مالك بن نبي (5) النزعة الأفريقية-الآسيوية

بقلم نورالدين بوكروح - ترجمة عبدالحميد بن حسان

أين كان مالك بن نبي في نوفمبر 1954 عندما دخلت الجزائر في أهمّ مرحلة من تاريخها المعاصر بتفجير إحدى أعظم ثورات القرن العشرين؟. يتضمن كتابه “وجّهة العالم الإسلامي” الصادر في سبتمبر من نفس السنة ملاحظة يشير فيها إلى” سفر إلى المشرق منذ مدة قصيرة“. إنه يقصد مصر بدليل أنه ذكر حضوره الحفل العسكري الذي أقيم في 02 جويلية 1954 في القاهرة، وذلك في ” النزعة الأفريقية-الآسيوية” الذي صدر في شهر اكتوبر 1956 في العاصمة المصرية.

إضافة إلى هذا، توجد صورة مؤرخة في جويلية 1954، وفيها يظهر بن نبي رفقة الجنرال نجيب والعقيدين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وهم قادة حركة الضباط الأحرار التي قامت بانقلاب ضد النظام الملكي عامين قبل ذلك. وقد وجدت في الأرشيف الذي تركه مالك بن نبي مراسلات مع رفيقه، المهندس الفلاحي صالح بن ساعي، والشيخ العربي التبسي، والشيخ عبد الرحمن شيبان، والشيخ خير الدين، وهي مراسلات تُثْبِتُ أن الكاتب كان في لوا كليري (نورماندي) Luat-Clairet (Normandie) خلال شهر نوفمبر 1954.

وكان 11 فيفري 1955 هو تاريخ نشر آخر مقال له في العهد الاستعماري، وذلك في جريدة « La République algérienne » تحت عنوان “رسالة مفتوحة إلى بورجو”(Borgeaud ) أسبوعا بعد سقوط حكومة منديس فرانس Mendès-France . والمقال يتضمن انتقادا لاذعا لبورجو الذي كان ركيزة من الركائز  الاقتصادية للاستعمار في الجزائر، والذي كان يعارض السياسة المتفتحة التي انتهجها بيار منديس فرانس، الزعيم الاشتراكي الذي كان بورجو من مُدبِّري سقوطه.

ويُستفاد من مذكراته الشخصية أنه، في جويلية 1954، وبمناسبة سفره إلى مصر لأوّل مرة، كان قد زار السفارة الهندية بالقاهرة لكي يعرض على السفير مشروع كتاب يعالج مسألة “النزعة الأفروآسيوية”. يقول: “كان السفير موافقا على أن تتكفل حكومة بلاده بنشر الكتاب بعد الفراغ من تأليفه“. وقد بدأ الكاتب في تحريره بتاريخ 11 أكتوبر 1955، وكان ينوي إعطاءه عنوان” النزعة الأفروآسيوية ، لمحة نظرية عامة”. واحتوى المخطط الأولي للكتاب على مقدمة  وثلاثة أجزاء وخاتمة. وجاءت عناوين الأجزاء كالآتي :1 ـ داخل الأزمة.  2 ـ الوجود الآلي للنزعة الأفروآسيوية.  3 ـ عمل النزعة الأفروآسيوية. الإهداء قُدِّمَ للرئيس جواهرلال نهرو بهذه الصيغة:“تحية إلى رجل السلام وبطل اللاّعنف“. أمّا التمهيد فقد أُرِّخ في 03 ديسمبر 1955 وتضمَّن عبارة قالها الفيلسوف نيتشه وهي “اكتُبْ بالدم تُدْرِكْ أنَّ الدَّمَ روحٌ” .

ويُستَفاد من مصدرٍ آخر، وهو “ملاحظة حول حياة مالك بن نبي”  لصالح بن ساعي، أنَّ الكاتب كانت له مراسلات منتظمة مع السيد نهرو الذي كان قد دعاه سنة 1955 إلى الهند لكي يُقَدِّم “النزعة الأفروآسيوية”. يقول صالح بن ساعي في هذه الملاحظة: “في أفريل 1956 قرر مالك بن نبي أن يسافر إلى الهند تلبيةً لدعوة وُجِّهَتْ له، وطلب مني أنْ أُرافقه. اتجهنا إلى القاهرة، وهي المرحلة الأولى من سفرنا… وبسبب ظروف خاصة قرر أنْ يُلغي سفره إلى الهند وأنْ يُقيم مؤقَّتا في القاهرة”.

