عائلة ابن باديس القسنطينية من خلال موسوعة ”الكتاب الذهبي” الفرنسي عام 1930
بقلم: Marthe et Edmond Gouvion - ترجمة: عبد الله حمادي -
حظيت أسرة آل ابن باديس بصفحة ناصعة في تاريخ العرب بإفريقيا، وذلك مع بدايات القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي تحت زعامة قائدها الشجاع البطل منَّاد بن ماكسِنْ الذي كانت له غَلَبةٌ واضحة على القبائل البربرية بالمغرب.
كانت أصول منّاد من ”مالكانة” أو ”تلكانة”، وهي فرع من قبيلة صنهاجة ذات البأس والقوّة، والتي يرجعها المؤرخ الطبري وابن الكلبي وغالبية المؤرخين أُرومتها إلى أصول حميرية يمنية. خدم منّاد بن ماكسِنْ الدولة الأغلبية بإفريقية أيّام الخليفة العبّاسي المقتدر والقادر، ثمّ خلفه ابنه زيري بن منّاد الذي عُرف بالشجاعة والحكمة التي بفضلهما نال التقدير الذي مَكَّنه من احتلال المراتب الريادية بين سكان البربر.
لقد أصبح زيري بن منّاد من أوائل الأمراء الزّيريين، وكان على قناعة بمبادئ دُعاة الإمام علي بن أبي طالب، وقد سعى لتوسيع نفوذ الفاطميين بإفريقيا، وخدم قضية خليفتهم إسماعيل المنصور هذا الأخير الذي منحه جزءا كبيرا من أراضي إفريقيا وأمره بتشييد مدينة ”اليشير” التي لاتزال معالمها شاهدة بالكاف الأخضر قرب مدينة ”المدية” بالجزائر اليوم.
عام 958 ميلادية استولى قائد الخليفة الفاطمي المُعز لدين الله الفاطمي جوهر الصقلي على مدينة سجلماسة، وتمّ توقيفه من طرف الأمويين الأندلسيين أمام أسوار مدينة فاس، ما اضطر القائد جوهر الصقلي إلى الاستنجاد بزيري بن منّاد، وبفضل دعم الزيريين تمّكن جوهر الصقلي من احتلال مدينة فاس في معركة بطولية كان فيها لبني زيري البلاء المشهود وفي المقابل منح جوهر الصقلي مدينة تاهرت لزيري والتي انتُزِعت من بني يِفْرِنْ.
تمدّد سلطان زيري بن منّاد إلى جزائر بني مزغنّة المعروفة زمن الرومان باسم ”إيكوسيوم” Icosium، والتي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم الجزائر.
عرفت جزائر بني مزغنّة ازدها مُلفة للنظر أيّام بُلُوكين بن زيري (Bologgine) حتّى قال عنها قاغو (Garrot) في كتابه ”التاريخ العام للجزائر” الذي نشر بالجزائر عام 1910:”لقد تجمّلت جزائر بني مزغنّة أيّام بولوكين بن زيري بن منّاد حتّى صارت محلّ إعجاب من طرف الرحّالة البكري الذي وصف معالمها الرائعة، وبوّاباتها الأنيقة وكنيستها العُظمى التي تحولت إلى مسجد جامع”.
أمّا الأمير زيري بن منّاد، وبعد تشييده لمعقله وقصره بالطيطري قُتل وهو يدافع عن الدعوة الفاطمية في معركة حامية الوطيس ضدّ قبائل مغراوة في شهر جويلية عام 971 ميلادية. وقد حُمل رأس زيري بن منّاد إلى قرطبة وعُلّق على بوّابة المدينة، وظل هناك إلى غاية ثورة البربر بقرطبة عام 1009 ميلادية فاقتلعوا جمجمته التي ظلت مُعلّقة وعادوا بها إلى القيروان وتمّ دفنها.
خلف الأمير زيري ولده بولوكين بعد أن ثأر لوالده في انتصارات مشهودة، وظل في خدمة العُبَيْدِيِّين أثناء استقرار عاصمتهم بالمهدية، إلى أن قرّر المُعز لدين الله الفاطمي عام 972 ميلادية الانتقال بمُلكه إلى المشرق واتخاذ القاهرة عاصمة له. في هذه الأثناء كانت مُكافأة المُعز لبولوكين تعيينه أميرا على إفريقيا وحليفا أساسيا للدولة الفاطمية يُعوّل عليه في استتباب الأمن والاستقرار بإفريقيا.
