كيف استقبلت جمعية العلماء الفرقة المسرحية المصرية؟
بقلم: أ.د مولود عويمر-
زارت الفرقة القومية المصرية في فبراير 1950 الجزائر، ولقيت بربوعها إقبال الشعب الجزائري عليها، ونالت التكريم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبر مدارسها ونواديها. وفي حفاوتها بأهل الفن الرفيع يتجلى فيها نموذج من فلسفتها الإصلاحية القائمة على التجديد، والداعية إلى مواكبة العصر والتطوّر الدائم.
في ضيافة مركز جمعية العلماء
قدمت الفرقة المصرية عروضا مسرحية عديدة نالت إعجاب الجمهور الجزائري التواق إلى كل فن يحرّره من الثقافة الفرنسية المهيمنة، ويربطه بالتراث العربي الإسلامي. وهكذا وجد الجزائريون في مشاهدة التمثيليات المسرحية المقدمة متنفسا ونافذة يطلون من خلالها على العالم العربي الذي باعد بينهم الاستعمار.
واغتنم رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وجود هذا الوفد المصري الذي اعتبروه سفيرا للشعب المصري ليستضيفونه ويعرّفونه بنشاطاتهم المختلفة في مجال الإصلاح على أمل أن يبلّغها فيما بعد في جولاته في مصر والعالم العربي لتتغير نظرة النخبة العربية السلبية عن الجزائر، فتخصص لها نصيبا في كتاباتها وخطاباتها.
وأول زيارة رصدناها لأقطاب الفرقة كانت يوم الأربعاء 14 فبراير 1950 إلى مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالجزائر يتقدمهم مدير الفرقة يوسف وهبي ومديرها الفني زكي طليمات. واستقبلهم أدباؤها وشعراؤها ومعلموها بحفاوة كبيرة، أذكر منهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس هذه الجمعية الذي نوّه بالعلاقات القديمة بين الجزائر ومصر، ثم وجّه عتابا إلى النخبة المصرية التي أهملت كثيرا الجزائر، ولم ترع لها تراثها وماضيها المتصل بمصر.
وحاول الأستاذ طليمات استدراك هذا الإهمال وعبّر عن إعجابه بما شاهده في البلاد التي أنجبت الشيخ الإبراهيمي، فقال مجاملا هذا العالم: " إني سعيد إذ أجد نفسي بجوار هذا الأستاذ العظيم، وإني لأعتبره حقا رئيس الجزائر ومحيي نهضتها العلمية، وإني أتمنى لو تتاح لي الفرص فأترك أعمالي كلها وألازمه ملازمة التلميذ لأستفيد من علومه وآدابه، وأوصيكم أن تكونوا جميعا أعوانه المخلصين وأنصاره الأمناء."
أما يوسف وهبي فقد عبّر بدوره عن تقديره لأعمال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مبرزا الاشتراك القائم بين رسالة المسرح ورسالة المدرسة، وهي تتمثل في التعليم ونشر الثقافة وبث الوعي بين الناس، فالعلماء والفنانون يقومون في نظره بنفس العمل لتحقيق نفس الهدف لكن بطرق مختلفة.
كما تحدث الشيخ إبراهيم بيوض عن مطالعة أهل الصحراء الجزائرية لما تنتجه المطابع المصرية، ومواكبتهم للنشاط الفكري والثقافي السائد في القاهرة. وألقى الشيخ أحمد سحنون قصيدة رحب من خلالها بالضيوف المصريين، وذكر لهم تعلق الجزائريين بمصر، ودعاهم إلى التعاون المثمر من أجل بناء نهضة علمية وأدبية في الجزائر، وأقتبس من هذه القصيدة هذه الأبيات الأربعة الأخيرة التي تؤكد هذه المعاني:
نحن نصلى نار حكم بلغت
منه شكوانا غلى آذانكم
نحن في بلداننا في غربة
فتطلعنا إلى بلدانكم
إننا نبني ولكن من يكن
مثلنا يحتاج إلى بنيانكم
فأعينوننا على تحريرنا
إننا كالسيف في إيمانكم
حديث مع جريدة البصائر
اغتنم الشيخ باعزيز بن عمر حضور هذا الوفد المصري إلى مقر جمعية العلماء ليجري حوارا طويلا مع يوسف وهبي باسم جريدة البصائر لسان هذه الجمعية الإصلاحية. وقد طرح عليه عشرة أسئلة أجاب عنها رئيس الفرقة المصرية مرة بإيجاز ومرة بتفصيل.
