فكر مالك بن نبي(32) نظريــة الأفكار
بقلم: نور الدين بوكروح - ترجمة: عبد الحميد بن حسان-
ما الذي يُحفِّزُ الشعوب على تجاوز حاجاتها العادية، والإضطلاع بالأمور العظيمة ؟ إنّ الشعوب تُحقق تلك الأمور مدفوعة بحصافة رأي الملك أو الحكومة أو النُّخب عندما تكون مشدودة إلى مَثَلٍ أعلى أو إلى العزم على تسجيل مرورها على كوكب الأرض. وسواء أكان ذلك من أجل الدفاع عن النفس (سور الصين)، أو من أجل تخليد الذكرى (الضَّرائح)، أو من أجل نيل رضا الله (المساجد والكنائس والمعابد)، فالشعوب العظيمة تعمد إلى تشييد بنايات جميلة، كمعجزات العالم، أو إلى تأسيس مؤسسات تعكس عبقريتها، مثل الجمهورية، والديمقراطية، أو الضمان الاجتماعي…
فالرسوم التي تعود إلى العصر الحجري الحديث، والفنون التي تركتْها الحضارات السابقة، كل ذلك يُعبِّرُ أولاً عن عقيدة، وعن أخلاقيات، وعن نظرة خاصة إلى الجميل والحقيقي. والأمر يتعلق عادةً بعقائد وهمية وبدائية يترجمها الإنسان بإنجازات عظيمة، مثل أهرامات مصر أو المكسيك. وعندما تضعف هذه العقائد أو تختفي فإن تلك الإنجازات يتوقف الإشتغال بها. أما الإنجازات المعاصرة فهي “لائكية” ، والأهم من ذلك أنها مُفِيدة، فلا يرتبط بها أي معنى دينيّ ولا أي رمز فضائي، ولا أية قيمة أخرى غير القيمة الجمالية أو التجارية.
إن بن نبي لم يكن مدفوعا بالحاجة إلى إضافة نظرية جديدة حول الأفكار عندما انكبّ على دراسة مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلاميّ، بل كانت تحدوه اعتبارات إجرائية وضرورة بيداغوجية تهدف إلى إيقاظ المسلمين. وقد لعب مفكرنا دور المعالج النفسانيّ لحضارة في طور الانحطاط ، وفي ذلك راح يحاول أن يعيد ربط الصلة بين المريض ووضعه النفسي، وبين وعْيه ولا وعْيِه. فبمعرفة أفكار وطنٍ ما أو حضارة ما، يمكن تفسير أحوالهما وفهم إنجازاتهما.
وعندما أراد بن نبي أن يُثْبِتَ أهمية الأفكار في حياة المجتمعات، وجّه كلامه للعالم الإسلامي قائلاً: ” إن أنشطتنا ليست مُتصوَّرةً، ولا مُنظَّمة، ولا مُخطَّطةً، ولا مُوَجَّهةً حسب نظامٍ مُوَجَّهٍ، أو مذهب أو فلسفة أو نظرية لأن في ذلك وسيلة لمراقبة مستوى النتائج الإيجابية، حسب نماذج ومعايير مُعترف بها لقياس الفعاليّة. إننا نظن أنه بإمكاننا أن نعمل دون حاجة إلى التفكير في عملنا. وبذلك اعتقدْنا أنه يمكن لنا أن ننتهج سياسة لا تعتمد على أية فلسفة، وأن نقوم بثورة دون أن تكون تلك الثورة مؤسسة على مذهبٍ ما. والأحلى من ذلك، أو الأمرّ، أننا نعتقد إمكانية الاكتفاء بالتقنيات المستوردة، سواء أكانت إجتماعية أو علمية، إقتصادية أو صناعية، وهذا دون أن ننتبه إلى أن العمل بهذه التقنيات يؤدي إلى نتائج مُتبايِنة بتبايُنِ العمر البسيكولوجي للمجتمع الذي نطبق فيه هذه التقنيات...”. (” مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، مسودة 1960).
