عبد الله شريط الـمفكر الرائد والفيلسوف الـمناضل
بقلم: محمد سيف الإسلام بوفلاقة -
يعد المفكر الجزائري الدكتور عبد الله شريط (1921-2010م) واحداً من كبار المفكرين المعاصرين، ومن أبرز رواد التفكير الفلسفي في الجزائر والوطن العربي،فهو أحد أعمدة الثقافة العربية الجزائرية، ومن رواد الفكر النهضوي العربي،تميز بفكره الشامل، ونضاله المستمر،نجد له حُضوراً بارزاً في عالم الفلسفة العربية المعاصرة،ففي أعمال الندوة التي عقدتها الجمعية الفلسفية قبل سنوات قليلة في القاهرة عن الفلسفة العربية في مائة عام ورد ذكر اسم المفكر عبد الله شريط 25 مرة إلى جانب المفكرين زكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي...
رحل أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الله شريط يوم:10يوليو-جويلية2010م، وبرحيل هذا العلاّمة الموسوعي تكون الساحة الثقافية في الجزائر والوطن العربي قد أصيبت برزء فادح،فقد أحدثت وفاته ثلمة لا تسد، وثغرة لا تردم، كما كانت حياته شعلة وضاءة لا تخبو، وجذوة متوقدة لا تنطفئ، إذ ملأ الدنيا وشغل الناس ردحاً من الدهر، فقد مات عن تسعة وثمانين عاماً قضى منها أكثر من ستين عاماً مُتنسكاً في محاريب العلم، والفكر، والمعرفة،ومن الصعوبة بمكان تصنيفه أو إدراجه في زاوية معينة،فقد كان متعدد الاهتمامات،ومتنوع الاختصاصات،فهو شاعر رومانسي رقيق،وأديب عُرف بأسلوبه المبسط، والسهل الممتنع،إذ يتميز أسلوبه في الكتابة بالدقة،فيضع الكلمات في مواضعها،بعيداً عن الإطناب المُمل، والاختصار المُخل،إضافة إلى أنه ناقد أنجز عدة دراسات نقدية،كما أنه مترجم بارع،حيث إنه يتقن اللغة الفرنسية بامتياز،إلا أنه لا يهجر إليها فكراً ولساناً،ظل طوال حياته من أبرز المُدافعين عن اللغة العربية في الجزائر،وفي سبيلها خاض الكثير من المعارك الفكرية العاتية ضد دعاة الفرنسة والتغريب،كما قدم أفكاراً ورؤى معمقة في سبيل النهوض بها، وترقيتها في الجزائر والوطن العربي، وقد عشق الدكتور شريط العلاّمة ابن خلدون،فتبنى المنهجية الخلدونية في رصده للظواهر الاجتماعية، وعلى ضوئها درس عدداً من مواثيق الثورة الجزائرية،مثل:ميثاق الصومام، والميثاق الوطني، وميثاق طرابلس. وكما وصفه أدق وصف صديقه الأستاذ الدكتور محمد الشريف عباس؛وزير المجاهدين الجزائريين السابق بقوله:« عبد الله شريط رجل مُتعددّ الأبعاد،مُتنوّع الثقافات،مُتبحر في العلوم،جمع بين المشارب المعرفيّة وبين حداثة الفكر،لقد حباه المولى عزّ وجل قدرة على التحصيل المعرفي وعلى الاستقراء والتحليل،رجل اختار النضال الفكري والمعرفي منذ شبابه،فقد كان كاتباً صحافياً في جريدة الصباح التونسية،يُدافع عن القضية الجزائرية بقلمه،فمُجاهداً فذاً ومُناضلاً مُخلصاً،وأستاذاً بجامعة الجزائر بعد الاستقلال. يكفيه فخراً أن أنجز موسوعة كاملة عن الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية في عدة أجزاء،فهو فيلسوف، ومؤرخ، وصحفي، وباحث لامع،لا تراه إلا جليس العلماء،أو وسط كوكبة من الطلبة،أو صفوة الذكر في الملتقيات والندوات،وباختصار هو واحد من أبرز فرسان القلم الجزائريين الذين تجشّموا مشاق الكتابة، والتدوين، وإبراز الجوانب الحضارية لهذه الأمة»(1) .
