مالك بن نبي والتحوّل من الهندسة إلى الفكر ضرورة أم خيار
بقلم: الطيب بن إبراهيم -
أثرى المفكر الإسلامي مالك بن نبي (1905 - 31 أكتوبر 1973) - أحد عمالقة الفكر الجزائريين المعاصرين - الساحة الإسلامية والعالمية بفكره الاجتماعي وتنظيره الحضاري ومنهجه الهندسي.
خمس سنوات مرت على مالك بن نبي وهو يحاول التخلص من أزمته الاقتصادية دون جدوى فقرر العودة لفرنسا مرة ثانية سنة 1930 لإكمال دراسته وكان حلمه الدخول لمدرسة اللغات الشرقية تحضيرا للدخول لكلية الحقوق وممارسة وظيفة المحاماة.
غير أن مشروعه بل مشاريعه فشلت بسبب المقاييس السياسية التي يؤخذ بها حسب تعبيره وفي الوقت الذي كان مالك في غرفته منشغلا بخيبة أمله وبجواره صديقه المصور الزيتي الفنان (برونيه) ينظران من خلال نافذة غرفتهما إلى الشارع وهما يلحظان فوجا من طلبة مدرسة اللاسلكي يخرج من قاعات الدراسة ويغادر المدرسة وإذا بصديقه (برونيه) يفاجئه بسؤال وهو: لماذا يا صديقي لا تغير اتجاهك وتنتسب إلى هذه المدرسة ؟. كان السؤال مفاجئا لمالك لكنه فتح له بابا جديدا للأمل مرة أخرى وبدون تردد وعلى الفور نزلا من غرفتهما وقصدا المدرسة وسألا عن شروط وكيفية الانتساب لها وكانت الشروط في متناوله ومباشرة سجل مالك نفسه كطالب للهندسة الكهربائية في مدرسة اللاسلكي ولم يكن يشعر أن الأقدار كانت تنسج خيوط حياته هناك.
يقول مالك ابن نبي عن حياته الجديدة أنها كانت بالنسبة له كالوارد على دين جديد فغيرت حياته تغييرا جذريا وأسكنت في نفسه شيطان العلوم وفتحت له عالما جديدا يخضع فيه كل شيء لعالم الهندسة إلى القياس الدقيق والكم والكيف والضبط والملاحظة وكان ذلك بمثابة باب دخل من خلاله إلى عالم الحضارة الغربية وتكنولوجيتها.
مدة خمس سنوات قضاها بن نبي في أخذ العلوم العلمية والرياضية والفيزيائية والهندسية في أرقى المدارس الأوروبية وفي أرقى مدنها باريس بالإضافة لذلك المؤهلات والخصائص الذاتية التي تتميز بها شخصيته من ذكاء حاد وقوة تركيز وبعد نظر ودقة تحليل وعمق أفكار ومنهج صارم.
خلال هذه المدة كان مالك مهتما بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي تعرفها الجزائر وطنه وفرنسا المقيم بها والعالم من حوله وكان يتحرك في كل اتجاه فهو المتابع والقارئ للصحافة بكل اتجاهاتها وهو المثقف الشغوف بالالتقاء بالشخصيات السياسية والفكرية الوافدة لفرنسا كشخصيات جمعية العلماء المسلمين وعلى رأسهم عبد الحميد ابن باديس وبعثات علماء الأزهر كالشيخ عبد الله دراز والزعماء السياسيين كالزعيم الهندي غاندي وهو الطالب النشط ضمن جمعيات الطلبة وهو الوطني المناضل المهتم بالأحداث الوطنية والسياسية والثقافية.
كانت فترة ما بعد إكمال ابن نبي لدراسته الهندسية كانت فترة عدم استقرار وقلق للتخلص من البطالة والحصول على عمل يعتمد عليه ويشد به أزره ويرفع من معنوياته ويجعله يضمن لنفسه نفقات ومصاريف الحد الأدنى على الأقل لحاجاته وحاجات أسرته.