كان بن نبي يعتبر الأفكار مُحدِّدات نفسية للسلوكات الفردية، أو هي الموجِّهات (drives) الروحية التي بدونها لا يمكن القيام بأي عمل. وإذا كان مفكرنا لم يستعمل المصطلح الإنجليزي، فإنه يلتقي معه في نفس المقصد، أي الدوافع والحوافز. وقد اعترف أتباع التيار الثقافي حديثاً بضرورة وجود بُعْدٍ روحيٍّ في الحوافز التي تُحرِّك الناسَ وتُحدِّدُ أفعالهم. وميكال دوفران Mikel Dufrenne الذي اقترح استبدال (الأنثروبولوجيا الثقافية) بـ (الأنثروبولوجيا النفسية) يؤكد في كتابه الشهير (الشخصية القاعدية La personnalité de base) أنَّ ” تصنيف الموجِّهات drives لا يجب أن تعترف بالطابع الروحيِّ للموجهات العضوية في الإنسان فحسْب، بل وكذلك يجب أن تفسح مجالاً لمُوجِّهاتٍ روحية… فنحن مستعدّون تمام الإستعداد لتسجيل التطلع إلى المُطْلَقِ ضمن المُوجِّهات الإنسانية، بل وقد يكون هذا الشغف هو أهمّ الموجِّهات إطلاق “(1).
وبن نبي يرى أنّ الفكرة هي قوة فيزيائية وهي إجابة عن الفراغ الكوني(le vide cosmique)في الوقت نفسه. إنه أول تفسير تبنَّاه إنسان الأزمنة الأولى حول وجوده في الكون الواسع والمُخِيف. فالكائن الخائف والمندهش يتمكن بهذا مِنْ معنى لحياته، وهو المعنى الذي سينتظم وجودُهُ حوله، والذي سيميل إلى تعميمه في محيطه. وبهذا العمل الفلسفي الإفتتاحي تبرز الظاهرة الإجتماعية إلى الوجود. فالإنسان الطبيعي l’homo-natura يتحوّل إلى إنسان عاقل l’homo sapiens مدفوعا بالفكرة التي تُعطي ضغطا لأفعاله ووِجْهةً لأفكاره، ومِنْ ذلك يتحول إلى إنسان مدنيٍّ، ثُمّ إلى مؤسِّسٍ لحضارة.
والفراغ الكوني الذي يتكلم عنه بن نبي هو ما يساوي “الخوف الكوني” (le peur cosmique ) عند شبنجلر الذي يعتبر ذلك الخوف ” أهمّ عُنْصُرِ إبْداعٍ مِنْ بين كل المشاعر الأولية: فالإنسان يُعْطيه أنضج وأعمق الأشكال والصور، ليس في حياته الواعية فحسب، بل وحتى في انعكاسات هذه الحياة من خلال الأعمال الثقافية المتعددة“(2). والشعور بالفراغ الكوني لم يستوْلِ على الإنسان البدائي وحده. فنحن نُصادفه اليوم تحت اسم الخشية والخوف من العَدَمِ، وكذا القلق، وهي مشاعر يُعبِّر بها الناس أحياناً في العصر الحديث عن عدم رضاهم، وهو ما يُعبِّر عنه ميرسيا إيلياد Mircea Eliade بـ ( الهَوَس الأنتولوجي obsession ontologique)(3). وعادةً ما يظهر هذا الشعور بمناسبة الكوارث الكبرى.
وكانت الأساطير في كل الثقافات هي أولى أشكال الإجابة عن الفراغ الكوني”. وقد تمثّلتْ وظيفتها في توفير أولى الحلول لِلُغْزِ الكون والحياة. والفضل يرجع لتلك الأساطير في قولبة خيال الناس وإعطائهم الشعورالأول بالهوية. وبمرور الزمن والتطور عُوِّضتِ الأساطير بالأديان، ثُمَّ الإيديولوجيات والنظريات العلمية. ويرى ميرسيا أنّ ” أهمّ وظيفة للأسطورة هي الكشف عن النماذج المثالية… فبالعيش تحت ظل الأسطورة يكون الخروج من الزمن الدنيوي والتأريخي إلى زمن مختلف في نوعه، زمن مقدس هو في ذات الوقت ابتدائي وممكن الرجوع مُطْلَقاً…(4)’’. ويُضيف في مكان آخر قائلاً: ” كل دين، ولو كان في منتهى الصّغر، هو أنطولوجيا: فهو يكشف عن كينونة الأشياء المقدّسة والوجوه الإلهية… والدين يؤسس عالما لا يفنى ولا يستعصي على الفهم… وبتقليد الأفعال المثالية الصادرة عن إله أو عن بطل أسطوريٍّ، أو برواية مغامراتهما يتحرر إنسان المجتمعات البدائية من الزمن الدنيوي ويلتحق بـ الزمن الأكبر أو الزمن المُقدَّس في جوٍّ ساحرٍ… إن الأسطورة عنصر من عناصر الحضارة “(5).