لقد باشر بولوكين من توِّه بسط نفوذه على أراضي إفريقيا، ومُجابهة بقايا حُلفاء الأمويين ونفوذهم إلى أن كانت له الهيمنة المطلقة والاستقرار المُحْكم، آنذاك تفرّغ الأمير بولوكين لإنجاز مشروعه الثقافي الذي كان يحلُمُ به، شأنه في ذلك شأن الأمير النوميدي القديم يوبا الثاني وما خلَّدَه في قيصريته بشرشال.
لقد تمكّن بولوكين من خلق نهضة ثقافية بعاصمته الجديدة جزائر بني مزغنّة، موظفا للنهوض بهذا المشروع الحضاري جِلّة من العلماء في مختلف ميادين المعرفة والآداب، دون أن ينسى دعم حواضر لها مكانتها وشأنها الحضاري مثل مدينة مليانة، ومدينة المدية التي تحوّلت إلى منارات في الفنون المعمارية والآداب الرّاقية.
يعود الفضل للأمير بولوكين بن زيري في توطيد مُلك بني زيري بإفريقيا وعمِل طوال حكمه أن يظل وفيا للخلافة الفاطمية، والوقوف في وجه أطماع بني أمية الأندلسيين، والعمل عل تقويض نُفوذهم ،ومُحاصرتهم إلى غاية العودة بهم إلى مشارف سبتة بشمال المغرب الأقصى وذلك عام 984 ميلادية. بعد العمل الدؤوب الذي اضطلع به الأمير بولوكين تداركه الوَهَن والمرض جرّاء الصراع المرير الذي خاضه طوال السنوات الأربع، وفارق الحياة بتلمسان، وكان على وليِّ عهده المنصور أن قاد جيوشه عائدا بها إلى معقله بالقيروان.
لقد تمكّن الأمير المنصور بن بولوكين بن زيري بن منّاد الصنهاجي من إخماد الفتنة التي أوشكت أن تعصف بملكه، واستطاع أن يخرج منها في غاية القوّة والشدّة، وهو ما جعل الخليفة الفاطمي العزيز بن المُعز يخشي صولته وشدّة عزيمته، فأوعز إلى بعض أعوانه أن يعملوا على الحدِّ من خطر المنصور بن بولوكين، وأوفد إليه أحد قُوّاده المصريين المعروف باسم ”أبو الفهم” حتّى يسعى إلى اغتياله بالسُمّ.
في هذه المُهمّة تمكّن مبعوث الخليفة الفاطمي أبو الفهم من اجتياح نواحي مدينة قسنطينة، لكنّ الأمير الزّيري تصدّى له ولأتباعه وألحق بهم شرّ هزيمة بميلة، وألقى القبض على أبي الفتح بمدينة سطيف، وسلّم أمره إلى عبيده من الزنوج فمزقزه إربًا إربًا، وذلك في حضرة المرسيل الآخرين للخليفة الفاطمي، الذين أوفدهم للغاية ذاتها، وهي القضاء على مناوئه الشديد المنصور بن بولوكين.
من هذه الحادثة التاريخية أعلن الأمير المنصور بن زيري فكَّ ارتباطه بالخلافة الفاطمية، ومات عام 996 ميلادية بعد أحد عشر سنة من التربُّع على السلطة أثبت خلالها حنكة سياسية وإدارية، ظلت راسخة في تاريخ الجزائر أيّام الدولة الزّيرية.