ومالك بن نبي نفسه يؤكد هذه المعلومة في النسخة الأصلية، باللغة الفرنسية، لكتاب “الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة”، حيث يُستفاد منه أن الكاتب كان ينوي أنْ يؤلف كتابه سنةً قبل انعقاد مؤتمر باندونغ الذي تم عقده في أفريل 1955. يقول: “إنّ فكرة تأليف هذا العمل خامرتني قبل مؤتمر باندونغ. وقد فاتحْتُ في هذا الموضوع الممثِّل الديبلوماسي لإحدى الدول الآسيوية الكبرى، وكان ذلك تحديداً في جويلية 1954. وتناول الحديث بيننا الدراسة التي أنوي القيام بها حول الشروط العامة لقيام جبهة مُحايدة مستقلة عن الكتلتين“(1).

وقبل انعقاد مؤتمر باندونغ تشكلت المجموعة العربية-الآسيوية خلال المناقشات التي جرت في هيئة الأمم المتحدة حول استقلال أندونيسيا سنة 1945. وقد وصل عدد أعضاء هذه المجموعة سنة 1949 إلى تسعة عشر عضواً. واجتمعت في كولومبو في أفريل سنة 1954 من أجل تسطير مبدإ عقد مؤتمر أفرو آسيوي.

وقد تبيّن سنة 1955 أن التوازنات العالمية بدأت تختلّ: فقد دخل العالم الثالث بقوة في لعبة السياسة العالمية بانعقاد مؤتمر باندونغ  بحضور وجوه شهيرة من العالم الثالث، من أمثال نهرو، جمال عبد الناصر، شو آن لاي، سوكارنو… وكان الاجتماع في حدِّ ذاته حدثا هاما ومؤثرا. فلأول مرة في التاريخ تجتمع القارتان الأكثر كثافة سكانية في العالم من أجل رسم خارطة طريق لمواجهة القوتين العظميين التي نشبت بينهما الحرب الباردة. وكانت أوروبا ترى أن هذا المؤتمر هو حصار من صنع الاتحاد السوفياتي. فلصالح من سترجح الكفّة؟ سيكون ذلك لصالح الحياد أوعدم الانحياز.

أمّا مالك بن نبي فكان يرى أن هذا الحدث ليس فرصة لتأسيس كتلة ثالثة فحسب، بل لتأسيسحضارة أفروآسيوية. لقد وجد في هذا الوضع مجالا لإمكانية تطبيق أفكارالعولمة التي انبثقت عن كتابه السابق ” وجهة العالم الإسلامي”. ومن أجل ذلك لم يُفَوِّت الفرصة واسترسل قائلا: “لم يَعُدْ بالإمكان تسيير شؤون العالم بواسطة علم حديث يضع الإنسانية في عصر الذرة، وضمير من القرون الوسطى يدّعي إبقاءها في إطار البُنى الخاصة التي أدّت إلى ظهور الاستعمار والقابلية للاستعمار“. فالقفزة التي يجب القيام بها يجب أن تنطلق من الجانب التقني باتجاه الجانب الأخلاقي.

وعندما لاحظ أنّ عدد البلدان الإسلامية المشاركة في مؤتمر باندوغ هو أربعة عشر بلداً، تبادرت إلى ذهنه فكرة أنّ الإسلام يمكن أن يلعب دوراً في الوضع الجديد، فكتب: “لقد تبيّن أن الإسلام هو الجسر الرابط بين الأجناس والثقافات، وهو العنصر المُبلْوِر والأساسي لإحداث التوازن في إنشاء حضارة أفروآسيوية حاليا، وإنشاء حضارة عالمية مستقبلاً“. هل يتعلق الأمر بالبحث عن توجّه عام للإسلام؟  لقد وجد مالك بن نبي هذا التوجّه في أحداث تلك الساعة بالذات: فإنّ العلاقات الدولية المتمخضة عن الحرب الباردة أعطتْه فرصة لإثبات قدراته كخبير جيوسياسي ذي طراز عالمي.

صدر هذا الكتاب الذي هو من نفس طبيعة “وجّهه العالم الإسلامي” بالقاهرة في نوفمبر 1956 بإهداءٍ موجّه إلى الرئيس جمال عبد الناصر، “الرجل الذي تجسَّدتْ فيه ثورتان، ثورة سياسية وثورة نفسية، وهو يمثل بزوغ فجر جديد للتسيير التقني الذي انتزع لواء التاريخ من أيدي التسيير الديماغوجي“. والكتاب يتكوّن من توطئة موجزة ومؤرخة في 06 نوفمبر 1956، وتلي ذلك مقدمة وثلاثة أجزاء عناوينها: الرجل الأفروآسيوي في عالم الكبار (ويتضمن ثلاثة فصول)، بناء النزعة الأفروآسيوية (ويتضمن ستة فصول)، رسالة النزعة الأفروآسيوية (ويتضمن ثلاثة فصول). وقد صدرت النسخة العربية لهذا الكتاب في شهر ديسمبر، وفي بدايتها تمهيد بقلم الرئيس المصري الأسبق أنور السادات.