والأفكار تُحفِّز الجماعات الاجتماعية وتُعطي معنى لحياتها وتُلْهِمُ أفعالها. وهيجل(Hegel) يُشبِّه أثر الأفكار في الإنسان بأثر (الشغف)، ويقول: ” إنّ غاية الشغف هي نفسها غاية الفكرة…ولكي يُنْتِجَ الإنسان شيئا ما ذا قيمة فلا بدّ أن يكون لديه شغف… والشغف هو ما يسعى الإيديولوجيون والخُطب ذات النزعة القومية، وكذا الأخلاق والدين، إلى بثِّه في النفوس. فالفكرة مثلها مثل عطارد (Mercure) قائد النفوس، هي التي تقود العالم والشعوب في الحقيقة… إن الفكرة هي الحق، وهي الأبديّ، وهي القوة المطلقة. إنها تظهر في العالم ولا شيء يُضاهيها في جلالتها وفي بهائها’’(6).
إن الحالة الذهنية لدى الأفراد لا تخلق من عدم. ذلك أنهم عندما يولدون يأتون معهم بـ “صور ابتدائية” (archétypes) منقوشة في لا وعيهم. وهذه الصور تظهر في الأساطير، ثُمَّ في تصوّرات أكثر تطوُّراً كُلَّما شُحِذ الذكاء. ولما أراد بن نبي أن يُجسّد مكانة الأفكار في ذهنية الفرد وفي اللاوعي الجماعيّ لدى المجتمعات، لجأ إلى الإستعارة من عالم الموسيقى: ” إن عالم الأفكار هو قرصٌ يولد مع الفرد… وقرص كل مجتمع مُعبَّأ بكيفية خاصة، ثُمَّ يأتي الأفراد في تعاقب الأجيال ليُضيفوا نغماتهم الخاصة مثل تنغيمات النوتات الأساسية. وعالم الأفكار قرص له نوتاته الأساسية كذلك، وله نماذجه الكُلِّيَّة: إنها الأفكار المطبوعة...’’ ( “مشكلة لأفكار”).
وما يعنيه بن نبي بـ” الأفكار المطبوعة” هو ما يعنيه جاكوب بوركهارت Jacob Burckhardt بـ “الصور الأولية “، وما يعنيه يونغ Jung بـ “النماذج الكلية “. وإذا كان هذا الأخير قد طبقها في تفسير حالات العُصاب والأمراض النفسية، فإنّ بن نبي قد طبقها في فهم الأمراض الإجتماعية. كان مركز اهتمام الأول منصبا على الأفراد، والثاني كان منصبا على المجتمعات. الأول كان مُعالجا نفسانيا، والثاني كان أشبه ما يكون بـ (طبيب الحضارة). أحدهما كان ينظر منحنيا إلى شخص متمدد على أريكة، والآخر ينظر في حال مريض بحجم المجتمع. لكن شفاء العُصاب (عند يونغ) أو شفاء التدهور (عند بن نبي) لا يمكن أن يتحقق عند كليهما إلاّ إذا عاد جسم المريض إلى حالته الطبيعية.
يقول بن نبي في تبيين الرابط بين “الأفكار المطبوعة”(les idées imprimées) و “الأفكار المُعبَّر عنها(7) (les idées exprimées) :” عندما تمحي النماذج الكُلِّيَّة تُفْتَقَدُ غُنَّة الذات في خضم الجوق. والأفكار المُعبَّر عنها تسكت بدورها: فلم يبق لها شيء تُعبِّر عنه، وهي لم تعُدْ تستطيع أن تُعَبِّر عن أي شيء. والمجتمع الذي يصل إلى هذه الحالة يتفتت بسبب غياب الحوافز المشتركة… وهذا هو زمن الأفكار الميِّتة “. وبن نبي يُسْقِطُ هذه الإعتبارات فوراً على المجتمع الإسلاميّ الذي هو موضوع تحاليله، فيقول: ” وبعد أن عاش المجتمع الإسلامي لحظة ميلاد حضارته، لحظة أرخميدس (le moment d’Archimède) بالنسبة لأفكاره المطبوعة خلال العهد المحمدي وعهد الخلفاء الراشدين، ثمّ لحظة أفكاره المُعبّر عنها خلال عصور دمشق وبغداد الذهبية، صار هذا المجتمع في الوقت الحاضر يعيش مرحلة الصمت بأفكاره الميتة ” (“مشكلة الأفكار”).