عُرف الدكتور عبد الله شريط بأعماله الفكرية الرصينة،وكتاباته الفلسفية المعمقة التي حلل فيها أهم قضايا الجزائر، والأمة العربية،وقد انطلق في رحلته مع النضال بالقلم مع بداية الأربعينيات، وذلك بغرض تحرير وطنه الجزائر،الذي كان يرزح تحت ويلات الاستدمار الفرنسي،وإضافة إلى عمله الأكاديمي، وبحثه في مختلف الميادين المعرفية،فهو إعلامي متميز أسهم في إثراء التجربة الإعلامية الجزائرية،بتقديمه لعدد من البرامج الثقافية الهامة في الإذاعة الجزائرية«لقد جمع المرحوم بين عزّة النفس بلا غرور، وسرعة البديهة،وكأنه يقرأ أفكار محاوريه،و كانت له ذخيرة ثرية من تجارب الحياة يرجع إليها إما للعبرة والاستدلال، وإمّا لمعاينة مفارقة بين الأمس واليوم،فمن النادر أن تجد في خطاب الرجل أفعال الكينونة الماضوية من نوع كنتُ، وكُنا، وكانوا،إنه في البدء والمنتهى على النهج الباديسي(نسبة إلى العلاّمة الجزائري ابن باديس)،ومن المؤمنين بإسلام البرهان، ومن أنصار التنوير على منابر الإعلام، وفي فرص الخطاب العام.تميز الأستاذ شريط بسعة اطلاعه على التراث المعقول والمنقول، وما استجد من أدبيات الفكر الحديث والمعاصر،فهو الفيلسوف البارع في التنظير بلا لفظيات سطحية،أو تعقيد مفتعل، وهو عالم الاجتماع الخلدوني الهوى،فقد درس وحلل وأضاف جملة من المفاهيم الجديدة لمسائل على درجة كبيرة من الأهمية،مثل:بنية المجتمع، وأخلاقيات الدولة من المواطن إلى أجهزة ومؤسسات الدولة،ومن أهم القضايا التي شغلت الأستاذ شريط ظهور، وانحدار،ثم انهيار الدولة، ومسألة العلاقة بين التطور الاجتماعي والسياسي، وأخلاقيات السياسة والساسة، وازدهار الثقافة والتثاقف على أوسع نطاق بين الجمهور،ويمكن وصف الأستاذ شريط بالمثقف الشامل أي الذي يوظف جملة من المعارف والمقاربات المنهجية للتعمق في القضايا التي تشغل النخبة الفكرية والسياسية»(2) .
مـوجـز تـرجـمتـه:
ولد عبد الله شريط سنة:1921م في بلدة مسكيانة التابعة إدارياً لولاية أم البواقي بشرق الجزائر، والتحق في صباه بكتاب القرية لحفظ القرآن الكريم كعادة أبناء الجزائر في ذلك الزمن،ثم تعلم في إحدى المدارس الابتدائية الفرنسية ببلدة مسكيانة، وانتقل سنة:1932م إلى مدينة تبسة،حيث التحق هناك بإحدى مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي كانت معروفة باسم مدرسة تهذيب البنين والبنات، وفي هذه المدرسة تتلمذ على يد العلاّمة الجزائري الكبير الشيخ العربي التبسي؛ رفيق درب العلاّمة عبد الحميد بن باديس،والشيخ البشير الإبراهيمي، وفي سنة:1938م ذهب إلى تونس للدراسة، وبعد فترة وجيزة توقف بسبب الحرب، وعاد إلى مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، ودرس بها، وفي سنة:1945م عندما انتهت الحرب العالمية توجه إلى تونس مرة أخرى، وحصل على شهادة التطويع من جامع الزيتونة سنة:1946م.
انتقل عبد الله شريط إلى الشام،بعد المرور على فرنسا سنة:1947م بجواز سفر مزور، وقد تمت هذه العملية بمساعدة مجموعة من النواب الجزائريين في باريس،من بينهم المناضل الكبير محمد خيضر الذي كان يشغل منصب ممثل حركة انتصار الحريات الديمقراطية في المجلس الوطني الفرنسي، وبعد أن ذهب إلى لبنان التحق بالجامعة السورية، وسجل سنة أولى أدب عربي، وبعد فترة غير التخصص،وانتقل إلى قسم الفلسفة بالجامعة نفسها، وحصل على شهادة ليسانس تخصص فلسفة سياسية سنة:1951م، وفي السنة نفسها عاد إلى الجزائر، ونظراً لمحاربة الاستعمار الفرنسي للغة العربية، وتجريمه لكل من يتعلمها،فقد ظل عبد الله شريط بدون عمل،مما اضطره إلى السفر إلى تونس سنة:1952م، وهناك تولى التدريس في جامع الزيتونة بالمعهد الجديد الذي استحدث لتدريس العلوم الحديثة، وفي الوقت نفسه كان يعمل بجريدة الصباح التونسية، وبعد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية المظفرة كثف جهوده للتعريف بالقضية الجزائرية، وانضم سنة:1955م إلى أسرة تحرير جريدة المجاهد الجزائرية؛لسان حال حزب جبهة التحرير الجزائرية، وأضحى عضواً من أعضاء البعثة السياسية لجبهة التحرير الوطني،فقدم خدمات جليلة للثورة الجزائرية على الصعيد الإعلامي،حيث ترجم عشرات المقالات التي كانت تُكتب عن الثورة الجزائرية إلى اللغة العربية، وبعد إصدار جريدة المقاومة كُلف بتحرير افتتاحياتها،وظل يُترجم المقالات المنشورة في الصحافة الدولية عن الثورة الجزائرية إلى اللغة العربية،وبعد استرجاع السيادة الوطنية، واستقلال الجزائر سنة: 1962م، عمل أستاذاً بجامعة الجزائر، وواصل نضاله الفكري والسياسي، وحصل سنة:1972م على شهادة الدكتوراه بأطروحة عن:«الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون»،كما ساهم في مرحلة بناء وتشييد الدولة الجزائرية بمجهود وافر في نشر الثقافة الفلسفية والتربوية في علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع التربوي، وذلك من خلال مداومته على تقديم حصة إذاعية، وحصة تلفزيونية لقيت نجاحاً كبيراً، وأعجب بها المثقفون الجزائريون أيما إعجاب،إضافة إلى تمثيله الجزائر في عدد من الندوات والملتقيات الدولية،كما ناقش وأطر مئات الرسائل الجامعية،وتخرجت على يديه آلاف الكفاءات في مختلف المراتب، والمستويات.