وفي مطلع الكتاب نجد إدانة للسياسة الأوروبية يقول فيها الكاتب: “لا شك أنّ العالم عاش منذ قرنين تحت سيطرة الأمبراطورية الأخلاقية والسياسية الأوروبية. وإنّ المشاكل التي لم يوجد لها حلّ، لا بالسياسة ولا بالحربين العالميتين، هي نتاج السيطرة التامة التي فرضتها أوروبا على شؤون العالم. فبُؤرة الأزمة توجد في الضمير الأوروبيّ نفسه وعلاقته بمأساة الإنسانية. وينجرّ عن هذا أنّ مصدر الأزمة آتٍ من كيفية التعامل مع المشاكل أكثر مما هو آتٍ من طبيعة تلك المشاكل، وأنّ الأمر لا يتعلّق بأزمة وسائل بل يتعلق بأزمة أفكار. فلا يمكن أن تكون السياسة فعالة ما لم تكن قائمة على تصوّرٍ مُعيَّنٍ للنظام البشريّ“. ومالك بن نبي يستشرف إمكانية وجود ديناميكية بين القارات ويتمنى أن تكون بداية الاندماج العالمي.

وعند قراءتنا للكتاب ندرك أنه ألَّفه على عجل، وفي حالة غليان تشبه الحمّى. وهو غني بالمراجع، والأحداث، والملاحظات، والوثائق التي كان بإمكانه الاستغناء عنها. ويتبين من ذلك أن الرجل كان يعيش لحظة في عمر التاريخ يرغب في تجاوزها إلى الاتجاه الذي يتمناه ويريده، ويعتقد أنه بالإمكان تحقيق تلك النقلة، بل من الضروري تحقيقها. إن الكاتب يبدو مدفوعا إلى هدفه بدافع قويّ جدًّا، ونحن ندرك إحساس المفكر الجياش وهو يرى أمام عينيه فرصة سانحة لتحقيق عظائم الرؤى التي فكر فيها كاتبنا صاحب النظرة المتجاوزة لحدود ما يراه غيره ولحدود الاستراتيجيات المعمول بها في العالم: إنه يشبه ماركس وهو يعيش لحظات تأسيس الرابطة الاشتراكية الدولية، أو أيام الثورة الفرنسية سنة 1848.

كان العالم بعد الحرب العالمية الثانية وظهور ميثاق الأطلنطي يعتقد أنه داخلُ إلى وضع دولي جديد. يقول مالك بن نبي: “لكن بعد مرور الخطر، اكتفوا بالتموقع على أنقاض الماضي… ففي 1945 وجد العالم نفسه في ظل نفس الأوضاع التي كان عليها سنة 1919… و(العالم المتحضِّر) الذي لم يُجْرِ أيَّ تعديل على نظرته إلى عالم الاهالي (الأنديجانا) لا يمكن له أن يُعدِّل خطَّه السياسي تجاه ذلك العالم. والواقع أن ما تكرر بين 1919 و 1945 ليس إعادة للتاريخ، بل هو محاولة من العالم الغربي إعادته لصالحه… والساحة الدولية بكاملها تحت سيطرة (إرادة القوة) التي لازمت حضارة القرن العشرين. إنها قاعدة من قواعد النفسية الغربية، قاعدة تُجسِّد التأخر الأخلاقيَّ لدى الإنسان الغربي… إنَّ أوروبا التي اخترقت آفاق العالم بتقنيتها التي تُحتِّم عليها التعايش مع الغير والجوار، عادت أدراجها، بسبب أخلاقياتها المتردية، إلى قواعدها الإيديولوجية الاستعمارية الأولى… إنَّ إرادة (الكبار) المتجسدة في حق الفيتو الذي تحظى به في المناقشات الدولية، ما هي إلاّ تيار معاكس لمسيرة التاريخ“.