وفي مسودة 1960 من هذا الكتاب يقول: ” إنّ لدى المجتمع الإسلامي أفكارا مُدْمَجَةً (idées intégrées) لا تستجيب لنماذجه الكُلِّيَّة التقليدية، وهو يستعير أفكارا أوروبية غير وفيّة لنماذج أوروبا. وينجم عن ذلك تدنّي في قيمة الأفكار المُكْتسبة، وهو الأمر الذي يُلْحِقُ ضرراً جسيماً بالتطوُّرِ المعنويّ والماديِّ للعالم الإسلاميِّ’’. ويُضيف في ملاحظة مسجلة في أسفل الصفحة: ” لو كان لا بدّ من الإختيار فإنّي أُفضِّلُ من جهتي فشلاً اجتماعيا ونقصا في الفعاليّة على الفشل المعنويّ’’.
إنّ يونغ استلهم نظريات الإيدولا Eidola من عند أفلاطون لكي يُعرِّف طبيعة النماذج الكُلِّية ووظيفتها. وكان أفلاطون قد تعرّف في فلسفته على عالميْن: عالم الأفكار وعالم الحواس، أو عالم الأشياء المرتبطة بالزمن وعالم الأفكار الأبدي. إن الأشياء تكتسب وجودها من الأفكار، وهي، أي الأفكار، تُنشِّطُها. وأفلاطون يُعبِّر عنها بصيغٍ غير مادّيّة مثل: الجميل، الخير، العالم الآخر، القدرة الخلاَّقة… إنه عالم الأكناه الأبدية، عالم نماذج كل الأشياء. إنها مبادىء وليست كيانات. إن مملكة الأفكار فوق كل تكوين، إنها العدالة بحد ذاتها والحقيقة بحدِّ ذاتها… إنه عالم غير مخلوق، ولا صيرورة له، وهو لا يموت، ولا يمكن إدراكه بالحواس، كما لا يمكن فهمه بالفكر الخالص.
وكان المذهب الهندي قبل أفلاطون يميّز بين مبدأين عامين هما: الكُنْه (بوروشا Purusha) والمادّة (براكريتي Prakriti). وقد رأى يونغ في أفكار أفلاطون (صوراً بدائية) هي بمثابة مخطط عام للسلوك البشري. وهو في هذا يبتعد عن فرويد الذي كان يرى في الدوافع النفسية تجلِّياتٍ للشهوانية (اللّيبيدو)” (8)، كما يختلف مع ألفريد آدلر (Alfred Adler) الذي كان يرى في تلك الدوافع تجلِّيات لـ “الحاجة إلى القوة “. أمَّا بن نبي فكان من جهته يُصِرُّ على القيام بالتمييز بين الفكرة الخالصة، أي النموذج الكُلِّي بالمعنى الأفلاطوني، والفكرةِ المُدْمَجَةِ، أي الفكرة المُحوّلة إلى مخطط ذهني لسلوكنا، والتي كان يريد لَفْتَ الإنتباه إليها.
وهو يضرب مثالا لذلك بقوله: ” الإسلام في أصله فكرة مُعَيَّنة تضمَّنَها القرآن وأوحى بها صافيةً، أو إنْ شِئْنا قُلْنا: فكرة في حالة نموذج كُلِّيٍّ. وهذه الحالة يُمثِّلُها الرسول (ص) وصحابته. لكنْ، مَنْ مِنَّا لا يلاحظ الفرق بين إسلام عُمَرَ مثلاً وإسلامنا المُعاصر؟. فلا شك أنَّ الإسلام في جوهره، أي باعتباره نموذجاً كُلِّياًّ، قد بقي كما هو. لكنَّ إدماجه في نظامٍ اجتماعيٍّ خاضع لظروف التاريخ ولعوامل التطور قد أحدث فيه تغييراً تدريجياًّ مِنْ جيلٍ إلى جيلٍ. فالفكرة المُدْمَجةُ تختلف إذاً عن نموذجها الكُلِّيِّ أو عن الفكرة الصِّرْفةِ. وهذا يعني أن النموذج الكُلِّيَّ يُحافظ على قيمته كفكرة صرفة، لكنّهُ يُوَلِّدُ أفكارا مُدْمَجَةً تحدث فيها تغييرات تحت تأثير التاريخ. و الواقع أن هذه التغييرات هي تغييرات في مواقفنا إزاء النموذج الكُلِّيِّ، وفي طريقة فهمنا وتأويلنا لفكرة مُعَيَّنة… إن الخُطة العامة لكل عمل اجتماعي هي الفكرة في حالة إدماجها، وليس في حالتها البدائية، أي أننا نتعامل مع الفكرة كما نفهمها ونؤوِّلها ونُدْمجها في سلوكنا “(9) (مشكلة الأفكار/ 19600).