كرِّم الدكتور عبد الله شريط العديد من المرات من قبل عدد من المؤسسات العلمية، كما كُرم من قبل الرئيس الراحل هواري بومدين في أواخر السبعينيات، وحصل على جائزة الدولة التقديرية الأولى مناصفة مع الأديب الراحل الروائي الطاهر وطار،وكُرم من قبل رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق علي بن فليس ، ووزير المجاهدين محمد الشريف عباس تقديراً على إنجازه لموسوعته الضخمة عن: « الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية». وقد نُظمت عدة ملتقيات وندوات علمية وطنية ودولية حول مشروعه الفكري المتميز، ومن بين هذه الندوات نذكر الندوة العلمية التي نظمها مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية بجامعة منتوري بقسنطينة لدراسة آثاره الفلسفية والأدبية والتاريخية سنة:2004م،وقد حضرها عدد كبير من الباحثين والمفكرين،وصدرت أعمالها في مجلد كبير.
أعماله ومؤلفاته:
تميز الدكتور عبد الله شريط بسلامة منهجه،وعمق فكره، وموسوعية ثقافته،وهذا ما يتبدى للمتأمل في أعماله المتنوعة،ونظراً لاتساعها لا يُمكن لنا أن نحيط بها إحاطة شاملة،بل سنكتفي بالتطرق إلى أهمها،والجدير بالذكر أن أعماله الكاملة قد صدرت في طبعة فاخرة في سبعة مجلدات ضخمة عن وزارة الثقافة الجزائرية بمناسبة احتفالية الجزائر عاصمة للثقافة العربية سنة:2007م،احتوت جميع أعماله الفكرية وكتاباته الفلسفية التي ناقش فيها أهم قضايا الجزائر، والأمة العربية.
والواقع أن المتأمل في أعمال الدكتور عبد الله شريط يُدرك بأنه قد قدم لنا مكتبة فكرية،وفلسفية،وأدبية كُبرى تعجز عن القيام بها فرق أبحاث مجندة في تخصصات مختلفة، وأعمال المفكر عبد الله شريط لم تقتصر على تأليف الكتب،بل تنوعت من خلال المشاركة في وسائل الإعلام، وتقديم حصص إذاعية، وتلفزيونية،أشهرها برنامجه الحواري مع الإعلامي مصطفى عبادة، أضف إلى ذلك كتابته في الصحافة، ومشاركته في عشرات الملتقيات،والندوات العلمية، ومن آخر النشاطات التي قام بها الدكتور شريط قبل تدهور حالته الصحية إلقاؤه لكلمة متميزة في الندوة التكريمية التي أقيمت له بالمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر،تحدث فيها عن شخصيته،واهتماماته،ومما قاله في تلك الكلمة:«ما نحن في حاجة إليه منذ سنوات الاستقلال إلى اليوم، وخاصة في السنوات الأخيرة هي ليس الدولة،لأن الدولة من السهل أن تكونها بالقوانين وبالإجراءات الاقتصادية وبالسجون وغيرها، ولكن ثقافة الدولة التي تتطلب أن تكون موجودة عند الحاكم وعند المحكوم،لذلك قضيت ما يقرب من عشر سنوات في تأليف كتاب انتهيت من كتابته في خمسة عشر فصلاً عن مشكلة ثقافة الدولة،كيف كانت؟لماذا كنا محرومين من الدولة في الماضي؟وماذا كان مفعول هذا الحرمان على الأجيال إلى يومنا هذا؟وماذا نفعل لكي تكون لدينا ثقافة الدولة؟نعتمد أولاً على الزمن،تطور الزمن لابد منه،لكن لابد من مجهود فكري، وثقافي، وتعليمي،وسياسي بالخصوص، وأخلاقي،لكي تتكون لدينا ثقافة الدولة هذه.ربما على عشر سنوات على عشرين سنة على ثلاثين سنة لا أعرف،المهم أن ما يشغلني الآن على ضوء هذه التجربة كلها التي قرأتها مع إخواني،التجربة التي خرجنا منها هي أن المشكلة الحقيقية هي التي وضعها سقراط عندما قال:الأخلاق هي التي تقوم عليها الدولة،وليس الدولة بمعنى الحاكمين فقط، ولكن الحاكمين والمحكومين،لذلك أتمنى لو ينصرف الكثيرون من جيلنا،وحتى من الأجيال القادمة إن شاء الله إلى معالجة تكوين ثقافة الدولة،لأن فيها حل لكل المشاكل التي نعاني منها اليوم»(3) .
إضافة إلى المحاضرة الهامة التي ألقاها بالمكتبة الوطنية الجزائرية تحت عنوان: «البعد الإنساني في فكر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»حيث أكد فيها أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي واحدة من الحركات الرائدة في العالم الإسلامي،فقد تكفلت بالجانب التربوي، والتثقيفي، والديني، والإصلاحي في الجزائر إبان سيطرة الاستعمار الفرنسي،وذلك في إطار عملية الإصلاح التي كان ولابد أن تسبق و تواكب ثورة التحرير الجزائرية المجيدة،كما أشار إلى أن رجال الإصلاح في الجزائر دخلوا المعترك السياسي مدفوعين بروح القومية العربية،فاستخدموا الثقافة الدينية للإعداد لمعركة تحرير الوطن من الاستخراب الفرنسي،واختتم شريط مداخلته بتأكيده على أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين استطاعت أن تُحدث التحول الكبير من خلال الفهم الصحيح للإسلام الذي عُرف به مؤسس الجمعية العلاّمة عبد الحميد بن باديس.