بعد وفاة المنصور بن زيري خلفه على العرش الصنهاجي ولده الأمير باديس بن المنصور بن بولوكين بن زيري بن منّاد؛ وهو أوّل أمير زيري اسمه باديس، الذي سار على نهج أسلافه الشجعان، رافضا الانضواء تحت الوصاية الفاطمية، وهذا رغم مساعي الخليفة الفاطمي المُعز بالله الذي لم يدّخر جهدا في السعي لاستمالة الأمير باديس إلى أركان الدولة الفاطمية، إلاّ أنّ الأمير الزيري الصنهاجي باديس بن المنصور كان ردّه واضحا ومسجلا في مقولته التاريخية الشهيرة:”إن كان على السلطة فقد ورثتها عن آبائي الأشاوس، وإن كان من أجل الحفاظ عليها فسيكون ذلك بسيوفنا هذه”.
جمع الأمير الزيري باديس جيشا كبيرا من فرسان البربر، وزحف بهم على أتباع بني أمية قرب تاهرت، وذلك عام 999 ميلادية وألحق بقائدهم الوزير عبد الملك هزيمة نكراء؛ لكن سُرْعان ما قفل راجعا من أجل إخماد الفتنة التي نشبت بين أعمامه ماكسن وزاوي بن زيري، حيث طلب هذا الأخير اللّجوء إلى الأندلس ليحتمي بالحاجب المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس. وقد تمكن زاوي بن زيري بفضل حنكته السياسية ومساعيه الدبلوماسية من إنشاء إمارة لبني زيري بغرناطة.
أمّا في ما يتعلق بعمِّ باديس الثالث حمّاد بن زيري، فقد ناله نصيب من الملك في منطقة الطيطري جزاء وفائه وخدماته المعلومة في الوسط العائلي؛ انقطع هذا الأخير في تلك الجبال، وجمع حوله بعض أمراء صنهاجة، مع بعض الأعوان من الدولة الفاطمية، وأقدم على الاستيلاء على اليشير والمسيلة، وشيّد بالجبل الأخضر بالمعاضيد قلعته المنيعة أطلق عليه اسم ”قلعة بني حمّاد”، ثمّ أعلن استقلال بني حمّاد بتلك المناطق تحت حماية الخليفة العبّاسي، وهو ما أثار حفيظة باديس بن المنصور، فشنّ هجوما على قلعة بني حمّاد، لكن الموت فاجأه قبل أن يُنهيَ مهمته عام 1016 ميلادية تاركا موضوع الثأر هذا لوليِّ عهده المُعز بن باديس، ليُطَهِّر القلعة من خُصوم أبيه.
لكنّ المُعز بن باديس بن المنصور بن بولوكين بن زيري بن منّاد الصنهاجي لم يُفلح في إخضاع قلعة بني حمّاد، فتوجّه بجيشه شطر القيروان، وبعد فترة وجيزة توصل مع بني عمومته في القلعة إلى اتفاق يقضي بتقاسم إمارة الزيريين، ومن هناك تمكن المُعز من التفرُّغ إلى إخماد الفِتَن القبلية، وبعدها أبرم اتفاقا مع ابن عمّه القائد بن حمّاد ويعلنا معًا ولاءهما للخليفة العبّاسي أبو جعفر القائم بن القادر، وهو ما سيكون مؤشرا على بداية نهاية الإمارة الزّيرية بإفريقيا.
كان لهذا الموقف الزيري ردّ فعل عنيف من طرف الخليفة الفاطمي المنصور المستنصر بالله، الذي أقسم أن يثأر من المُعز بن باديس الصنهاجي في اللّحظة المناسبة، حيث حيّش قبائل مَعَد القاطنة بسواحل النيل، فجمع في عام 1050 ميلادية قبائل بني هلال، وقبائل بني سُليم وقبائل بني قُرّة ومنحهم فرصة الهجوم على بلاد إفريقيا، فزحفوا على مدينة القيروان التي كان على رأسها الأمير الزيري المُعز بن باديس، والذي لم يصمد أمام الهجوم الهلالي القوي، فاضطر إلى الفرار إلى المهدية، التي كان قد سبقه إليها وليّ عهده الأمير تميم بن المُعز؛ فارق المُعز بن باديس الحياة في هذه الأيام العصيبة وذلك عام 1062 ميلادية وبموته دقت ساعة التراجع الزيري الذي باتت إمارتهم قاب قوسين أو أدنى من الزوال. لكن رغم كلّ ذلك تمكّن تميم بن المُعز بن باديس بفضل دهائه من زرع الخلاف بين الغزاة الطامعين، وجعل أيام ملكه الذي دام سبعا وأربعين سنة يعرف شيئا من الاستقرار والعافية.