ويعود الفضل في إعادة صياغة النظرة الأفلاطونية بلغةٍ حديثة إلى صاحب جائزة نوبل، الأمريكي جوناس سالك Jonas Salk الذي يرى أن في الفرد صراعا بين ما يُسمِّيه (الكائن) و (الأنا)، إذ يُمثل الأول ما يحمله الإنسان عند ميلاده، والثاني يمثل التأثيرات والتجارب التي يمرَّ بها. إنّ الكائن يُطابِقُ الكُنْهَ بالمعنى الذي ذهب إليه أفلاطون. وفي ذلك يقول جوناس سالك: ” إنّ الكُنْهَ يتضمّنُ النماذج الإفتراضية للسلوك… وهو موجود في الحقيقة مع أننا لا نستطيع تحديد بنيته وتكوينه الكيميائي… وإذا كان الكُنْهُ مُساوياً للسَّنَنِ الجيني (الوراثي)، فإنّ (الأنا) يساوي النظام الجسديّ في علاقاته بالنظام الجيني. إننا بهذا نُدْرِك العلاقة بين الكنه والأنا، وهي تُشبه العلاقة الموجودة بين النظام الجيني والنظام الجسديّ… وبما أنّ النظام الجيني (النموذج الجيني génotype ) يتضمن برنامج الإمكانيات في الجسم، والنظام الجسدي (النموذج الظاهريّ phénotype) يتضمن البُنى والميكانيزمات الضرورية لظهوره، فإننا نستطيع القول إنّ الكُنْهَ يتضمَّنُ برنامجه ويُشير إليه، وأنّ الأنا يُوَفِّرُ الوسائل الضرورية لظهوره. إذاً، فالنظام الجسديّ مرتبطٌ بالنظام الجينيّ والعكس صحيح “.(10)
وسعيا وراء فهم نفسية الأفراد لجأ يونغ إلى التاريخ لأنّ السلوكات الإنسانية لا يُحْكَمُ عليها بالحالة الذهنية الفردية وحدها، لكنها تتصل إلى حد بعيد بظواهر خارجة عن الشخص. ونظرا لكونه مسيحيا مؤمناً، وابن قسٍّ، فإن علم النفس عنده هو دراسة للإنسان من خلال نظرتين، إحداهما تعلو الأخرى، وهما: علم علاج الأمراض العقلية la psychiatrie ، والتاريخ. تلك هي السبيل المتمثلة في السعي إلى إثبات التأثير المتبادل بين تكوين التاريخ والمواقف الغالبة على النفسية الإنسانية تُجاه الأحداث، هذه السبيل هي التي مكّنَتْ يونغ من اكتشاف (اللاّوعي الجماعي) الذي يعطي الجماعات البشرية انسجامها و قواسمها المشتركة، وهي العناصر التي يتوارثها الأفراد.
إنّ الناس ذائبون على ترسيخ الفكرة التي أتاحتِ الإجابة عن المسعى الفلسفي على مرّ العصور. وصارت هذه الفكرة نموذجا كُلِّياًّ سيضطلع بمهمة إيجاد حوافز العمل. وبن نبي يرى أن كل نشاط إنساني مرهون بشرطين: كيف؟ ولماذا؟ وفي هذا يقول: ” إننا لا نتصرف اعتباطياًّ، لأن ذلك سيؤدي إلى استحالة القيام بالمهمة. وإننا لا نتصرف بدون سبب، فذلك سيجعل المهمة عبثاً. فالعمل لا يمكن تعريفه خارج مخطط يستلزم عنصراً فكرياًّ يمثل حوافزه وتدابيره الإجرائية، هذا بالإضافة إلى حدوده المرئية، وهي (الإنسان ووسيلته). (آفاق جزائرية، 1964 Perspectives algériennes. ).