كان مالك بن نبي على وعي بالتفاوت والاختلاف الموجود بين البلدان المشاركة في مؤتمر باندونغ. وفي هذا يقول:”لا يمكن تحقيق مركّب واحدٍ من هذه العناصر الحاضرة في باندونغ ما لم تتوفّر شروط التوافق والتوازن، وذلك هو العامل الذي يؤدي إلى خلق الظاهرة البيوتاريخية phénomène bio-historique. ويبدأ الكاتب بنفي إمكانية قيام نزعة أفروآسيوية مرتبطة بمعطيات الجنس أو اللغة. فالحضارات لا تُؤسَّس على تلك المعطيات، ولا حتى على الأوطان. أما الثقافة والمعطيات الجغرافية فتلعب دورا كبيرا. وهكذا راح الكاتب يبحث عن قواعد النزعة الأفروآسيوية رافضا منذ البداية الانطلاق من الحقد على الاستعمار والغرب. يقول: “لا يتعلق الأمر باجتثاث العالم من احتقار الكبار ووضعه بين يدي أحقاد الصغار…” وهو يعتقد أنه وجد تلك القواعد في مبدإ اللاَّعنف الذي اقترحه غاندي.

ونظرا لأنّ كلّ الديانات كانت ممثلة في مؤتمر باندونغ، فإنّ مالك بن نبي يعتقد أنّ “هذا التنوع يمكن أن يوفِّر العناصر الضرورية لإقامة أساس قويّ للسلام وغرس قواعد روحية وتكنولوجية لحضارة الإنسان الأفروآسيويّ“. وحسب اعتقاده فإنّ النزعة الأفروآسيوية ليست غاية في حدّ ذاتها:  “إنها ليست إلاّ مرحلة ضرورية ودرجة أولى في بزوغ عالم يشمل كوكبنا كله… إنها بشكلٍ ما مرحلة باتجاه العولمة… إنَّ القوة التقنية صغّرت العالم، وينبغي الآن أن نجعل السكن في هذا العالم أمراً ممكنا“.

وهو يستبعد فكرة أنّ هذا التجمع الذي يضمّ تسعة وعشرين بلدا بمليار ونصف نسمة قد يؤدِّي إلى ظهور تكتُّلٍ يهدد أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كتبت الصحف في ذاك الوقت عن هذا الخطر ما مفاده “أنّ الجميع يعرف ما سيقع حتما بين آسيا والغرب، أو بين الإنسان الأصفر والإنسان الأبيض… والعالم كله يعرف أن أخطر أزمة تهدد مصير سكان الأرض قد اقتربت… وتتمثل في تشكيلة أفروآسيوية موجهة ضدّ الغرب“(2) .

ولِعِلْمِهِ بخطورة هذه الأحكام، بادر مالك بن نبي بتقديم نظرة أخرى بقوله: “إن الأفروآسيوية، بكونها تعبيرا عن خصوصيةٍ مُعَيَّنةٍ، يمكن أن تُؤَوَّلَ على أنها استبداد متنامي مثلما يحدث لخصوصية الإنسان العنصرية أو القومية. لكن بنية النزعة الأفروآسيوية إيديولوجياًّ لا تترك مجالاً لمثل هذا التأويل. ذلك أن موقع هذا الكيان في ملتقى التيارات الروحية المختلفة، وخاصة منها الإسلام والهندوسية، هذا الموقع يمنع من تحوّله إلى إيديولوجيا مُوحّدة لدعم (إرادة قوة) يمثلها (زعيم)… إنّ المشاكل التي طُرِحَتْ في مؤتمر باندونغ بطبيعتها لا تحتمل حلولا بالقوة، بل تتطلب حلولا مرتبطة بالحياة، وهي بهذا لا تفترض وجود ثقافة الأمبراطورية، بل ثقافة الحضارة“.

لقد تحدَّث مالك بن نبي لأوّل مرّة عن “ثقافة الأمبراطورية” و”ثقافة الحضارة  ” في إحدى المقالات من سلسلة تحت عنوان “عشية ظهور حضارة إنسانية ؟”(3)) مُسْتَوْحِياً الفكرة من المقارنة التي أجراها سبنجلر Spengler بين (الذَّات الإغريقية) و (الذَّكاء الرومانيِّ)(4) .

