جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: محمد الهادي الحسني –
لم يحظ حزبٌ أو جمعية في الجزائر بما حظيت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من اهتمام كبير منذ إنشائها إلى يوم الناس هذا، سواء كان هذا الاهتمام من الجزائريين أو من الأعداء الفرنسيين، أو من الأشقاء العرب والمسلمين، أو من الدارسين الغربيين منصفين أو غير منصفين.
ويبدو أن هذا الاهتمام راجعٌ إلى عدة أمور هي:
- قيمة الأفكار التي تؤمن بها، وتدعو إليها، وتجاهد من أجلها، وهي أفكارٌ أصيلة صحيحة، نابعة من الدين الإسلامي الحنيف، ومن تقاليد الشعب الجزائري، التي هي في أغلبها ذات جذور إسلامية، وليست صدى للأفكار الأجنبية، كما هو موجود عند الأحزاب المعاصرة لنشأتها، أو الموجودة حاليا – بجميع ألوانها وأشكالها، ومنها ما لا رائحة جزائرية فيها حتى في أسمائها..
- ثراء هذه الأفكار وتنوُّعها وشمولها، فهي تشمل جميع قضايا الشعب الجزائري من المجال الديني، إلى المجال التربوي، إلى المجال الاجتماعي، إلى المجال السياسي... يدل على هذا الثراء العشرات من الرسائل الجامعية والبحوث الأكاديمية. ويا ليت الأخ الدكتور مسعود فلوسي يُعِدُّ فهرسا بهذه الرسائل والبحوث، كما فعل مع الدراسات التي تناولت الإمام عبد الحميد ابن باديس، رضي الله عنه وأرضاه.. وما ذلك عليه بعزيز.
- قيمة قادة هذه الجمعية الفكرية ومكانتهم العلمية، فهم ذوو علم غزير، وفكر عميق، ونظر سديد، ورأي رشيد، شهد به الكَنود قبل الودود. مع إيماننا بما قضى الله – عز وجل- من أن الإنسان جهول، وأنه لم يُؤتَ من العلم إلا قليلا، وأنه فوق كل ذي علم عليم..
لقد بدأ الاهتمام بهذه الجمعية من أول يوم أُسِّست فيه، وكان هذا الاهتمام أولا من طرف العدو الفرنسي، إذ سخَّر ضعاف الإيمان وعديمي الوطنية من بني "جلدتنا" ليكونوا عيونا ترصد كل حركة – قلّت أوجلّت – تصدر عن أعضاء هذه الجمعية، وليسترقوا السمع لأدنى همسة تخرج من أفواه أعضاء الجمعية، تهدف إلى إيقاظ الجزائريين، وتوعيتهم بما يهدد وجودهم كأمة متميزة دينا، ولسانا، وعِرقا عن هذا العدو الفرنسي الجاثم على صدورهم، السالب لحريتهم، الهادر لكرامتهم، المستغلّ لأبنائهم وخيراتهم..
إن عدونا "عالمٌ ظالم"، فقد علم أن هذه الجمعية سيكون لها شأنٌ في حاضر الجزائر ومستقبلها، فعمل كل ما في مكنته لإفشال مشروع هذه الجمعية المضاد لمخططه الشيطاني، الهادف إلى تنصير الجزائريين وفرْنَستهم، وهو مخطط ما يزال مستمرا إلى اليوم بشهادة جنرالهم دوغول، الذي كتب في مذكراته "الأمل" قائلا: ".. فقد كنت أعتزم أن أحذو حذو فرنسا القديمة، التي بعد أن أصبحت بلاد الغال، ظلت محتفظة بالطابع الروماني، بحيث ستبقى الجزائر فرنسية من عدة أوجه، وتحافظ على الطابع الذي اكتسبته. هذه كانت إستراتيجيتي في السياسة التي أريد أن أنتهجها.." (ص 55)، فماذا يقول الصم البكم العمي عندنا بعد هذه الإستراتيجية الفرنسية، وهم ينخرطون في تنفيذها؟
علّمنا الإسلام الصحيح أن لا نقدِّس الأشخاص، ولم يقدس المسلمون الحقيقيون حتى رسولهم – صلى الله عليه وسلم – فهو – كما علمنا هو نفسه – ابن امرأة من مكة، كانت تأكل القديد، وأفضليته – عليه الصلاة والسلام – لا تخرجه عن آدميته، ولكننا مأمورون – كمسلمين – أن لا نبخس الناس أشياءهم، ولا نحمدهم بما لم يفعلوا، كما يفعل بعض الناس من بخس أشياء الجمعية، وحمد بعض الذين خانوا الله، ورسوله، ودينهم، وقومهم، ووطنهم.