تلك هي الفرضية الأولى التي استنبط منها أول نتيجة: فعوامل العمل تنتمي إلى ثلاث فئات: فئة الأشياء، وفئة الأشخاص، وفئة الأفكار. وهذه العوامل تُشكِّلُ بذاتها ثلاثة عوالم نجدها في تطور الحياة البشرية كما نجدها في تطور المجتمعات. وبن نبي يطلق على ذلك اسم (الأعمار الثلاثة للطفل أو للمجتمع)، وهي: العمر الذي ندخل فيه إلى عالم الأشياء، والعمر الذي ندخل فيه إلى عالم الأشخاص، والعمر الذي نصل فيه إلى عالم الأفكار. وهو يقول: ” إنّ الطفل في مسار إدماجه الإجتماعي يمر بثلاث مراحل بالفعل: عالم الأشياء الذي يصادفه عند ميلاده ( الرضّاعة، المصَّاصة، والأشياء التي يضعها في فمه بطريقة غريزية)، وعالم الأشخاص الذين يكتشفهم في صورة وجه أمه وأبيه وإخوته وأخواته، ثُمَّ عالم الأفكار الذي يصل إليه بواسطة المدرسة والشارع’’.
ويُبَيِّن بن نبي أنَّ هذا المسار هو مسار بيولوجي ونفسي في آنٍ واحدٍ: فاكتشاف الأشياء يتمّ بامتلاكها، والعلاقة هنا غذائية، واكتشاف عالم الأشخاص يتمّ بالموازاة مع عملية ربط العلاقات الوجدانية، ثُمَّ الاجتماعية، بين الطفل وهذا العالم. وإذا ما بلغ الطفل سن الثامنة عشرة يشرع في ولوج عالم الأفكار والاندماج التدريجي في عالم الثقافة الذي ينتمي إليه. ومادام الطفل والمجتمع لم يبلغا المرحلة الثالثة يبقى من الصعب على كليهما أنْ يصوغ أحكاماً بصفة مستقلَّة باستنباطها مباشرة من وضعيةٍ مُعَيَّنة.
ومُفَكِّرُنا يرى أنَّ هناك حالاتِ تَنَاظُرٍ بين النمو العقلي لدى الفرد والتطور النفسي في المجتمع الذي يمرّ هو كذلك بثلاث مراحل. وبُغْيَةِ تجسيد هذا التناظر يضرب بن نبي مثالاً بالمجتمع العربي قبل الإسلام: فقد كان هذا المجتمع في الأصل عبارة عن جماعة تعيش في عالم ثقافيٍّ يتَّسم بكون المعتقدات مُركَّزةً على أشياء جامدة، وهي الأصنام المعبودة في الجاهلية. إنه مجتمع في مرحلة الأشياء. وعالم الأشخاص في هذه الجماعة مُخْتَزَلٌ في القبيلة، أما عالم الأفكار فهو محدودٌ بالمُعلَّقات(11)، وهي تلك الأشعار الملحمية التي تُشكِّلُ التراث الثقافي العربي آنذاك.
وقد دامت هذه الصورة الجامدة قرونا حتى ظهرتْ، وبشكلٍ مُفاجىءٍ، فكرة في مغارة ـ غار حراء ـ حيث كان محمد (ص) متعوِّداً على الانزواء في فترات مُعَيَّنة من السنة (شهر رمضان) لكي يتأمّل. ثُمّ كان نزول أولى آيات القرآن الكريم ( اقرأ باسم ربك ) على ذلك الأمِّيِّ المُضْطرِبِ الذي سيُكلَّفُ بعد ذلك بتليغ الوحي لشعبه. وهكذا تشكَّل مجتمع جديد خلال سنواتٍ معدودة حول هذه الرسالة، وبذلك كانت فاتحة مرحلة تاريخية جديدة. فقد خرج المجتمع العربي البدائيّ من حدوده القَبَلِيَّةِ وراح يشكِّلُ عالم أشخاصه بالتدريج حول الفكرة الإسلامية. ومن كل ذلك نشأت حضارةٌ ستكون لها مكانة في القارات المعروفة آنذاك في مُدَّةِ ثلاثين سنة فقط.