خلال هذه الفترة، كان الحمّاديون بالزعامة الحكيمة للناصر بن عِلِّناس الذي تمكن من قتل ابن عمّه بولوكين تحت أسوار تلمسان، عِقاباً له على مقتل مُحسن بن القائد بن حمّاد، نجده يغادر قلعة بني حمّاد المُعرّضة لأطماع الغزاة ليستقرّ ببجاية ويطلق عليها تسمية ”النّاصرية”، ولهذه المرحلة يعود تاريخ مسجد بجاية العتيق الذي يُعرف بتسمية ”مسجد الصوفي”، والذي يعتبر من المعالم المعمارية الغريبة ذات الهندسة المعمارية العربية الإفريقية.
يقضي النّاصر نحبه ببجاية عام 1089 ميلادية، ويعرف الحمّاديون بعده العديد من الانقسامات، لينتهي بهم الأمر إلى التقرُّب من الفاطميين بالقاهرة، فيتحكمون في قسنطينة، ويمنح أحد أمرائهم المدعو يحيى اللجوء إلى آخر أمير زيري، المعروف باسم حسن بن علي بن يحيى بن تميم، ومن بداية هذا التاريخ شرع نجم الحمّاديين هو الآخر في الأُفول.
العودة إلى النسب المباشر لباديس بن المنصور بن بولوكين بن زيري بن منّاد الصنهاجي:
في عام 1107 ميلادية، وعلى إثر وفاة تميم بن المُعز خلفه على عرش المهدية ابنه يحيى، الذي يتمتع بالذكاء والقوة والمرونة؛ هذا الأمير تخيّل نظاما عمليا وفعّالا، حيث أنشأ أسطولا بحريا قويا يُمكّنه من فرض هيمنته على البحر المتوسط، وكذلك فرض الجزية على دويلات الساحل، ثمّ أدرك قيمة الفوائد التي يجنيها من التقرب من الخلفاء الفاطميين فأعلن الولاء والانحياز إليهم، لكنّ الموت باغته بطريقة غريبة.
خلفه على رأس الملك عام 1116 ميلادية، ولده علي بن يحيى الذي مكّن بالقوة لدولته بعد حصاره لتونس واحتلالها. لكن سوء التفاهم على الهيمنة البحرية جعل الخلاف يظهر من جديد بينه وبين أمراء صقلية، ما اضطرّه إلى تقوية أسطوله البحري وتشكيل جيش قوي، وشرع في التحضير لحملة كبيرة، لكن الموت باغته، فأجهض مشاريعه العملاقة.
خلفه عام 1121 ميلادية ولده الحسن بن علي، لكن أساطيل روجير النورماندي Roger de Normandie تمكنت من الاستيلاء على العاصمة المهدية، ما اضطرّه إلى الفرار إلى بونة ( عنابة ) التي كانت تحت حكم ابن عمّه الحارث الحمّادي، ومن هناك اتجه إلى قسنطينة وبطلب من ابن عمّه القائد ابن العزيز يوافق على الانتقال إلى جواره بالجزائر، فبقي هناك إلى أن اقتحمها أعداؤهم فاضطر إلى العودة ثانية إلى قسنطينة أين حظي بضيافة كريمة من قِبَلِ الشيخ عبد المومن، هذا الأخير الذي سهّل رحيل الحسن بن على بن باديس وعائلته إلى مرّاكش، حيث كان في انتظاره السلطان يوسف بن عبد المؤمن لكن -وللأسف - كان الموت في انتظاره بتماسين التي منحته تربتها ضريحا لأسرة أمراء الزيريين (542 هجرية / 1148 ميلادية).
”بفضل نجدة عبد المؤمن تمكنت عائلة الحسن بن علي بن يحيى بن المُعز بن باديس بن المنصور بن بولوكين بن زيري بن منّاد الصنهاجي من العودة إلى قسنطينة، أين ستظل مرتبطة بأولياء نعمتهم، تتقاسم وإياهم حلو الحياة ومُرّها”.. هكذا إذًا كيف كانت حال سلالة آل باديس التي ينتمي إليها الأمراء الزيريون الذي انتهى بهم المطاف إلى أن يستقرّ العديد من أفرادها بقسنطينة، ويُعرفُ من بينهم من يحمل اسم يحيى والحسن وعلي وكذلك المُعزّ.