لقد تساءل باعزيز عن رأي الفنان وهبي في الحياة الثقافية الجزائرية، ومضمون الخطاب المسرحي في مصر ومدى تصويره للواقع المصري، مزاحمة السينما للمسرح وتهديد مستقبله، مصادر المسرح المصري بين الرافد والوافد، مراقبة السلطة للأفلام والمسرحيات.
كما استفسر عن كيفية النهوض بالفن المسرحي في الجزائر. ونظرا لأهمية هذا السؤال الأخير وحاجتنا اليوم إلى جوابه لنرقى بمستوى الفن الجزائري المتعثر، أنقل هنا ما قاله يوسف وهبي الخبير في هذا الشأن: " الإيمان برسالة الفن، وبذل التضحية، والاستمرار وعدم النكوص، والاستفادة من العلم وطول الدراسة وصقل المواهب، ثم التمسك بالأخلاق الكريمة والظهور بمظهر يشرف الفنان ويجبر الناس على احترامه، وكذا إرسال ذوي المواهب والاستعداد من أعضاء الفرق إلى مصر كي يتموا تكوينهم الفني ويكتسبوا الخبرة ما يجعلهم ينهضون به نهضة واسعة شاملة..."
وقد تجسد هذا التعاون بعد سنوات حينما أدرك قادة الثورة الجزائرية أن المعركة مع الاستعمار لنيل الاستقلال لا تتحقق فقط بالسلاح والدبلوماسية وإنما أيضا بتجنيد الفن والثقافة إلى صف النضال الوطني والانتصار في ميدان الصورة والكلمة.
ساعات في نادي الترقي
كان نادي الترقي الذي أسسه أعيان الجزائر في عام 1927 محطة أساسية لكل حراك ثقافي في الجزائر، وقد استقبل في رحابه نشاطات كثيرة، وتأسست فيه جمعيات ثقافية ودينية وفنية ورياضية جزائرية. ولهذا حرص المشرفون عليه على تنظيم حفلة شاي على شرف الوفد المصري حضرها نخبة من العلماء والسياسيين.
وقد رحب بهم في البداية الأستاذ أحمد توفيق المدني الأمين العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مبرزا تاريخ العلاقات بين البلدين. كما أبدى إعجابه بإقبال الجزائريين على عروض الفرقة القومية المصرية. وتحدثت بعده فنانة مصرية عن ضرورة إشراك المرأة في العمل الإصلاحي لتحقيق تربية المجتمع تربية سليمة. ونوّهت بالمرأة الجزائرية التي لم تنل حقها من الثقافة إلا أنها نجحت في تربية رجالا عظماء.
وناشد الشيخ الطيب العقبي في كلمته الوفد المصري أن يحتفظ بصورة هذا الحفل البهيج ونقلها إلى مصر فهذه المشاهد هي التي تعبّر عن حقيقة الجزائر العربية المسلمة، وليست بعض المظاهر العوجاء التي يلحظها السائح في مناطق محدودة ثم يعممها على الجزائر كلها.
أما يوسف فإنه أكد للجميع أن جولاته في القطر الجزائري بينت للضيوف المصريين مدى التقارب بينهم والجزائريين الذين يعتزون بانتمائهم إلى الأمة العربية الإسلامية، ويقبلون على كل فن وثقافة تقربهم من إخوانهم المشارقة.