كان مالك يتميز بالذكاء والدقة والقدرة على التحليل ومما أسعده في إحدى سهراته أن مدير مدرسته (سودري) طرح سؤالا بطريقة ذكية في الرياضيات لم يجب عنه أحد باستثناء مالك كما أن تميزه كان مصاحبا له حتى في غير مجال الهندسة والرياضيات ففي مقال له بعنوان: مثقفون أم مثيقفون قال عنها أنها أول مرة في حياته في هذه المقالة يواجه عملية توليد العقل وبعد الانتهاء من كتابة مقالته قرأها على زوجته لتعلق عليها قائلة له: لا أعتقد أنه من تحريرك بل أراه من وحي السماء ولم يكن يعلم مالك أن هذه المقالة كانت باكورة أعماله الفكرية في سلسلة عمليات توليد للعقل لا تنته إلا بنهاية حياته.
كانت بداية مالك في الكتابة ممثلة في مقالاته التي كتبها للرد والتعبير على مواقف سياسية وثقافية لم ينشر معظمها وقد يكون من أسباب عدم نشرها ليس لعدم موضوعيتها ولكن لأنها تصدر عن عقل هندسي ورياضي لا يرق فكر الجميع لمستوى إدراكه وطرحه. فإذا كانت عوامل البيئة على رأي (دوبو) هي التي تهندس وضع الإنسان في الحياة وطبيعته فما بالنا بالهندسة نفسها !؟.
وإذا كانت الهندسة هي فن القياس والمنطق هو فن التفكير والرياضيات فن الحساب فهل ابن نبي اختار أحد هذه الفنون أم أخذها جميعا وجمعها في فن واحد !؟. ألم يعرف لنا مالك في كتاباته الحضارة في صيغة رياضية : الحضارة = إنسان + وقت + تراب ألم يقدم لنا سير تاريخ الحضارة الإسلامية وتطورها بشكل ورسم بياني هندسي متعدد ومتنوع الزوايا والانحناءات من مرحلة الروح إلى مرحلة العقل ثم مرحلة الغريزة!؟.
يقول مالك بدأت بواكر الفكر الاجتماعي تخامر عقله وهو في مدرسة اللاسلكي خاصة منذ حضوره معارض باريس سنة 1931م وما كان يلفت انتباهه ما يقدم في المعارض من صور كاريكاتورية عن الشعوب الإسلامية ونظرة الغرب الدونية لها كانت تلك المشاهد وما تلاها المناسبة التي بدأ فيها تحوله كما يقول من دراسته الهندسية إلى الاهتمام بالفلسفة والفكر وعلم الاجتماع والتاريخ أكثر من الاهتمام بمواد مدرسة اللاسلكي. هذه الحالة التي عاشها ومرّ بها ابن نبي والتي تجمع بين الهندسة والفلسفة هي الحالة التي وصفها غاليلي بقوله: إن الطبيعة هي كتاب الفلسفة الضخم المكتوب بلغة رياضية.
إن تحول ابن نبي من الهندسة للفكر والفلسفة لم يكن مفاجئا ولا غريبا فالعلاقة بين المجالين جد وطيدة والظاهرة مر بها قبله أشهر الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ الحضاري للشعوب من أفلاطون إلى ليبنيتز وديكارت وغيرهم كثير في كل الحضارات لأن المفكر يفكر بأدوات وينطلق من أشكال وزوايا كلها مستمدة من عالم الهندسة والأرقام وحسب قول شبنجلر: إن كل عملية منطقية هي عملية قابلة للرسم وإن كل منهاج هو نهج هندسي في معالجة الأفكار.
مشكلة العالم الإسلامي التي يعاني منها في نظر ابن نبي هي مشكلة حضارية وليست مشكلة اقتصادية أو دينية أو سياسية كما دعا محمد عبده وجمال الدين الأفغاني فالمصلح الديني أو السياسي هو في الحقيقة مهتم بجزئية فقط بعيد عن المشكلة الحقيقية الحضارية.
عاش مالك منشغلا بمشكلات الحضارة كظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ودينية وتاريخية محللا عوامل ظهورها وأفولها مرورا بمراحل تطورها ونتائجها وكان أستاذه الأول في ذلك ابن خلدون وهكذا ظل مالك يفكر ويكتب ويحاضر ويشارك في الملتقيات والندوات وحتى في بيته إلى أن وافاه الأجل في مثل هذا اليوم 31 أكتوبر 1973م وهو يتابع أخبار حرب 6 أكتوبر العربية الإسرائيلية.