كتب المؤرخ الكبير عبد الرحمان بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، يقول حول موضوع الاستيلاء على قسنطينة من قِبَل السلطان ابن البقاء:”بنو المعتمد وبنو باديس خرجوا للقائه..”. منذ ذلك العهد مال شيوخ آل باديس إلى الدراسات الشرعية، وبرز منهم المشاهير في الفقه والحديث فعُدّ منهم أربعون علاّمة، كما ورد في كتاب ”تكملة الديباج” الذي تلقى مؤلفه العلوم الشرعية على يد أعلام من أسرة آل باديس..”.
أحد أفراد هذه الأسرة الذي حظي في العهود القديمة بمكانة علمية مرموقة هو الشيخ الحسن بن بلقاسم بن ميمون الذي ألّف العديد من المُصنّفات المشهورة، مثل كتاب ”الصنائع” وديوان شعر، وشروح على ابن فارس، وشروح على سيدي خليل، وكتاب ”أعلام القيروان” وغيرها.. وفي هذا المصنف الكبير يأتي على ذكر شيوخه المشاهير.
يأتي من بعده ابنه أبو الفضل، وكذلك حفيده الشيخ الحسن أبو علي، حيث كانا من القضاة المشاهير؛هذا الأخير كان ممّن تولّى القضاء لدى السلطان الحفصي بتونس، لكنه عاد بعد ذلك ليقضي نحبه بقسنطينة عام 788 هجرية.
الشيخ سيدي يحيى أبو زكريا بن الشيخ الحسن أبو علي الذي تقلّد منصب الإفتاء بقسنطينة، وهو والد المُدرّس الشهير الشيخ عبد الرحمان بن يحيى.
أمّا ابن المُدرّس الشهير الشيخ عبد الرحمان بن يحيى فهو العلاّمة أبو البركات مؤلف المصنّف الشهير ”شرح الخزرجية”، وشارح ”ميعاد العرب” لسيدي خليل، وشارح الألفية وغيرها..
ومن الشيخ بركات تنحدر أسرة ابن باديس الحالية المقيمة بقسنطينة، حيث توفي بَركات هذا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري، وعلى نهجه يواصل أعلام أسرة آل باديس نهجه المرسوم في تعاطي العلوم الشرعية والأدبية، ومن بينهم على سبيل الذكر لا الحصر، خَلْف الله بن حسن وابنه أبو علي الذي تولى الإمامة والتقى به المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون وتحاور معه، فقال في هذا الشأن:”هذا الخطيب الكبير صاحب القول الفصل والرأي السديد والمُبرّز في علوم الفلك”.
نحتفظ له بمنصف قيّم في علوم الفلك الذي تناوله بالشرح العالم الشيخ بن علي الشريف من شلاّطة بآقبو. ونذكر كذلك القاضي الحكيم عبد الكريم بن باديس، الذي توفي بقسنطينة عام 1134 هجرية، ونصل في الأخير إلى سليل الكرام الشيخ المكي بن محمد كحول بن علي النُّوري والد سي محمد مصطفى كبير أسرة آل باديس في الوقت الراهن.
أسرة آل باديس في العهد الاستعماري الفرنسي
منها القاضي ابن باديس سي المكي بن محمد كوحيل بن علي النوري :Chevalier de la Légion d’Honneur هو رأس عائلة آل باديس لمّا غزا الفرنسيون الجزائر.
كان قاضيا حظي بالتشريف والمحبة من قبل السلطات الفرنسية رغم صغر سنه، كما نال شهرة واسعة بصفته فقيها بارعا، ولمرّات عِدّة كلّفه الحاج أحمد باي بمهام حساسة؛ لقد استقبل الشيخ المكي الغزاة بصدررحب بحسب ما أملت عليه حكمته وتفضيله إلى الحضارة والرقيّ.