في رحاب دار الحديث بتلمسان
سافرت الفرقة القومية إلى الغرب الجزائري، وزارت تلمسان يوم الجمعة 23 فبراير 1950. وقد استقبلهم في محطة القطار أشبال الكشافة الإسلامية بباقة من الزهور والأناشيد الكشفية.
وأقامت إدارة دار الحديث يوم الأحد 26 فبراير حفلة الشاي تكريما لهذا الوفد. وابتدأت بنشيد من نظم مدير المدرسة الأستاذ محمد صالح رمضان. وقدم هذا الأخير كلمة رحب بها بالضيوف، ثم خلد هذه الزيارة بقصيدة لخص فيها تاريخ تلمسان العريق ووصف جمالها البديع، ثم أثنى على مصر والمصريين، بشكل عام والأستاذ يوسف وهبي بشكل خاص، فقال:
أيوسف وهبي ذي تحية شاعر
باسم الجميع لتوأم
تقبل رعاك الله منا تحية
من الشعر أوحاها الشعور الملهم
وباقة زهر، غرسها ونماؤها
يد لابن باديس الرئيس المعظم
وتحدث أيضا الشيخ محمد بابا أحمد رئيس الشعبة المحلية لجمعية العلماء عن نشاطها وما قدمته في سبيل إحياء الدين الإسلامي ونشر اللغة العربية والتوعية القومية، مبرزا بالخصوص دور الشيخين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي في تفعيل هذه الحركة الإصلاحية.
وبعده ألقى الأستاذ عبد الله أبو عنان قصيدة طويلة دافع فيها عن صمود الجزائر للحفاظ على مقوماتها، ومقاومتها لكل أشكال التغريب، ثم أوضح الفرق بين الاستعمار الفرنسي في الجزائر والاستعمار البريطاني (الحماية) في مصر التي لم تتعرض للاغتيال الحضاري والاستيطان المادي والمعنوي. وهي مقارنة ضرورية في هذا المقام مادام العديد من رجال الفكر والثقافة والسياسة في العالم العربي لا ينتبهون لها. وإليم أيها القارئ بعض من هذه الدرر الثمينة:
ولكن رمتنا يد الأجنبي
بما قد رمتكم، شباب الهرم
ولكن تحررتم قبلنا
بعلم وجاه وملك أشم
ونحن فقدنا صفات بها
تحرر شعبكم المحترم
لأن الذي قد رمانا قضى
عليها جميعا بكيد وهم
فشتان بين من دخيل أتى
يميت العقول ويحيي الوخم
وبين دخيل أتى يبتغي
شؤون اقتصاد وحفظ الشيم
وأوضح يوسف وهبي مرة أخرى أن رسالة المسرح هي محاربة الرذيلة ونشر الفضيلة. ثم تكلم عن تاريخ الإصلاح في مصر وأشاد بمواقف الشيخ محمد عبده. الذي لم يمت لأنه خلفه في دعوته الإصلاحية الشيخ الإبراهيمي الذي قال عنه "لم أصادف أبدا في جولاتي الكثيرة في بلاد العرب، شخصية أثرت عليّ، وجعلتني أِؤمن بالعروبة مثل هذا الرجل العظيم، فهو رجل يصح أن يعلم في مصر، ويعلم كل من يعلم في مصر."
هكذا عرف المصريون قيمة الشيخ الإبراهيمي ودوره الفعال في الحركة الإصلاحية في الجزائر، وسيبقون على الوفاء له حينما ينزل فيما بعد ضيفا على مصر أين وجد الحفاوة والتقدير من نخبتها الثقافية والسياسية والدينية.