إن أعداء الجمعية من الفرنسيين أكثر وعيا وأنصف حكما عليها من بعض جاحدي فضل الجمعية على الجزائر من "أبناء جلدتنا"، ويا ليتهم توقفوا عند جحد فضل الجمعية، بل هم ينقنقون كالضفادع في المياه القذرة لتسويد وجه الجمعية ووجوه رجالها.. وهم في ذلك ينتهجون منهج الكفار القائل: "فويل للمصلين.." ببتر الآية الكريمة، وقطعها عن سابقها ولاحقها وإنها "لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"، ولو علم الله خيرا في هؤلاء لأبصرهم ولأسمعهم. "فاللهم لا تكلنا إلى أنفسها طرفة عين ولا أقلّ من ذلك."، حتى لا نكون من جنود إبليس الذين يعملون آناء الليل وأطراف النهار تمجيدا للأرذلين، وإشاعة للمنكرات والفواحش وعلى رأسها الكفر بالله – سبحانه وتعالى – عنوان هذه الكلمة هو عنوان كُتيّب صغير صدر باللغة الفرنسية في سنة 1958 عن المصالح الرسمية للدولة الفرنسية، وأصله محاضرة ألقاها ضابطٌ في المصالح الاستخباراتية الفرنسية، يُسمَّى جاك كاري، وقد ألقى هذه المحاضرة أمام الضباط المتربِّصين في حلقة دروس الشؤون الجزائرية، وقد عرّبه الدكتور عبد الرزاق قسوم، وقدَّمه الأستاذ صادق سلام، وصدره وعلق عليه الأستاذ الأخضر رابحي.. كما أُلحق بالنص الأصلي ملاحق بلغ عددها ثلاثة عشر ملحقا.. وقد نشرته دار "عالم الأفكار". لست في وارد عرض الكتاب، ولكنني أعيد التأكيد على أن الفرنسيين فهموا الجمعية ومبادئها أحسن من بعض الجزائريين الذين يُسمُّون أنفسهم "وطنيين" و"تقدُّميين"، ومن هؤلاء الفرنسيين هذا الضابط، الذي يؤكد في نهاية محاضرته "أن هذه الجمعية.. يمكن اعتبارها خطرا كامنا.. وإن خطرها على الجزائر الفرنسية سيكون كبيرا، ولذلك يتحتم أن تكون نشاطاتها محل يقظة دائمة". (ص 80). و"قد قام الدليل على أن العلماء والثوار لهم نفس القضية". (ص 76). إن المرء ليتساءل اليوم باستغراب عما تعانيه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من تهميش من بعض المسؤولين، وعدم إرجاع مؤسساتها لها بدعوى أنها "أوقاف"، وأين عيون هؤلاء المسؤولين عن الأوقاف التابعة لغير جمعية العلماء؟
إن موقف بعض المسؤولين من جمعية العلماء ينطبق عليه قول الشاعر في أحد ناكري الجميل، وجاحدي الفضل، وهو:
أعلِّمه الرماية كل يوم فلمَّا اشتدَّ ساعده رماني
وكم علَّمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
والأهم هو أن الجمعية لا تبيع الدين بالتين، ولا تسترضي الخَلق بإسخاط الخالق، ولا تنال الرزق من المرزوق: بل تطلبه من الرازق.