خلال أول حصار لقسنطينة من طرف الماريشال كلوزيل Maréchal Clauzel شهر أكتوبر 1836، احتل سي المكي بن باديس المقعد الأول في المجلس المنعقد عند شيخ الإسلام سيدي محمد لفكون بهدف تقديم عريضة استسلام مُشرف للفرنسيين المُحَاصِرين لمدينة قسنطينة، وإبّان الاستيلاء على مدينة قسنطينة في أكتوبر 1837 من طرف الماريشال فالي Maréchal Valée عمل بمعية أعيان المدينة الآخرين على تشجيع وتسهيل مهمة دخول الجيش الفرنسي إلى مدينة قسنطينة.
لقد حمِد الماريشال لهذا الشاب حسن سلوكه، وهو ما أبان عن صدق ولائه للجيش الفرنسي، وهو ولاء سيظهر أكثر في المستقبل، خاصة أيام إنشاء ما صار يُعرف بـ”مصالح الأهالي” بقسنطينة Services des indigènes، حيث تمّ تعيين الشيخ المكي بن باديس نائبا لرئيس الدوائر العسكرية القاضي الخطير الشيخ الشاذلي، والذي سيخلف الشيخ المكي بن باديس رئيسه في ما بعد، على رأس هذه الدوائر العسكرية الفرنسية بعد تعيين القاضي الشيخ الشاذلي أستاذا للشريعة الإسلامية بما يسمى ”المدرسة” La Medersa.
خلال زيارة جلالة الأمير فيليب دي أورليون le Prince Filippe d’Orlèans إلى قسنطينة سنة 1839، تمّ تكليف الشيخ المكي بن باديس لتقديم خطبة تِرْحاب بين يدي جلالته، فكانت خطبة غاية في الروعة، حظيَ على إثرها بهذه المناسبة، بموفور الثناء والشكر الجزيل من طرف كل الحضور.
وفي 6 أفريل 1851 تمّ تعيين سي المكي بن باديس كمحافظ على رأس دائرة ”شؤون العرب” direction divisionnaire des affaires arabes بقسنطينة؛ ويُعبِّر هذا التشريف على مدى الثقة الحقيقية التي يوليها الحاكم العام الفرنسي إلى عائلة ابن باديس.
إنّ مسار الشيخ المكي بن باديس ظلّ ملتزما فيه بأسلوب الحكمة المتوارث عن عائلته عبر العصور، لكونه يشكل ميراث آل باديس، وهو ما يميّزهم إلى يومنا هذا؛ فالقاضي سي المكي بن باديس يضطلع دائما بالمهام المنوطة به على أحسن وجه في مصلحة شؤون الأهالي العرب، وإليه يعود الفضل في صياغة القانون العُضوي للمحاكم الشرعية؛ وهو القانون الذي لايزال سائر المفعول إلى غاية الساعة.
والشيخ المكي بن باديس خلال إعادة الانتخابات للمحاكم المدنية تمّ تعيينه على رأس الدائرة القضائية لقسنطينة، وفي الوقت ذاته تمّ تعيين ابنه البِكر سي الشريف كرئيس غرفة بالدائرة الثانية. وهي علامة على مستوى الثقة الممنوحة لهذه الأسرة من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية التي وضعت بين يديها كل ما يتعلق بالقضايا القانونية في كامل مدينة قسنطينة، وذلك لأنّ عائلة ابن باديس أثبتت جدارتها وكفاءتها.
لعب القاضي سي المكي أيضا، في الوسط المدني دورا فاعلا في غاية الأهمية، حيث أُسندت له مهمة المساعد لدى الاستشارية العامة التي تُعدُّ جزءا من اللجنة البلدية لقسنطينة، كما ساهم بطريقة حكيمة وصارمة في مناقشة القضايا الهامّة. وكان يشارك دائما في هاتين الجمعيتين إلى غاية تاريخ 1881 أين خلَفَه ابنه سي الشريف.
