مسيرة البصائر
بقلم: عبد الرحمن شيبان -
عرفتْ جريدة البصائر – عميدة الصحافة الوطنية، ولسان حال جمعية العلماء، أم الجمعيات الوطنية – ثلاث مسلسلات، في ثلاث مراحل.
فقد صدر العدد الأول من السلسلة الأولى، يوم الجمعة غرَّة شوال 1354هـ/27 ديصامبر 1935 – وذلك إثر استشهاد جرائد ثلاث لجمعية العلماء، وهي: السنة، والشريعة، والصراط؛ في عهد الأستاذ الرئيس عبد الحميد بن باديس، طيَّب الله ثراه.
وقد كان الاستعمار في تلك المرحلة في أوج طغيانه واستقراره، وبسط سلطانه على الجزائر في جميع المجالات، كما كانت جمعية العلماء، كذلك، في أوج كفاحها الانبعاثي البناء، تأثيراً في النخبة الفكرية، وتغلغلا في صفوف الجماهير الشعبية، وقد رحَّب بالجريدة الإمام المصلح - شيخ الشباب، وشاب الشيوخ -: الفتى الزواوي الأستاذ باعزيز بن عمر رحمه الله، يقول ملخِّصا رسالة البصائر والآمال المعلَّقة عليها: «مرحبا بجريدة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي نحن لها على العهد القديم وإن طال، مرحبا بالبصائر تزيل الغشاوة عن الأبصار، وتنير البصائر بنور العلم الصحيح، والدين القويم، وتنشر الفضيلة الإسلامية، فيتجدَّد التملِّي بها، وتحيي ما غرسه الإسلام في النفوس أولا، من عقائد طاهرة، وعزائم قوية، وأخلاق إسلامية، وآداب نبوية، ظلت في الكتب بعد القرون الأولى، وأبت أن تنتقل من صفحاتها إلى صفحات القلوب، وعياذا بالله من امتلاء الكتب وخُلوِّ القلوب، ومن كنوز لنا لا تأخذ منها أيدينا، ولا تتصل بها ألسنتنا وأقلامنا، فتلك تتحدَّث، وهذه تكتب، ثم لا شيء إلاَّ حبرٌ وورق».
«هذه هي الأزمة التي نريد أن نتخلَّص منها، وقد طالما قنصت على أزمَة عقولنا، وسحبت علينا أذيال الجهل، والفقر، والتقهقر زمنا طويلا، ولسنا نتخلَّص منها إلا بكم أيها العلماء العاملون الساهرون على رفعة الأمَّة، الساعون في إخراجها من الظلمات إلى النور. وما الظلمات إلاَّ الاستعمار والجمود والضعف والضلال؛ وما النور إلاَّ الحرية والاستقلال والقوة والرقي».
ويقول العالم المصلح – شيخ الصحافة الوطنية، صاحب جريدة وادي ميزاب وأخواتها، والشاعر الثائر– نائب أمين مال جمعية العلماء، عن الظروف التي صدرت فيها البصائر: «مرَّت على الشعب الجزائري أحقاب متطاولة ساد فيها المبيدان: الجهل والخرافات، واستغلَّها الفريقان: الأمراء والرؤساء الروحيون؛ فعاشت الأمَّة الجزائرية طيلة هذه الأحقاب بين فكَّي الجهالة والفوضى الدينية، تتقاذفها أمواج من الفتن، وتتدافعها أعاصير من الشرور، إلى أن قيَّض الله لها من أبنائها رجالا علماء حكماء هم لها بمثابة المطر أوان الجدب، وشدَّة القحط» (البصائر: عدد1 ص5).
السلسلة الثانية: صدر العدد الأول منها في عهد الرئيس الثاني لجمعية العلماء، الأستاذ الإمام محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله، في يوم الجمعة 7 رمضان 1366هـ/25 جوليت 1947م، وذلك إثر الحرب العالمية الثانية، وقد كتب افتتاحية العدد الأوَّل من هذه السلسلة مديرها ورئيس تحريرها الشيخ الإبراهيمي، بعنوان: «استهلال». عبَّر فيها عن تواصل حلقات الكفاح، وتكامل رواد الإصلاح، إلى أن يمنَّ الله على الجزائر بالنصر والفلاح، مهما يمعن الظلم الاستعماري من كمِّ الأفواه، وشلِّ الأيدي، واشتراء الذمم، يقول الإبراهيمي في استهلاله أو ابتهاله: «اللهمَّ يا ناصر المستضعفين انصرنا، وخذ بنواصينا إلى الحقِّ، واجعل لنا في كلِّ غاشية من الفتنة ردءا من السكينة، وفي كلِّ داهمة من البلاء درعا من الصبر، وفي كلِّ داجية من الشكِّ علما من اليقين، وفي كلِّ نازلة من الفزع واقية من الثبات، وفي كلِّ ناجمة من الضلال نور من الهداية، ومع كلِّ طائف من الهوى رادعاً من العقل، وفي كلِّ عارض من الشبهة لائحاً من البرهان، وفي كلِّ ملمَّة من العجز باعثا من النشاط، وفي كلِّ مجهلة من الباطل معالم من الحق اليقين، ومع كلِّ فرعون من الطغاة المستبدين موسى من الحماة المقاومين».