على مستوى البحث العلمي،يُمكن اعتبار أهم عمل أنجزه الدكتور عبد الله شريط موسوعته الشاملة الموسومة ب: «الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية»،فقد غطى من خلالها ما كُتب عن الثورة الجزائرية ما بين سنوات:1955-1962م في الصحافة العالمية،وقد صدرت في ثمانية عشر جزءاً عن منشورات وزارة المجاهدين بالجزائر،وكتب تقديمها رئيس الجمهورية الجزائرية المجاهد عبد العزيز بوتفليقة،حيث تحدث فيها مُشيداً بهذا العمل الجليل،وبصاحبه المفكر العملاق، ومما قاله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في المقدمة:«لقد أصاب صاحبنا الدكتور عبد الله شريط اختيار موضوعه، وحقق هدفه في رفع اللبس،والالتباس العالق في الأذهان،خاصة في أيامنا هذه،بتقديم الدليل من باب شهد شاهد من أهلها على عظمة رجالها،لأنه من الثابت أن الصحافة الدولية في كل العصور،ومهما كانت الظروف،لا تلتفت إلى المسائل المهنية،ولا تواظب على تخصيص المساحات الكبرى لها على صفحات الجرائد،وبرقيات وكالات الأنباء،إذا كانت من حجم الأحداث العابرة،لقد فرضت الثورة الجزائرية حضوراً مُكثفاً في الصحافة الدولية،حضوراً جعلها تجاور في الصفحة الواحدة أخبار الدول الكبرى»(4) .
وعن منهجه في جمع، وترتيب، وترجمة المقالات التي حوتها الموسوعة يشير الدكتور عبد الله شريط إلى أن جميع المقالات التي ضمها في الموسوعة قام بنقلها عمّا كان يُكتب في الصحف الأجنبية، وبعض المجلات السياسية المتخصصة عن حرب التحرير الجزائرية،وقد تابعها بحرص وانضباط،عندما كان يعمل صُحفياً في جريدة الصباح التونسية،وقام بنشر عدد كبير منها في الصحافة التونسية، وجريدة المجاهد الجزائرية،و قد عرض المفكر شريط في مقدمته لهذه الموسوعة لمختلف الأحداث السياسية،وسلط الأضواء على التحولات التي عرفتها الدولة الفرنسية في تلك المرحلة«وسياستها في الشمال الإفريقي إثر الرؤية القوية التي بدأت تؤكد أن دخاناً ما قد يظهر في المنطقة.لأن رائحة الحريق بدأت تتسلل وبقوة لأنوف السياسيين والعسكريين،وهذا ما يُبرزه المؤلف تحت عنوان: «عام:1955م الجو العام إثر استقلال ليبيا-مركز فرنسا في شمال إفريقيا-ومفاوضات ليبية وفرنسية تونسية ومغربية-بدأ التحذير من أن تتحول الجزائر إلى هند صينية جديدة بالنسبة لفرنسا،وقد عمل الدكتور شريط على اختزال الثورة الجزائرية في صفحات،إذ تتميز مقالات الموسوعة بتسلسلها الدقيق الذي يعرض الأجواء السياسية، وردود الفعل،فأول عنوان ينقله لنا الكاتب في الجزء الأول من الموسوعة هو: «فرنسا وليبيا وشمال إفريقيا(04/01/1955م)»وهو تعليق على ما نشره الصحفي م.إيدوار في صحيفة لوموند،سلسلة من البحوث الطويلة عن الحالة في ليبيا،والتطورات التي جدت عليها منذ استقلالها،وهكذا تأتي المقالات متسلسلة حسب الأحداث البارزة التي عرفتها سنة:1955م،ليختتم هذه المقالات المنتخبة لهذه السنة بمقال تحت عنوان: «جمال عبد الناصر» بتاريخ:11/08/1955م،وما يمكن قوله إن الموسوعة التي أعدها الدكتور شريط موسوعة شاملة، وقد قدم من خلالها خدمة جليلة للتاريخ الجزائري،والعربي حيث إنها تختزل الوقت بالنسبة للباحثين والدارسين،بدل الاستغراق في البحث عن الصحف والأرشيفات،يجد الباحث والدارس أن الدكتور شريط تكفل بهذه المهمة، وتحمل مشقة البحث والجمع، والترتيب، والترجمة،والتعليق عليها، وهذا ما يسهل لغيره العمل باعتبار سلسلته هذه مصدراً يرجع إليها وقت الحاجة،لأنها شهادة حية ووثيقة مسجلة»(5) .
ومن الكتب الهامة التي قام بتأليفها الدكتور شريط كتابه الموسوم ب:«الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون» الذي صدر ضمن سلسلة الدراسات الكبرى بالمؤسسة الوطنية للكتاب،وهو في الأصل أطروحته التي قدمها لنيل شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة السياسية والأخلاقية،وعن سبب تأليفه لهذا الكتاب يقول الدكتور عبد الله شريط :«بعد الاستقلال دخلنا في مرحلة أخرى في المستوى الثقافي وفي المستوى الأخلاقي،وبصفة عامة،علماء الاجتماع يقولون إن كل المجتمعات التي تدخل الحرب تخلف هوة أخلاقية،بحيث يجد المجتمع نفسه غريباً عن نفسه،فهو غريب الأخلاق، وغريب الأطوار، وهذا ما دفعني في يوم من الأيام منذ السنوات الأولى للاستقلال أن أبحث في هذا الموضوع عند ابن خلدون،ووضعت فيه رسالة الدكتوراه،فالناس كانوا مهتمين بالسياسة عند ابن خلدون،والاجتماع عند ابن خلدون، والاقتصاد عند ابن خلدون،ولكن على ضوء ما لاحظته من انقلابنا الأخلاقي،فرحت أبحث عند ابن خلدون عن هذه الهوة الأخلاقية التي وقعنا فيها»(6) .