لقد ساهم الشيخ المكي بن باديس بقسط وافر في كل القضايا المتعلقة بشؤون الأهالي، وبشكل خاص في الاحتجاجات التي قُدّمت من طرف ألكسيس لومبير Alexis Lambert ومارسيل لوسي Marcel Lucet ضدّ قانون كريميو Crémieux. وانتدب الشيخ المكي بن باديس كمحافظ للمستعمرة في المعرض الدولي في أعوام 1855 و1867 وكذلك 1878، وعلى إثرها تمّ تعيينه رئيسا للجنة الثقافية الإسلامية لقسنطينة وعمالتها.
وفي سنة 1875 عيّن عميد أكاديمية الجزائر الشيخ المكي بن باديس عضوا باستحقاق في المجلس الاستشاري للتربية، وهو ما جعله يعتمد على كلّ مهارته العلمية من أجل توسيع رقعة التعليم وسط الأهالي. وقد لوحظ في كل المشاورات التي دارت في المجلس الاستشاري بحضور عالي الهمّة سي السعيد بن علي الشريف بشاغا شلاّلة، والقبطان ابن ادْريس، ودفاعهما عن المزج بين الفوجين. وكان الشيخ المكي بن باديس من المتحمسين الداعمين لمبدأ مزج أبناء المعمرين وأبناء الأهالي خدمة للمصلحة الضرورية للمستعمرة الفرنسية.
وفي الأخير، وكتتويج لهذه الصفحة النّاصعة، من التاريخ أين سجلت في كل أجزائها التشكرات المُستحقة لهذا الرجل الشهم، والذي في الوقت ذاته لا ننفي أن بعض حكام المستعمرة لم يحسنوا استغلال مثل هذه المهارات، فالحكومة الفرنسية مثلا لم تتردد في تكليف الشيخ المكي بن باديس للقيام بمهام إنسانية ففي سنة 1862، وفي 1868 كلفت الشيخ المكي بن باديس لتوزيغ المساعدات على المحرومين من الأهالي، وهي أيضا المناسبة التي صادفت عام المجاعة التي أظهر خلالها الشيخ المكي قلبا وَسِعت رحمته المحتاجين، واضطلع بمهام معتبرة كفتحه لمخازنه ومدّخراته ليضمّد جراح المكلومين، ويسدّ رمق الجائعين دون تمييز عرقي أو ديني، وهو ما جعل سكان قسنطينة يُقرون لهذه العائلة الشريفة بهذه الفضائل.
وكمكافأة على هذه الخدمات المُقدمة حظي الشيخ المكي بن باديس بتوشيحٍ من نوع خاص، جاءه مباشرة من يد نابليون الثالث عام 1864، حيث رُصِّعَ صدره بوسام ”صليب فرقة الشرف”
La Croix de la Légion d’Honneur”، وهو تشريف ترك صدىً طيبا، وخاصة في تلك الفطرة العصيبة.
توفي الشيخ المكي بن باديس بقسنطينة سنة 1889 تاركا وراءه محبة الجميع، وجليل أعماله وخالص أفضاله. ووُريَ الشيخ الثرى في مقابر آل ابن باديس في المكان الممنوح لدفن موتى العائلة.
أمّا سي الشريف بن الشيخ المكي، وبعد تعيينه على رأس الدائرة الأولى القضائية لقسنطينة خَلفا لمهام والده التي أُنيط بتقلدها من قبلُ إلى غاية 189، نجدهُ يكتفي بلقب نائب عن الأهالي بواد العثمانية، مع اهتمامه الخاصة بشؤونه الفلاحية.
سي محمد مصطفى بن الشيخ المكي بن محمد كحول فارس فرقة الشرف Chevalier de la Légion d’Honneur
سي محمد مصطفى بن باديس إلى غاية الساعة لم يتقلد أيّ مسؤولية إدارية أو انتخابية، رغم الإلحاح عليه من طرف الكثير من أصدقائه. إنّ صفاته الموروثة وروحه المتوازنة، جعلته يتجنب الخوض في السياسة المرتبكة وأحيانا المُرْبكة، لكن واجب الوطن كان في حاجة إلى قُدُراته، وكان عليه أن يستجيب ويقدّم قُصارى جهده في كلّ ما يخدم شأن الأهالي، حيث وظف العديد من المتطوعين، فكان يشدّ على يد هؤلاء، ويشجّع الآخرين ويسجل في ضمير كل مساعديه ضرورة تحقيق النجاح الكامل للوطن وللجيش .