إنَّ التاريخ البشريّ ما هو إلاّ نتيجة للنشاط المُنسَّق الذي يجري في عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء، وهي العوالم التي ينبغي أن نضيف لها عاملاً رابعاً خصّص له بن نبي كتاباً كاملاً، وهو (ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية)، حيث يقول: ” إنّ وحدة هذا النشاط ضرورية، وكذلك انسجامه مع غاية مُحددة تتحقق في صورة حضارة. وهذا الشرط يفرض، كنتيجة منطقية، وجود زمرة رابعة متكونة من شبكة علاقات اجتماعية ضرورية… إنّ المجتمع ليس مجرد جماعة من الأفراد، بل هو اتحادهم في مصير معيّن بغرض الاضطلاع بمهمة معينة قياسا بغاية مُعيّنة. ونشاط المجتمع ليس مجرد مصادفة بين الأفراد والأفكار والأشياء التي تُشكل هذا المجتمع، لكنه ذلك التركيب الحادث بين هذه الزُّمَرِ الاجتماعية على نمطٍ يجعل تركيبها ممثلاً ـ بوجهته وبقوته ـ للتحوُّلِ أو، كما يُقال، لتطور ذاك المجتمع’’.
ويبدو أن بن نبي استلهم من توينبي الذي يرى أنَّ ” المجتمع هو نتاج العلاقات بين أفراده. وهذه العلاقات تأتي من المصادفة بين حقول النشاط الفردية. والمصادفة تتيح اللقاء بين كل حقول النشاط الخاصة في حقل مُوَحَّدٍ نُسمِّيه (مجتمعاً)… فالمجتمع هو الشبكة الكاملة للعلاقات بين الكائنات البشرية. ونتيجةً لذلك فمُكَوِّنات المجتمع ليست هي الكائنات البشرية، بل هي العلاقات الموجودة بينها’’(12).
إنّ كتاب ” مشكلة الثقافة” هو الكتاب الذي أبرز فيه بن نبي لأول مرة قيمةَ الزُّمَرِ الثلاثة التي ربط بها فاعلية؟ الرابطة الشخصية الممكنة بين الأشخاص وتلك الزُّمَرِ. وهو يضرب لنا هذا المثال: ” إنّ تفاحة نيوتن لم تتحول إلى نظرية الجاذبية العامة بدون شرط، ولعبة الماء في فيلاَّ إيست jeux d’eau de la villa d’Este لم تكُنْ لتكون مصدر إلهام لأجمل التآليف الموسيقية خلال العهد الرومنسي… فتركيب العناصر الثقافية يتطلب إيجاد الرابطة الضرورية بين الفرد والعوالم الأربعة التي ذكرناها “. وهذه الرابطة تتحقق بفضل الأخلاقيات.
ويؤكِّد بن نبي في هذا الكتاب نفسه على أنَّ ” القيمة الثقافية للأفكار والأشياء متعلقة بطبيعة الرابطة التي تربطها بالفرد. فنيوتن راح يُسائل التفاحة بدلاً من أنْ يأكلها لأنه كانت لديه رابطة بعالم الأشياء، وهي رابطة تختلف تمام الاختلاف عن الرابطة التي كانت لدى جَدِّه في القرن 6 م “. وفي نفس السياق سجل مفكرنا هذه الملاحظة في كتاب ” ميلاد مجتمع” : ” إنّ غِنى المجتمع ليس بكمية الأشياء التي يمتلكها، بل هي في خلاصة أفكاره “ . وهو يُطْلِق على ذلك مصطلح ” الثروة الاجتماعية richesse sociale ” لكن هذه الثروة لا تكفي وحدها: “إنّ فعاليّة الأفكار متعلقة بشبكة الروابط الاجتماعية. والنشاط المنسق للأشخاص والأفكار والأشياء لا يمكن تصوُّرهُ إلاّ بروابط ضرورية. وكُلّما كانت شبكة تلك الروابط وطيدة كان ذلك النشاط المنسق فعَّالاً “.