وهو يُصَنِّف الغرب كثقافة أمبراطورية يكتب: “إنَّ ثقافةً لا يمكن تعريفها إلاَّ ضمن مخطط (الأسباب) يمكن أن تتدخل في المادة إلى أبعد الحدود، مثل اختراع القنبلة الذرية أو الصاروخ العابر للقارات. لكن هذا لا يعني أنها ستتمكّن من إحراز نفس النجاح في تحقيق (الوجود البشري) الذي لا يتحدد إلاّ بالتطلّعات والأهداف والمصير، أي أنه يتحدد بـ (غايات) لا بـ (أسباب). لقد اتخذت النزعة الديكارتية من (السببية) عازلاً يمنع عين الثقافة من رؤية البُعد الميتافيزيقي للحكمة من وجود الإنسان، وأدّى ذلك إلى ميلاد الإنسان-الآلة، أو الروبوت-العالِم. ومن جهته جاء الاستعمار ليضيف عازلاً آخر أمام عين الثقافة ليحجب عنها رؤية كرامة الإنسان الذي اختُزِلَ في الأهلي (الأنديجان)، وهو بذلك يمنع من رؤية وحدة العالم الحديث العضوية، والذي هو نتاج حربين تولّدت عنهما فكرة العولمة. وما هيئة الأمم المتحدة إلاّ لمسة أولية متواضعة لهذا الوضع الجديد. وهكذا يتظافر السببان ليُنْتِجا ثقافة الأمبراطورية، لا ثقافة الحضارة… والمشكل لا يُطْرَح على وجه التحديد من زاوية الذكاء، لكن من زاوية النفس. فالحضارة المعاصرة تطفح ذكاءً وتقانةً بما يكفيها للاتجاه إلى الكارثة، ودون مساعدة أحدٍ… وإنها ماضية في هذا الاتجاه بروحها التقنية التي تزيد من حدة تناقضاتها لأنها تطرح معادلة فريدة من نوعها في تاريخ البشرية، وهي: إنتاج مُفرط ووفرة = بطالة وفقر“.

يرى مالك بن نبي أنّ الأوروبيَّ محكوم عليه بالبقاء سجيناً لثقافة الأمبراطورية بسبب التربية والأفكار التي تلقّاها. يقول: “إنَّ ثقافة الأمومة ذاتها هي التي تجني على الفرد في أوروبا، وتُفسد تصوّره للعالم والإنسانية منذ طفولته. فالتاريخ والحضارة عنده يبدآن في أثينا، ويعرُجان إلى روما، ويختفيان فجأةً لمدة تزيد عن ألف سنة، ثُمَّ يعودان للظهور خلال النهضة الأوروبية، في باريس أو لندن. وماذا عن العصور التي سبقت أثينا؟ إنه الفراغ. وماذا عن المدة التي تفصل بين أرسطو وديكارت؟ إنه الفراغ… إنها نظرة تُضلِّلُ النزعة الإنسانية الغربية منذ المنطلق”(5) .

إنَّ مالك بن نبي يستبعد فكرة قيام ضرب من أمبراطورية أفروآسيوية، ويرى أن هذا الكيان يمكن أن يكون في شكل منطقة تماس روحية  no man’s land spirituel بين المُعسكريْن، أساسُها الإسلام والهندوسية، وهذا ما سيمنعه من اتخاذ شكل معسكر أحادي الاتجاه يمكن أن يُتَّخذ كقاعدة لعملية سيطرة. يقول : “إنَّ النزعة الأفروآسيويَّة تظهر منذ البداية كنظام من القوى الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية… إنَّ الديانات لا تصلح لأن تُسْتَعمَل لغايات كهذه. وبالتالي فلا داعي للبحث عن الانسجام والاتّساق، لا في مبدإ واحد، ولا في إطار دمج بين عدة ديانات… وينبغي أن تؤدي النزعة الأفروآسيوية في النهاية إلى دمج كل هذه القوى. ينبغي أن تؤسس أخلاقياتها على مبدإ غير المبدإ الديني. وفي هذه الثنائية المتمثلة في الإسلام والهندوسية ينبغي الابتعاد عن فكرة الدمج بينهما، والأجدى من ذلك هو السعي إلى إيجاد ميثاق أخلاقي بين الإسلام والهندوسية من أجل التكفل بنفس المهمة الأرضية . فلا داعي للعودة إلى تجربة الأمبراطور أكبر الذي أراد أن يقيم أمبراطوريته على أساس الدمج بين الإسلام والهندوسية“.

