتعلم، ولكي تحصل الفائدة والكفاءة في المتعّلم، وجب على المعلِّم أن يَنظِّم العملية التعليمية (التدريس) وفق طبيعة المادة، وما تقتضيه من طرائق في تقديمها وعرضها، كلّ ذلك إنما يستهدف المتعلم، ليعود إلى المجتمع بذهنية مغايرة عن التي كانت حال خروجه من مجتمعه، موجهة إياه إلى الأحسن، والأرقى والأسمى، والأفضل، والأجمل والأقوى، كما عبر عن ذلك الإبراهيمي. فالتربية عنده ليست أمرا متفردا، إنما كلا متكاملا.
خاتمة:
إن اهتمام الشيخ الإبراهيمي بهذه الأصول والأسس المنهجية للعملية التربوية: من المعلم إلى المادة العلمية، إلى الطريقة والمنهج، إلى المتلقي؛ أي التلميذ والطالب، ليدلُّ على مدى النظرة السديدة، والفكر الصائب الذي يتمّتع به الشيخ؛ والذي جعله يضع اللبنة الصلبة لبناء العقلية المتحررة لدى التلاميذ والطلبة الجزائريين، فتمكن - طبعا مع أصدقائه في الحركة الإصلاحية - من تخريج جيل ونشء يؤمن بالحرية والاستقلال، كان هو الجيل الذي قاد الجهاد المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وحرر الوطن، كيف لا، وهو الذي آمن أن العلم يحدث الثورة
وأن الثورة تنجح بالرجال الأشداء، والمثقّفون الأكَفاء؛ علما، وخلقا، وفعلا، ولما تجّلت الحقائق عنده، واكتمل عقله، عمل جهده - منذ شبابه- في ضبط العملية التربوية؛ الهادفة إلى تكوين شباب المجتمع الجزائري؛ تكوينا يراد منه صون التراث، وبعث السيادة، وخلق التكافل، وتوحيد الصف، والثورة على كلِّ مستبد وبناء المجد، ويكفي الجزائر به فخرا، أنَّه علم من أعلامها، ونيشان بيان في تاريخها، ولؤلؤة في سمائها، كما لا يفوتني في هذا المقام أن أقدم بعض التوصيات للقائمين على شؤون التربية، أُوجزها في النقاط الآتية:
· التشجيع على دراسة أعمال العلامة دراسة معمقة، يراد منها استنباط
· الأسس التربوية والتعليمية
· حثّ الطلبة على تناول آثار الإبراهيمي في دراساتهم الأكاديمية، وفي الماجستير والدكتوراه
· تسليط الضوء على المنهاج التربوي الجديد، وموازنته بما دأب عليه أسلافنا في مراحل حياتهم التعليمية؛ بغية إلغاء الغث، وتثبيت السمين؛ إذ ليس المجرب كالمَنظِّرِ.
· إدراج نصوص نثرية وشعرية بنَّاءة، وهادفة في الكتاب المدرسي ولجميع الأطوار التعليمية، لأعلام الأدب الجزائري، شعره ونثره.
· تخصيص جائزة تحمل اسم العلامة في جواهر النثر، وبلاغة الكلم
وأخيرا لا يسعني إلا أن أشكر لكم سعيكم تنظيم الملتقى؛ لإحياء تراث العلاَّمة وأشيد بفضلكم؛ في غرس المبادئ الفهامة، دعوتم، فلبينا، واستضفتم ركب العلم فاستفدنا، سنَّة حميدة، في شامة مجيدة، نأمل أن تغذِّي العقول والقلوب، وأن لا يكون موضوعنا باعثا على اللغوب.
الهوامش:
-1 ع/ صالح بلعيد، في الأمن اللغوي، د. ط، الجزائر: 2010 ، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ص 96
-2 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، جم، تق: أحمد طالب الإبراهيمي، ط. 1 بيروت: 1997 ، دار الغرب الإسلامي، ج: 1، ص 132
. -3 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 1، ص 132
. -4 المرجع السابق، ص 135
. -5 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 249
. -6 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 249
. -7 المرجع نفسه، ج: 2، ص 123
-8 محمد البشير الإبراهيمي "إلى كتاب البصائر الكرام"، جريدة البصائر، السنة الأولى جانفي: 1936 ع: 2، ص 2
. -9 المرجع نفسه، ص 2
. -10 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 1، ص 192
. -11 المرجع نفسه، ص 192
. -12 المرجع نفسه، ص 283
. -13 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 260
-14 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 2،ص 128 بتصرف.
. -15 المرجع السابق، ج: 4، ص 160
. -16 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 261
-17 محمد البشير الإبراهيمي "إلى كتاب البصائر الكرام"، جريدة البصائر، السنة الأولى، جانفي: 1936 ع: 2، ص 2
. -18 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 273
-19 المرجع نفسه، ص 258 ، بتصرف.
-20 المرجع نفسه، ص 273 ، بتصرف.
. -21 المرجع نفسه، ج: 2، ص 119
. -22 المرجع نفسه، ج: 3، ص 288
. -23 المرجع نفسه، ج: 3، ص 268
.2012/04/ -24 أحمد سعودي، مستشار في التربية والتوجيه، لقاء أجري يوم: 26
. -25 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 198
. -26 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 268
. -27 المرجع السابق، ص 272
. -28 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 201
2 - 9 المرجع السابق، ج: 2، ص 196
. -30 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 306
. -31 المرجع نفسه، ص 202
. -32 المرجع نفسه، ص 202
. -33 نفسه، ص 9
. -34 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 202
. -35 محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 3، ص 258
-36 رابح تركي، أصول التربية والتعليم، د.ط، الجزائر: 1982 ، ديوان المطبوعات الجامعية، ص 198
-37 ماثيو ليبمان، المدرسة وتربية الفكر، تر: إبراهيم يحي الشهابي، د. ط دمشق: 1998 ، منشورات وزارة الثقافة، ص ص 16،15
أ.ولهة حسين - جامعة مولود معمري – تيزي وزو