مع الهادي السنوسي في سيدي بلعباس
زارت الفرقة المصرية مدينة سيدي بلعباس. وأقيمت لها حفلات تكريم عديدة ترحيبا بمصر في أبنائها وتقديرا لروابط الأخوة الإسلامية. ومنها الحفلة التي نظمها السيد عبد القادر الزواوي في منزله وحضرها الشاعر وأحد أقطاب جمعية العلماء الأستاذ محمد الهادي السنوسي. وقد ألقى هذا الشاعر قصيدة طويلة مدح فيها هذه الفرقة المصرية التي قدمت عروضا مسرحية ناجحة عبر الأقطار العربية، تدعو إلى التمسك برابطة العروبة، وتزرع فيها الأمل، وتحثها على النهضة. وأذكر هنا على سبيل المثال الأبيات التالية:
يا فرقة الفن كم أحييت من وطن
لولاك للعز لم يدرج ولم يثب
مثلت فيه روايات مهذبة
ساقته من هزله للجد باللعب
علمته كيف يبني ركن نهضته
بالعلم والخلق الأسمى وبالنشب
وكيف يجتنب الأخطاء ما عرضت
كي تسلم النهضة الكبرى من العطب
هكذا ربط الأستاذ السنوسي بين الفن والنهضة، فالتطور في الصناعة والفلاحة وغيرها من المجالات لا تستغني عن الفن الرفيع والجمال البديع، فتنمية الإحساس والذوق خطوة ضرورية في مسيرة الإقلاع الحضاري وتحقيق الرقي.
في ضيافة مدرسة الفلاح بوهران
استقبلت مدرسة الفلاح بوهران الفرقة القومية المصرية في فاتح مارس 1950. وقدمت التلميذة حليمة مهدي كلمة حول الفن العربي الجميل. وتحدث الشيخ السعيد الزموشي مدير المدرسة عن الروابط التي وحدت بين الجزائر ومصر وبين العالم الإسلامي. وقرأت المعلمة فاطمة طياب قصيدة كتبها لهذه المناسبة الشيخ عمر البسكري.
ثم قدم الشيخ الزموشي هدية للفرقة، وهي تتمثل في طبق من نحاس يرمز إلى عبقرية الحرفي الجزائري وإبداعاته الفنية التي أراد هذا العالم الجزائري أن يعرّفها للعالم العربي عن طريق الوفد المصري الشهير.
ولمس يوسف وهبي ورفاقه بوادر النهضة في الجزائر بفضل ما تبذله جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من جهود في سبيل نشر العلم والوعي، وقد شاهدوا بأنفسهم إقدام الأطفال والشباب على هذه المدرسة الإصلاحية ومشاركتهم في هذا الحفل بخطابات راقية وإنشاد قصائد شعرية بلغة سليمة.
فهذه المدرسة وغيرها من المدارس الإصلاحية تواكب التطور الدائم في عملية التربية رغم قلة إمكانياتها، وذلك بربطها بتشجيع المواهب ورعايتها. وتأكيدا على هذا الإعجاب، تبرعت الفرقة بمبلغ مالي لفائدة هذه المدرسة.
لقد استوعبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أهمية الفن في تبليغ الرسالة التربوية ونشر الوعي، فأسست نوادي لتحقيق هذا الغرض، واستغلت حضور الفرقة القومية المصرية إلى الجزائر للاستفادة من خبرتها وتجربتها، والاحتكاك برجالها من أجل ربط الصلة بين الفن الأصيل والهادف من جهة والتعليم والتربية من جهة أخرى.
كما حرصت جمعية العلماء على أن توصل رسالتها إلى العالم العربي عن طريق الوفد المصري، فقدمت للفرقة القومية المصرية في كل مرة الصورة الحقيقية لأحوال الجزائر التي كان يعيش فيها أهلها في البؤس والحرمان والجوع والجهل والظلم، مكسرة بذلك الدعاية الرسمية الفرنسية التي تعطي صورة مغايرة الرفاهية والاستقرار في البلاد وولاء سكانها للمحتل. وتغتنم زيارة الوفود الأجنبية إلى الجزائر لتسوّق لها هذه الصورة الكاذبة، ومنها الوفد الصحفي المصري الذي استقدمه في عام 1948 الحاكم العام الفرنسي إدموند نايجلين لمسح الأصداء السيئة المترتبة عن الفضيحة الانتخابية الشهيرة التي نظمها في البلاد، وأقصى فيها الوطنيين الأحرار.