ومن خلال كتاب:«معركة المفاهيم» الذي صدر أول مرة في أواخر السبعينيات ،وأُعيد طبعه سنة:1981م ،يُقدم لنا الدكتور شريط مجموعة من الحوارات والمناقشات التي تركز على قضية إدراك المفاهيم بدقة،فهو يرى أن ضبط المفاهيم مسألة تعد غاية في الأهمية،ويؤكد بأنها المعركة الأهم،والتي لابد أن يُقدم المرء من أجلها رؤى معمقة،لأن الكثير من المفاهيم قد اختلطت وضاعت وسط الزحام، ولابد من تصويبها وفرزها وتمحيصها بدقة،وقد ألف هذا الكتاب بغرض إيضاح مجموعة من التصورات،إذ يرى أن ما تتميز به المجتمعات العربية عموماً هو الاتجاه إلى العمل مباشرة،دون وضع تصورات مُسبقة،وأفكار مُوجهة، وخطط مرسومة،لأننا لا نستطيع أن نبني بيتاً من الحجر، ونحن لا نحمل رؤية مُسبقة عنه في تصوراتنا الذهنية، إلا إذا سبقه بيت من الأفكار،ويشير المفكر المصري الدكتور محمود قاسم في تقديمه لهذا الكتاب أن المفكر عبد الله شريط قد اهتم بهذه المسألة تأقلماً مع المجتمع الجزائري، وأوضاعه السياسية، فمعركة المفاهيم بالجزائر قد بلغت الذروة في حدتها،ولن تجد جزائريا يحدثك قليلا من الوقت حتى ينقلك إلى صميم المعركة، ونحن نرحب دائما أن نصطلي بنيران المعركة بدلا من أن نفر منها ذلك أن عصر الهروب من المشكلات الواقعية قد غبر، سواء أكان ذلك في المشرق أو المغرب.وتلك علامة صحية، وهي تبشر بالخير،و لهذا السبب فقد حرص المفكر عبد الله شريط على بذل جهد خاص يلح فيه كما يقول: على قيمة المفاهيم في حياتنا العلمية والثقافية والسياسية عموما، والمفاهيم في المجتمعات الناشئة كثيرا ما تأخذ طابع المعركة.
في كتاب:«من واقع الثقافة الجزائرية»عالج الدكتور شريط الكثير من القضايا والمشكلات التي تتصل بواقع الثقافة الجزائرية في فترة ما بعد الاستقلال،وقد ركز من خلال أبحاث هذا السفر على الجوانب النفسية والخلقية والاجتماعية من واقع هذه الثقافة،وتميز بالشفافية،والصراحة،والنقد الذاتي في طرحه للمشكلات،وكعادة الدكتور شريط فإنه لا يكتفي بطرح المشكلات وحسب،بل إنه يسعى إلى تقديم حلول ناجعة، وعملية بهدف النهوض بالثقافة الجزائرية والعربية،ويتحدث الدكتور شريط عن هذا الكتاب،ودوافع تأليفه فيقول: «دافعنا الحقيقي لذلك هو حرصنا على كسب معركة الوقت الذي يلعب دوراً كبيراً،إن سلباً أو إيجاباً، في حياة المجتمعات المعاصرة،بما فيها مشكلات الثقافة في العالم المتخلف.أما حكم القيمة فأمر أتركه للنقاد، وللأجيال الصاعدة التي لا نفكر فيها، ونحن نطرح المشكلة، ونبحث لها عن حل،إننا في هذه الفصول:
-نعالج قضايا بلاد، ولا نتبجح بعضلات قلم.
-نبحث عن حلول لمشاكل أمة، ولا نبحث عن أعذار لمسؤولينا.
-هذه الأمة لا نفرق فيها بين جزائريين، وعمانيين، ولا بين فلسطينيين، وتونسيين.لأننا ننظر إليها من خلال الوزن الدولي الراهن فنجدها حتى إذا اجتمعت خفيفة لا تكاد تذكر.أما إذا افترقت فهي هباء لا يكاد يُرى.
-لا نقول لأحد:احذر من الرد علينا،بل نود أن يكون حديثه مُكملاً لنقصنا،فمن المستحيل أن يرى واحد منا كل الحقيقة، ولا يرى منها الآخر شيئاً.
-حديثنا صريح بقدر الإمكان عن أنفسنا،فلا مبرر لكي لا نكون كذلك مع غيرنا. والحديث الصريح يوجه للرجال الواثقين من أنفسهم،لذلك لا نخاف المشاكل ولا نُخفيها.
-نعتقد أن تشخيص المرض أهم من البحث عن الدواء بالنسبة إلينا.لأن خطر أمراضنا في مرحلتنا الراهنة هو أننا نعيشها، ولكننا لا نشعر بها.
-نحاول بقدر الإمكان أن لا نتحدث عن قضية لا نعرفها.لأننا حتى في قول ما نعرفه نحاول أن لا يكون جارحاً ولو كان مؤلماً»(7) .
ومن أهم القضايا التي عالجها الدكتور شريط في هذا الكتاب:المعركة بين الأعراب والتعريب،والإصلاح الجامعي،وإشكالية المعرفة والشعب،والثقافة وطريقها إلى الشعب،ومشكلة اللغة والمجتمع.