إنَّ هذه الفكرة قديمة عند مالك بن نبي الذي ذكر العالِم البيروني في مقال له سنة 1949. وهو يرى في هذا العَالِمِ “صلة وصل بين الفكر الهندي والثقافة المتوسطية” (6). وبالفعل، فإن ابن أحمد البيروني (973-1048) الذي حضر الغزوة التي فُتِح بها إقليما البنجاب وكاشمير، كان قد عاش في الهند التي تعلّم فيها اللغة السنسكريتية وترجم الأوبانيشاد  Upanishads )) إلى العربية. وهو صاحب كتاب حول الهند و (تاريخ اللأمم القديمة) التي يشرح فيها فلسفة مأخوذة حرفياًّ عن الأطوار الهندية (اليوجا  les yugas) . وقد اهتمّ مالك بن نبي بالفكر البراهماني في وقت مبكر، حيث كانت له معرفة واسعة في هذا المجال، وكان شديد الإعجاب بالمهاتما غاندي الذي حيّاه تحية تقدير في كتاباته.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه يبدو و كأن “توينبي” Toynbee سار على أثر مالك بن نبي عندما ذهب الى أنّ التقريب بين الإسلام والهندوسية يمثل إمكانية لتطوّر الإنسانية من الناحية الروحية. فعند حديثه عن تمثيل الحقيقة المطلقة التي تتجاوز حدود الكون حسب ما جاء في الإسلام والهندوسية، وصل هذا الفيلسوف الأنجليزي إلى هذه النتيجة:  “أرى أنَّ هاتين الديانتين لا تتناقضان بل تتكاملان إذا تمَّتْ إضافة الواحدة إلى الأخرى. فالهندوسية تحمل وحدة الحقيقة الغيبية وتعدديتها في آن واحد… ويبدو أنَّ الجنس البشريَّ بحاجة إلى تمثيل هاتين الديانتين معاً“(7).

ومالك بن نبي وتوينبي قد عاصر كل منهما الآخر. الأول توفي في 1973 والثاني في 1975. وجاء عن آلان كريستلاو Allan Christelow المتخصص في فكر مالك بن نبي ( وصاحب مقدمة كتابي :L’islam sans l’islamisme : vie et pensée de Malek Bennabi », Ed. Samar, 2006) أنّ هذين الرجلين يُحتمَلُ أنْ يكونا قد التقَيا سنة 1960 بمناسبة زيارة توينبي للقاهرة حيث إقامة مالك بن نبي. لكننا لم نجد إشارة إلى ذلك في مذكرات بن نبي أو أرشيفه.

إنّ الدور الذي يسنده مالك بن نبي للإسلام في مجال العولمة مُستنبَط عنده من دوره كوساطة. يقول: “إنّ الإسلام هو الجسر الممدود في التاريخ بين الحضارات القديمة والحضارة المعاصرة. إن حضارة الإسلام تقع بين الفكر الأمبريقي (التجريبي) القديم والفكر العلميّ الحديث” (8).

وفي أواخر حياته بقي مؤمنا  بهذه الإمكانية، إذ شرع في عملية توزيع المهام في مقال عنوانه “الحياة الروحية والاقتصاد الاجتماعي”   Spiritualité et socio-économie) حيث يقول:”إنّ الاتجاه الذي يسير فيه العالم لم يفتأْ يُبْرِزُ ضيَق الحدود بين الأوطان، وحاجة الإنسان الماسة إلى أن ينظم نفسه في إطار عالمي لكي يواجه صدمة المستقبل. وهذه الحاجة تفترض أن على كل كيان اجتماعيّ في الحاضرأن يجتثَّ من خصوصياته الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاقتصادية كلَّ نزعة توسعية وكلّ ميل إلى الاستحواذ. يجب على كل كيان اجتماعي أن يضع في حسابه أن هناك كيانا اجتماعيا آخر، وينظر إلى المسألة من زاوية التكامل الضروري لمعالجة تناقضاته الداخلية أحسن معالجة. فما هو مكان الإسلام من هذا المنظور؟ إنّ الإسلام إذا اضطلع بثورته الثقافية، سيأخذ التقنية من الغرب. وبمقتضى ضرورة التكامل، سيكون على الإسلام أن يُعِينَ الغرب على اكتشاف مشاكل الإنسان الروحية، ويساعده على فهم أن المشكل الروحي لا يُعالَج بحلول سوسيو اقتصادية” (9).

إنّ بن نبي الذي كان سابقاً لـ فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama بنحو خمسين سنة كان مقتنعا بأنَّ”التاريخ سائر نحو حل معضلاته”. وتلك هي نهاية التاريخ حقيقةً، حسب تعبيره، وليست حالة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1990(10). لكننا لا زلنا في سنة 1956 حين كان الصراع الإيديولوجيّ قائما بين الفلسفة الليبرالية والفلسفة الماركسية. وقد سابق بن نبي الأحداث بتكهنه بـ (انتقام الله) وعودة الدين، إذ يقول: “إنّ الروح الدينية التي تمّ نفيُها من نظريات التاريخ على يد الثورة الديكارتية وإنجازات الموسوعات، هذه الروح عادت عبر مسالك عقلية“.