ولقد صدق الله تعالى رؤيا الإبراهيمي بالحقِّ، فقد أعانه عزَّ وجلَّ على جمع شتات جمعية العلماء، بعد موت الرئيس عبد الحميد بن باديس، وبعد التشريد الذي نال كتَّاب الإصلاح من العلماء والمؤيِّدين، فزجَّ بالكثير منهم في السجون والمعتقلات، وواصل الجميع المسير، تحدوهم جريدة البصائر، في التربية والتعليم والتكوين، وتصحيح العقائد، وغرس الفضائل، وتعبئة الجهود، وتغذية المطامح بواسطة المدارس، والمساجد، والنوادي، والمنظَّمات السياسية، والكشفية، والرياضية، والفنية، داخل الجزائر وفي فرنسا، وإرسال البعثات العلمية إلى المشرق العربي، إلى أن اندلعت الثورة المظفَّرة، ثورة نوفمبر 1954، وكان النصر المبين، بزوال الاحتلال ومجيء الاستقلال»
السلسلة الثالثة: قد صدر العدد الأوَّل منها يوم الخميس 18 ذو الحجة 1412هـ/27 ماي 1992م، يديرها المرحوم الأستاذ أحمد حماني، ويرأس تحريرها الأستاذ عبد الرحمن شيبان، والمرحوم الأستاذ علي المغربي، وقد عبَّرت افتتاحية العدد الأوَّل من هذه السلسلة عن أهمِّ خطر يهدِّد الشعب الجزائري، ولا زال يهدِّده، في ظروف المرحلة الجديدة، مرحلة إنهاء الحزب الواحد، وفتح الباب للتعدُّدية السياسية والاجتماعية، الطيبة والخبيثة، والرشيدة والسفيهة، والمؤمنة والملحدة، والسلمية والحربية، ألا وهو إيقاف النزيف الدموي، الذي ابتليت به الجزائر بصورة لم تعهدها عبر تاريخها الطويل: «إنَّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الوفية لمبادئها، والمستهلمة لقيمها من الإسلام الصالح لكلِّ زمان ومكان، لتناشد كلَّ وطني يغار على مصالح الأمَّة، أن يعمل على:
1. وضع حدٍّ لسفك الدماء البريئة، امتثالا لقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ}.
2. الكفُّ عن كلِّ عملية تخريبية، عملا بقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}.
3. تحرِّي العدل في الإجراءات الأمنية، اتِّقاء لكلِّ ظلم وتعسُّف، مصداقا لقوله تعالى: {لا تظلمون، ولا تُظلمون}.
وهل بعد هذه الصرخة الأليمة، يقبل من أيٍّ كان يريد الشكَّ أو التشكيك، في اضطلاع جمعية العلماء بواجبها التوجيهي المقدَّس نحو الجزائر ومصالحها، وأمنها، ووحدتها الوطنية، وقيمها الذاتية العربية الإسلامية الخالدة، وفي مقدِّمة ذلك كلِّه الإعلان عن تجريم أشدِّ عدوان وحشية وفداحة وبشاعة، يرتكب ضدَّ أبناء الجزائر وبناتها، ومنشآتها العمرانية والاقتصادية، باسم أعظم شريعة جاءت لتحرير الإنسان، وتكريم كلِّ كائن حيٍّ، إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا، منذ الأزل وإلى الأبد!
بل إنَّ جمعية العلماء لم تكتف بحثِّ الجزائريين والجزائريات على الاعتصام بحبل الله المتين، للعمل على ما فيه رقيُّ الجزائر ومجدها وأمنها، فإنَّ واجب التضامن الإسلامي يدعوها إلى ربط مصير الجزائر بمصير إخوانها الشعوب العربية الإسلامية، مشرقا ومغربا، كما تسجِّل ذلك افتتاحية العدد الأول من هذه السلسلة الثالثة، إذ تقول: «وتؤمن جمعية العلماء بأنَّ الشعب وأمنه واستقراره لا يمكن استتبابهما كاملين إلاَّ بأمن أشقائه العرب والمسلمين في ليبيا والعراق، وفي فلسطين ولبنان والجولان» وتختم الافتتاحية بهذه الفقرة الحازمة، المحفِّزة، التي يجب أن تظلَّ نصب أعين العرب والمسلمين إذا أرادوا أن يعيشوا في عزَّة وكرامة: «إنَّ قوات الشرِّ لماضية في تآمرها وتنفيذ مخطَّطاتها العدوانية، ولا يمكننا أن نواجهها إلاَّ بتكتُّلنا، وتظافر جهودنا في كلِّ المجالات، {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَوْن، إن كنتم مؤمنين}».
أما بعد، فهذه البصائر تعود إلى الميدان، بعد المشوار الطويل الذي قطعته في خدمة الجزائر والعروبة والإسلام، في مختلف المراحل والعهود، والكتَّاب، والمشرفين، والقارئين، والحاكمين العادلين والمستبدِّين … تعود والجزائر قد قطعت شوطا في مجال استعادة الأمن بسبب الإجراءات العفوية الحكيمة المتَّخذة، التي هي في حاجة إلى أن تدعَّم بخطوات أوسع مدى وأعمق خطرا، لكي تتمكَّن البلاد من تقويم ما فسد واعوجَّ في جميع المجالات، وصيانة الإسلام من تبجُّحات المرتدِّين والمرتدَّات، هنا وهناك، في صلف ووقاحة، وردع تشنُّجات المستغربين عن مواقفهم من اللغة الوطنية الرسمية، لغة القرآن كتابنا، ولغة من أنزل عليه القرآن نبينا ورسولنا عليه الصلاة والسلام.
إنَّ البصائر لهذا أسِّست، حتى جاءت الحرية وجاء الاستقلال، وفي هذا السبيل تسأنف العمل بكلِّ ما تؤتى من طاقة، من أجل أن تصون الحرية والاستقلال من عبث العابثين، وعدوان المعتدين، وعراقيل الجامدين، وتضليل الجاهلين المتعالمين … كلُّ ذلك في كنف الحرية والعدل والتضامن.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على محمد المبعوث هداية ورحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.