جمع الدكتور عبد الله شريط مقالاته التي كتبها على صفحات جريدة«الشعب»الجزائرية رداً على المفكر مصطفى الأشرف بخصوص سياسة التعريب والتعليم، والتي أحدثت ضجة كبيرة في أوساط المثقفين الجزائريين،وعمقت الشرخ بين أنصار اللغة العربية، ودعاة الفرنكفونية في كتاب وسمه ب: «نظرية حول سياسة التعليم والتعريب»،وقد قدم الدكتور شريط في هذه المقالات رؤى معمقة عن قضية التعريب، والصراع الفكري المعهود في الجزائر بين أنصار اللغة العربية، وأنصار الفرنسة والتغريب،وبسبب هذه المعركة تعرض لحملات شعواء من قبل الفرنكفونيين،فقد اتهموه بالتعصب،وبأنه رجعي ضد العصرنة والتطور،ويشير الدكتور شريط إلى أن صراعه مع الفرنكفونيين بدأ منذ صباه،حيث يقول في هذا الشأن: «يظهر أن المفرنسين يحملون ضدي حقداً تاريخياً منذ أن كنت بتبسة لموقف عائلتنا الوطني من فرنسا الاستعمارية».
يعبر الدكتور شريط عن رؤيته للصراع اللغوي في الجزائر،من خلال مقدمة هذا الكتاب بقوله: «إن التعريب في بلادنا ظل سنوات طويلة موضوع نقاش بين طرفين لا يفهم أحدهما الآخر،فكان شبيهاً-كما يقولون- بنقاش الصم الذين لا يسمع بعضهم بعضاً،ولكن كل واحد يرد على الآخر بما يتوهم من أفكاره،أو ما يظن أنه قاله،أو ما يعتقد أنه خليق بقوله،ولكن المؤكد أنه لم يحصل لحد الآن نقاش هادئ بين معربين ومفرنسين في قضية التعريب بالخصوص،وما يكتنفها من جوانب،وما تمتد إليه من أبعاد حضارية،وسياسية، وفكرية.فبقيت قضية يقنع فيها المعرّبون معرّبين أمثالهم،والمفرنسون مفرنسين مثلهم بحجج عاطفية في الغالب لدى الطرفين،ومدفوع فيها الجميع عن وعي وعن غير وعي بما يتوهمه مصلحة عامة،غير مبالٍ بما قد تكون عليه مصلحة الطرف الآخر الذي لا يضع منها شيئاً في الحساب.ونقاش الصم هذا أخطر من عدم النقاش على الإطلاق،وكنت أفضل أن لو لم يحدث هذا النقاش إطلاقاً على أن يحدث بهذا الشكل الذي يُكلم فيه كل واحد نفسه فلا يعرف شيئاً عن أفكار صاحبه.وكان الذي حدث هو أن منع النقاش بين الطرفين،أو عدم وقوعه بصورة طبيعية،كون فجوة بينهما استغلتها أطراف أجنبية عن الطرفين، وعن القضية نفسها، وحولت النقاش المبهم بينهما إلى تبادل في سوء النية،ثم إلى تعصب على فراغ.وفي هذا الجو المفعم بسوء النية، والتعصب ضاعت النظرة إلى المصلحة الوطنية، وأصبح المُتكلم أو الكاتب يتخذ من موضوع التعريب سلاحاً يقاوم به عدوه الجديد.ولم يعد التعريب أو عدمه منظوراً إليه كوسيلة لنهوضنا بل أصبح غايةً في ذاته حلّت محل الغايات الأخرى الوطنية والسياسية في القضية »(8) .
لقد دافع الدكتور عبد الله شريط من خلال مقالاته التي جمعها في هذا الكتاب دفاعاً مُستميتاً مُزدوجاً عن اللغة العربية، فقد وجد نفسه مُحاصراً من تيارين قريبين في توجهاتهما التيار الفرنكفوني،الذي يدعو إلى ضرورة فرنسة الإدارة والتعليم في الجزائر، والتيار الذي يدعو إلى إشاعة العامية،وترسيخ اللهجات المحلية،و قد ظل طوال مسيرته صامداً يؤكد على أن نهضة الدولة الجزائرية،لا يمكن أن تتحقق إلا بتعميم التعريب،فيشير إلى أن« الثقافة الشعبية لا يُمكن أن تتحقق بواسطة اللغة الأجنبية بل بواسطة لغة الشعب نفسه التي هي اللغة العربية،ومقاومة الأمية في هذا الشعب،التي هي الخطوة الأولى للثقافة الشعبية لا تتم بواسطة لغة أجنبية بل بواسطة اللغة العربية التي هي لغة الثقافة،أو يجب أن تكون هي لغة الثقافة.أما ما يُسمى اليوم بالثقافة الشعبية،والتي هي تعبير في الحقيقة عن اللهجات المحلية،فهي ليست بلغة ثقافة في مستواها،وليست لغة وطنية من حيث امتدادها الجغرافي.إن لغة الثقافة من حيث المستوى الثقافي واللغة الوطنية من حيث الشمول الجغرافي هي اللغة العربية.وإذا وقع انفصال في هذه الحقيقة في ظروف تاريخية عابرة قطعت التواصل الثقافي والوطني قرناً من الزمن فليس ذلك حجة يصبح بها الاستثناء قاعدة، وتتحول به القاعدة إلى استثناء. ولا يُمكن أن نُغفل الارتباط بين ظهور ما سُمي بالثقافة الشعبية عندنا،وبين تمكن اللغة الفرنسية في قطاع هام من الرأي العام، وحرمانه من اللغة الوطنية طيلة قرن»(9) .