وقد ختم مالك بن نبي، وهو يتنبأ بالعولمة قبل ظهورها، هذا الكتاب الثريَّ والممتع حول الجيوسياسة بنظرة متناهية الطموح، إذ يقول: “إنّ تقليص المكان صار تكبيرا للإنسان ومُضاعفةً لمستواه الشخصيّ. وقد صار العالمُ وطنَه ومجالَه الحيويَّ العادي على هذا المستوى… وكُلّما تجاوزت طاقة الإنسان الحدود المحلية اخترقت أنشطته الحدود الوطنية، وتقاطعَتْ والْتَحَمَتْ وتجمّعتْ في (نماذج standards)، وهي بهذا تنسج شبكة العولمة التي تتسع عبر العالم بالتدريج. وفكرة التعايش نفسها ما هي إلاَّ ترجمة لهذه الظاهرة على صعيد السياسة والأخلاق“.

وبعد ذلك مباشرةً ينفي أن يكون لبعض صيغ التكتل البالية أيُّ مُستقبل. وقد سبق أن أعلن في “وجّهه العالم الإسلامي” أنّ”العالم سائر إلى التحقُّق على مستوى يشمل كوكب الأرض كله، وإلى التّجمّع وإلى تجميع موارده واحتياجاته. وهو على وشك تحقيق معنى التاريخ على المستوى المؤسّسي… فسيكون على العالم الإسلاميّ إذاً أنْ يأخذ بعين الاعتبار هذه الخطوة التاريخية في مسار تطوّره الخاص. إنَّ صِيغة الوحدة العربية أو صيغة الوحدة الإسلامية صيغتان تجاوزهما الزمن، ومثلها في ذلك مثل الوحدة الأوروبية التي تجري محاولة إحيائها في ستراسبورغ… ذلك أن وحدة العالم كانت دوما هي الظاهرة الأساسية في التاريخ، أمّا التقسيمات الأخرى فما هي إلاّ حوادث هامشية لا أثر لها…”

عندما نشر البابا بول السادس رسالة بابوية سنة 1967 تحت عنوان (Popularum progresso ) اتخذها مالك بن نبي موضوعا لمقالة قال فيها: “إنها وثيقة العصر، وهي علامة أساسية دالة على التطور الأخلاقي لهذه البشرية التي يبدو أنها وصلت إلى مرحلة الإنسان الشمولي أو الكامل Omnihomme))(11).

وكتب في جوان 1967 قائلاً: “إننا نتذكر تلك الأماني التي ولّدها مؤتمر باندونغ في العالم الثالث، وتلك الانشغالات التي أثارها في المعسكر الأمبريالي. وبالفعل فقد تحوّلَتْ تلك البلدان التي شكَّلتْ الأمبراطورية الاستعمارية القديمة إلى رابطة مُضادَّة للأمبريالية بوحيٍ من روح ذلك المؤتمر. وممَّا يزيد الحقيقة وضوحا أنّ هذه الرابطة عبّرتْ عن توجّهها السياسي بطريقة واضحة في مبدإٍ واحد هو: الحياد… وبناءً على ذلك نفهم كل الدوافع التي دفعت الأمبريالية إلى نسف هذا التجمُّع البشري في العالم الثالث، وبذل كل الجهود لإحداث انشقاقات وحركات انعزالية تخدم مصالحه…” (12).

وعندما أُسِّسَتْ منظمة الاتحاد الافريقي في 1960 اعتبر مالك بن نبي ذلك مناورة كبيرة في الصراع الإيديولوجيّ، وهو يقول في نفس المقال: “إنّ منظمة الاتحاد الافريقي ابن غير شرعيّ للأمبريالية ولإفريقيا التي وضعته دون أن تعرف من يكون أبوه، ودون أن تعرف أن هذا المولود الجديد جاء لكي يضع حجابا حاجزا بينها وبين آسيا“.

ماذا بقي من الحلم الأفروآسيوي الذي سيتحوّل إلى حركة عدم الانحياز، ثمّ سيتلاشى بعد ذلك؟ لم تبق إلاّ الصُّور التذكارية. أموال طائلة صُرِفت، وديماغوجيا، وآمال كاذبة من غير طائل. فالهند صارت بلد الديمقراطية الأول في العالم، والصين ستصير عن قريب أقوى اقتصاد في العالم. أمَّا العالم الإسلاميُّ فيبقى الحضارة القديمة الوحيدة التي عجزت عن مسايرة العصر.