وهكذا يتَّضح أنَّ العلاقة بين الأفكار والنشاط تكتسي ثلاثة وجوه: الوجه الأخلاقي بالنظر إلى عالم الأشخاص، والوجه المنطقي بالنظر إلى عالم الأفكار، والوجه التقني بالنظر إلى عالم الأشياء. والأفكار تؤثر في الناس حسب درجة حافزيتهم. وكُلّما كانت الفكرة تميل إلى المُقَدَّسِ كان تأثيرها في الإنسان كبيراً. يقول بن نبي : ” إن سلطة الأفكار وقدرتها على التغيير والدوام مرتبطان بالأصل القداسي أو الدّنيويّ للمحيط الثقافي المتولِّد في المجتمع الجديد. والواقع أنه لا وجود لمحيط دنيوي صِرْفٍ أصْلاً لأنه لا يستطيع إتاحة حوافز ذات قوة كافية لضمان السير الحسن لمجتمع حديث الوجود… فالوضعُ الجديد يبحث دوماً عن قيمٍ مُقَدَّسةٍ’’. (“مشكلة الأفكار”).
مراجع
1) عن ( الشخصية القاعدية : مفهوم اجتماعي La personnalité de base : un concept sociologique)، دار النشر PUF، باريس 1972.
2) أ. شبنجلر O.Spengler، ( أُفول الغرب Le déclin de l’occident، ج1، ترجمه عن الألمانية محند تازروت.
3) عن ( المُقَدَّس والدُّنيويّ Le sacré et le profane)، دار النشر Gallimard، باريس 1965.
4) ( مظاهر الأسطورة Aspects du mythe).
5) عن ( أساطير، أحلام وأسرار خفيّة Mythes, Rêves et Mystères)، دار النشر . Gallimard، باريس 1972.
6) عن ( العقل في التاريخ La raison dans l’histoire).
12) استخدم ابن نبي هذا المفهوم لأول مرة في كتاب (الظاهرة القرآنية).
8) مِن المفيد أنْ نعرف أنَّ فرويد سليل أسرة منتمية إلى فرع من فروع اليهودية، وهو الحاسيديم (Le hassidisme) الذي هو حركة ظهرت في القرن 18 بتحريض من ساباتاي زيفي Sabbataï Zeviالذي كان يُنْظر إليه على أنه مسيح جاء لكي يُحْيِيَ المذاهب المسماة معتقدات الكابالا doctrines kabbalistiques. وقد انتهى به الأمر إلى الدخول في الإسلام. وجاء وريثه الروحي يعقوب فرانكJacob Franck ليُلْفِتَ الانتباه إلى المشاكل الجنسية وراح يُروِّج أنَّ نجاة الإنسان تأتي من الإفراط في الذنوب، وهو يقول: ’’ لقد جئْتُ لأُخَلِّص العالم من كل القوانين والتدابير المعمول بها إلى حدِّ الآن’’. ومن جهة أخرى أدلى أحد المقرّبين من فرويد، وهو جازا باك دي سوراني Back de Surany بشهادة مفادها ان فرويد ’’ كان يعتبر نفسه دوما مُلْحِداً، لكنه كلّمني مراراً عن وجود ( وعيٍ أعلى super-conscient) يتواصل الإنسان بواسطته بالمبدإ الأبدي. وهو لم يتحدث أبداً عن ذلك في أعماله. (عن: ’’أتعرَّف على فرويد’’ بقلم ماريان كوهلر Mariane Kohler، دار النشر Walaffe باريس 1968).
9) لقد انصرف بن نبي في الصيغة النهائية لـ “مشكلة الأفكار” عن مفهوم “الفكرة المُدْمجة” الذي استبدله بمفهوم “الفكرة المُعَبَّر عنها” وهي مُساوية ل”لفكرة المطبوعة” التي أخذت مكان (النموذج الكُلِّيّ).
10) عن ( مَنْ سيبقى على قيد الحياة؟ )، دار النشر Fayard، باريس 1978.
11) إنها عشر قصائد مكتوبة بماء الذهب على طنافس ثمينة عُلِّقتْ على ظهر الكعبة من أجل تخليدها. وكانت القبائل المتناحرة على الدوام تلتزم أحيانا بهدنة تلتقي خلالها في سوق عكاظ من أجل التباري بالشعر مثلما نرى في الألعاب الأولمبية. وكانت القصيدة التي يكون الإجماع على تفوّقها تُعلّق على ظهر الكعبة.
12) عن (التاريخ: مقال حول التأويل L’Histoire : Essai d’interprétation)، دار النشر Gallimard، باريس 1951.
المصدر: كتاب "جوهر فكر مالك بن نبي"، منشورة دار النشر سمر سنة 2016