ونجد أمامنا كذلك كتابه القيم الموسوم ب: «من أجل سعادة الإنسان»،وهو ترجمة عن الفرنسية لكتاب الفيلسوف الانجليزي«برتراند راسل» الموسوم ب: «كيف أفهم العالم»،ويتضمن هذا الكتاب مجموعة من الحوارات التي دارت بين الفيلسوف«راسل»، وأحد قرائه، وقد جرت هذه الجلسات في سلاسة ووضوح،نوقشت من خلالها جملة من المشاكل الإنسانية، وتناول فيه قضايا تتصل بالفلسفة والدين، والحرب، والسلم، والشيوعية، والرأسمالية، والأخلاق، والسياسة، والسعادة التي يُرجى تحقيقها للجماعة، ودور الفرد فيها، والوطنية، والتعصب، ومستقبل الإنسانية، ويصف عبد الله شريط هذا الكتاب بأنه يحوي كل ما يهم المثقف العادي،وبعبارة أصح كل ما لا يجوز لأي مثقف أن يجهله من قضايا عصره،ومجتمعه الوطني،والإنساني العام،وما شجع الدكتور شريط على ترجمة ونشر هذا الكتاب«وضوح أفكاره،وبساطة تعابيره،فهو عبارة عن حديث ممتع يجري بين رجلين،وليس كتاباً يستشهد فيه صاحبه بأقوال الآخرين،ويحللها،ويُقارن بينها،فصاحبه يتحدث على كثير من القضايا التي ما تزال قائمة إلى اليوم،ويظهر أن صاحبه قد تعمد تبسيطه، وتعمد إخراجه في هذا الأسلوب-السؤال والجواب-وهو يقصد تمكين أوسع طبقة ممكنة من القراء للاستفادة منه.إنه عبارة عن«شعبية»فلسفة برتراند راسل.فهو ككل التقدميين في العالم لا يؤمن بأن الفلسفة يجب أن تبقى وقفاً على طبقة من الاحتكاريين في القطاع الفكري، وإنما يجب أن تعمم ويستفيد منها كل قادر على القراءة كما يستفيد من مزايا الحضارة في بقية القطاعات المادية أو السياسية والفنية»(01) . وبترجمته لهذا الكتاب يكون الدكتور عبد الله شريط قد قدم خدمة كُبرى للقارئ العربي،فاختياره لهذا الكتاب اختيار ذكي،وموفق إلى أبعد الحدود،يكشف لنا عن عمق رؤاه،واتساع ثقافته،ودقة اختياره ،إذ أنه كتاب لا غنى عنه.وما قُلناه عن هذا الكتاب ينطبق كذلك على ترجمته لكتاب:«مذكرات الماجور طومسون»لمؤلفه الفرنسي بيار دانينو،تحت عنوان :«أخلاقيات غربية في الجزائر»،وقد اختار ترجمة هذا الكتاب لما فيه من الطرافة، والمتعة، والفن الرفيع ولعلاقته الوثيقة بالمجتمع الجزائري،فقد أُلف الكتاب على لسان مُلاحظ انكليزي يُحلل الأمراض الأخلاقية في المجتمع الفرنسي،ويتحدث الدكتور شريط عن الأسباب التي دفعته لاقتباس هذا السفر،فيقول: «الغريب في هذا الكتاب هو أنك تقرؤه فتشعر بأنه في كثير من الحالات يُحلل لك المجتمع الجزائري،وليس معنى هذا أن المجتمع الجزائري هو وحده الذي يشبه المجتمع الفرنسي،بل أعتقد أن الكثير من هذه العيوب توجد بكثرة أو بقلة في كل المجتمعات البشرية،هذا من ناحية،ثم من ناحية أخرى لأن طول معاشرتنا للمجتمع الفرنسي الذي عاش معنا أكثر من قرن قد ترك فينا عادات لا نشعر بها إلا عندما نقرؤها في مثل هذا الكتاب.ومما يزيد هذه النقائص بروزاً،مقارنة الكاتب لها بمثيلاتها عند الانكليز،بحيث إن القارئ الجزائري مثلاً يخرج من قراءته بتحليل دقيق لما تركه فينا الفرنسيون من أخلاق وعادات،وفي نفس الوقت يكون فكرة عن أخلاق الانكليز بنوع من المقارنة الطريفة، والدعابة الذكية،والنوادر والملح،حتى أن قراءته لا تعد تعباً بل راحة من التعب،هي ألذ من الموسيقى، وأروع من مشاهدة فيلم ناجح...إن المؤلف سيحدثك عن المجتمعات التي تفضل حياة التعقيد على حياة البساطة،وتضيع وقتها في الجزئيات، وتهمل المبادئ والأمهات،ويحدثك عن الأنانية التي تأخذ شكل فلسفة«عميقة»،وعن نماذج من الأشخاص أو المجتمعات تعيش في مخاوف وهمية،أو مجازفات لا مبرر لها ولا عقل يُقرها، ويحلل بالخصوص-وبدقة تثير الدهشة- ما في حياة الناس من تناقضات عجيبة لا يتفطن الإنسان لسخفها إلا عندما يُقدمها له مصور دقيق الملاحظة عميق الإدراك.والفن الرفيع في الكتابة هو من ينقل لك الواقع الذي تعيشه بظلاله وأضوائه الدقيقة إلى صورة تلمسها أمامك،وتضع إصبعك على جزئياتها. ويحدثك عن عيوب شخص آخر فتشعر أنه يشرح لك أعماق ما في نفسك أنت من عيوب،وقد فضل أن يتحدث فيه على لسان ملاحظ إنكليزي يرقب حياة الفرنسيين ويسجلها ويحللها،ونجح فعلاً في تبني ما في الطبيعة الانكليزية من تهكم وسخرية وبرودة كبرياء حتى أن القارئ لا يتوهم أبداً أن كاتبه فرنسي،ثم إن الأسلوب الذي اتبعه يعتبر بحق مدرسة جديدة جديرة بأن تُحتذى» (11) .