إنَّ الأفكار الجيوسياسية التي اقترحها مالك بن نبي لم يُكْتبْ لها النجاح ليس لكون النظرة أفلاطونية أو خاطئة تماما، بل لأنّ صاحبها اعتبرها قابلة للتطبيق في الحين، وهي في الحقيقة لن تفرض نفسها إلاَّ بعد مُضِيِّ قرن أو قرنين لأنّ (العولمة)، سواء عُبِّر عنها بهذا المصطلح أو بغيره، شرط من شروط استمرار الحياة البشرية في القرون القادمة. أمّا مالك بن نبي فلم يُعلن عن العولمة كاستحقاق، بل أعلن عنها كغاية يسيرالعالم باتجاهها. فالاستحقاقات تقبل التأجيل، لكنّها آتيةُ لا محالة لأنها جزء من نظام الضرورات الإنسانية، كما أنها جزء من أقدار التاريخ.

تنويه: العنوان المعتمد لهذا الكتاب هو ” فكرة الإفريقية الآسيوية : في ضوء مؤتمر باندونغ“،لكننا فضلنا عنوان” النزعة الإفريقية الآسيوية” (و اختصارا النزعة الأفرو آسيوية”) لما وجدنا من قوة في اختيار كلمة “نزعة” بالمقارنة مع كلمة “فكرة”.


المراجع:

1) كان مالك بن نبي شديد الاهتمام بالهند منذ اطّلاعه على كتب طاغور  (Tagore) في سن المراهقة. وقد ازداد هذا الاهتمام بما أحس به من إعجاب بمنجزات غانديGhandi)) في مجال الأخلاق والسياسة، وكان ذلك خلال سنوات إقامته في فرنسا. وعندما نضج، خصص عدة مؤلفات لبلاد الهند وأعلامها في الفكر والسياسة، قبل وبعد التقسيم. ونذكر من أعماله هذه المقالات الآتية : ” تحية إلى داعية اللاّعنف/ جريدة Le jeune musulman المؤرخة في 30 جانفي 1953)، ( رومان رولان Romain Rolland ورسالة الهند:1 و 2/ Le jeune musulman المؤرخة في 26 جوان 1953 و 22 جانفي 1954)، و(جامعة اللاّعنف/ جريدة la République algérienne المؤرخة في 18 ديسمبر 1953). وكان في اتصال مع شخص مسلم من رفاق غاندي، وقد صار وزيرا للتربية، واسمه مولانا أبو القلم أزاد (1888-1958). كما وجدنا في أرشيف مالك بن نبي نسخة من رسالة كان قد وجهها إلى السيد ميها سينغ، وزير الخارجية الهندي، بتاريخ 29 أفريل 1956.

2) جاء ذكر هذا المقال بقلم ر.رايت R. Wright في كتاب” باندونغ مليار و نصف انسان”», Ed. Calman-Lévy, Paris 1955.

3) جريدة La République algérienne تاريخ 13 أفريل 1951.

4) عن كتاب: Oswald Spengler : « Le déclin de l’Occident : esquisse d’une morphologie de l’histoire universelle », 2 volumes, Ed. Gallimard, 1948,   ترجمة الجزائري محند تازروت.

5) من مقال تحت عنوان: « Fondement métaphysique de l’humanisme islamique » نُشِرَ في جريدة: la « République algérienne » بتاريخ 29 سبتمبر 1950.

6) من مقال تحت عنوان : « La chose et la notion » نُشِر في جريدة: la « République algérienne » بتاريخ 14 أكتوبر 1949.

7) عن كتاب: « Survivre : sept questions sur le futur », Ed. Marabout, Paris 1974.

8) عن: « L’Islam, facteur de libération et de désaliénation de l’esprit humain », « Que sais-je de l’islam » N°1, janvier 1970

9) عن : Que sais-je de l’islam أكتوبر 1971.

10) إنّ فكرة “نهاية التاريخ” تعود بجذورها إلى ذلك المعتقد الكنسي الذي ينتظر قيام وضع جديد في مملكة جديدة ستدوم ألف سنة. وقد تلقّفت الماركسية هذه الفكرة لتدعم بها فكرة موت الله، ونهاية الدولة، وذوبان الطبقات الاجتماعية، وإلغاء النقد المالي… وبعد ذلك أخذ الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرون بهذه الفكرة في قولهم إن (ما بعد الحداثة) هو نهاية النموذج الديكارتي.

11) المقالة تحت عنوان: (الرسالة البابوية والعالم الثالث L’Encyclique et le tiers-monde) نُشِرًتْ في مجلة Révolution africaine بتاريخ 16 أفريل 9677.

12) المقال تحت عنوان: (هيئة الأمم تُدِين الشعب الفلسطينيَّ)  منشور في مجلة Révolution africaine بتاريخ 23 جويلية 19677.

 

المصدر: كتاب "جوهر فكر مالك بن نبي"، منشورة دار النشر سمر سنة 2016

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.