فكان دوره منذ بداية الصدام العمل على تهدئة النفوس، ما جعل مرؤوسيه في الإدارة الاستعمارية يغدقون عليه في المناسبات الكبرى آيات الشكر والعرفان.
أمّا سيرة سي مصطفى فهي تعكس صدق أحاسيسه، وهدوء طبعه المكتسب بالفترة، لكنه يبقى مع ذلك قويّ الشكيمة إذا اقتضى الأمر، إنّه كريم القلب، لقد عبّر في العديد من المواقف عن ارتباطه الوثيق، وإخلاصه المثالي لفرنسا.
ولد سي محمد مصطفى بن باديس سنة 1868، وككلّ مسلم سوي تلقى تعليم القرآن في بداية حياته، كما كان مهتما بشرح السنّة والأحاديث النبوية، مع تعمّق في تعلم اللغة الفرنسية الذي نال منها حظا وافيا، وهو ما جعل تجارته الخاصة ممتعة وناجحة.
كان في وِسع الشاب سي مصطفى السير على نهج أبيه وأخيه في ممارسة القضاء، لكنه فضّل الاهتمام بالأملاك العائلية، وتسيير الشؤون الزراعية باقتدار وكفاءة، لاقتناعه بالطرق الناجعة التي تمارسها فرنسا في فلاحة الأرض. فكان يكثّف من خدمة أراضيه التي تدرّ عليه بكثرة المحاصيل وموفور أعشاب العلف لمختلف أنواع حيواناته؛ فسهول ”الهرية” و”واد زناتي” قد عرفت تغيرا جذريا بفضل جهوده المستنيرة في تلك المزارع المترامية.
إنّ انشغالات سي مصطفى بن باديس الفلاحية لم تمنعه من المشاركة في الشؤون العامة، حيث عُيِّن قاضيا مرسما في المحكمة الرّدعية بالخروب، وعمل في هذا الشأن لسنوات رفقة رئيس المحكمة، وكان حضوره في الجلسات بمثابة الدّعم الكبير للعدالة بفضل حكمته وجدّيته في اتخاذ القرارات الصائبة في هذا القطاع الحسّاس والعويص جدا، فكان ينير بفضل رأيه الرصين، وروح الاعتدال فيه التفهّم الدقيق لبعض الخصوصيات التي يتميّز الأهالي.
أمّا الخدمات الجليلة التي قدّمها سي مصطفى إلى مواطنيه المقربين من الحاكم العام الفرنسي، فهي محلّ تقدير وعرفان من الجميع. وتمكن الإشارة إلى عيّنة من هذه الخدمات، والتي تتمثل في مساعدته الثمينة في تزكيته لسي عمار مُوفق الكاتب العام بالولاية، وهو الشخص المثقف والذكي والذي ينتمي بدوره إلى عائلة عريقة المَحْتد، ومعروفة بولائها لفرنسا .
كما لا ننسى الإشارة أنّ آل ابن باديس هم حلفاء لأساطنة القانون بن كاري Benakari من بونة ( عناب).
أمّا أبناء سي مصطفى فهم كالتالي:
أكبرهم الشيخ عبد الحميد بن باديس أستاذ الشريعة الإسلامية، وتلميذ قديم متميّز، ومتوّج بالتفوق من جامع الزيتونة بتونس، فشهرته مشهود لها اليوم بين أقرانه المثقفين المتنورين من المُعَرّبين.
والأصغر من أبنائه هو سي المولود المعروف بالزبير، وهو شاب ظريف ذو روح متوثبة، ومتوج بشهادة الباكالوريا.
وابنه الآخر هو سي العربي فلاح نشيط.
وأمّا سي سليم فهو الطالب الشاب المعروف باجتهاده، وينتظره مستقبل زاهر.
وحتّى نختم نقول: إنّ سي مصطفي بن باديس له طبع قويم ووفي، وله قلب صادق وكريم، وهو ما جعل أسرة آل ابن باديس يلتفون حوله نظرا لرحابة صدره، وكلّ من يقترب منه يجد فيه هذه الخصال فيقدّره أكثر..