ويرى الدكتور عبد الله شريط من خلال هذا السفر أن المعركة التي لابد أن نخوضها هي معركة الانسجام،ويستوجب علينا أن ننتصر في هذه المعركة،حيث يقول في المقدمة:«إننا نعيش اليوم معركة مهولة لا تقل خطورة عن أشد فترات تاريخنا في الماضي البعيد أو القريب،وهي معركة الانسجام.نعم إن كل شعوب الأرض تعاني نصيباً من هذه المعركة،ولكن نصيب الشعوب المتخلفة منها أعظم وأعنف،واعتقادنا أننا لن نتمكن من الانتصار في هذه المعركة،إلا إذا سلكنا إليها طريقاً علمياً واضحاً،وهو أن نقسم جهادنا فيها إلى مرحلتين:مرحلة الكشف عن المرض أولاً،ثم مرحلة البحث عن الدواء بعد ذلك.ولقد كان هدف ما كتبناه حتى الآن داخلاً في نطاق المرحلة الأولى،تطرقنا إلى الكشف عن بعض أوجه نقائصنا سواء في المعتقدات الدينية،أو الانحرافات السياسية والاجتماعية،أو المفاهيم الثقافية المغلوطة،أو الاعوجاجات النفسية المريضة،والجديد في صفحات هذا الكتاب هي الدقة في الوصف،والتعمق في الجزئيات التي لا يتفطن لها الناس العاديون،وبأسلوب فيه من المتعة قدر ما فيه من الفائدة»(12) . كما يُشدد الدكتور شريط من خلال هذا السفر على ضرورة علاج الأمراض التي تُعاني منها المجتمعات العربية بعيداً عن أية مجاملة،فهو يرى ضرورة تبين مشاكلنا،وتلمس مواقع أرجلنا بدقة،وطرح قضايانا طرحاً صحيحاً وُشجاعاً يتسم بالوضوح والدقة،وهذا ما يُمكننا من العثور على حلول ناجعة سليمة في النهاية،وهذا ما عبر عنه بقوله:«لا عُذر لنا في أن نُجامل مُجتمعنا،أو نخفي عنه عيوبه سواء منها ما كان هو المسؤول عنه مباشرة،أو ما ورثه إرثاً،ولا حيلة له فيه،أو ما انتقل إليه عن طريق لم يتسبب في فتحها على نفسه،وإذا سكتنا عن بعض الحقائق،فلأننا لا نرى الوقت مواتياً لأن يأتي حديثنا عنها بالثمرة المطلوبة،وأنه لابد من انتظار الفصل المناسب لزرع نباتات بعينها،بل إن بعضاً آخر من إخواننا في أقطار أخرى يؤاخذوننا على استعجالنا،وعدم ترفقنا بمجتمعنا،وبأننا نريد أن نحمله على التحسن والنهوض بسرعة غير طبيعية.كل هذه الملاحظات كاشفنا بها إخوان لنا مخلصون،وكاشفناهم بدورنا بأن ما يحملنا على هذا الاستعجال هو شعورنا بأننا نعيش في فم الأسد كما يقولون،وأننا نوجد على مسافة ساعة واحدة من أوربا التي تخطو مائة خطوة عندما نخطو نحن خطوة واحدة إلى الأمام،وأننا لا نقيس مسؤوليتنا في التقدم بنسبة من هو أضعف منا،أو أكثر بُطئاً،بل نقيسها بنسبة من هو أقوى منا وأسرع،وبأنه لا اختيار لنا،و لا حيلة في هذا القياس.إن كل واحد منا يشعر بأننا في أشد الحاجة إلى معالجة هذا الميدان،والإلحاح عليه،و التحايل لاساغته بكل حيلة ووسيلة.إننا خرجنا من حرب طويلة الأمد،والحرب في كل مجتمع تخلف هوة أخلاقية خطيرة،ثم إننا ورثنا عادات أخلاقية متضاربة بعضها من أجدادنا في عصور الانحطاط الماضية،وبعضها الآخر من أقوام فرضوا علينا حياة لم ننضج بعد لأن نحياها،فكان من جراء ذلك أن أصبح مجتمعنا يعيش متضارباً متناقضاً في كل ثنايا وجوده:في تفكيره،ومشاعره،وذوقه،وفي اقتصاده،وتجارته،وفلاحته،في إدارته، وعاداته، وميوله،في بيته،ومع أولاده،ومركز عمله.والعقل يتغذى في طريقة تفكيره من الحياة المُحيطة به،وعقلنا-الجماعي والفردي-يعيش مُحاطاً بهذا التضارب والتناقض فينطبع بهما،ويتلون بلونهما المشوش،فلا تجد انسجاماً في تفكيرنا،ولا في عملنا.الفرد الواحد غير منسجم مع نفسه،وغير منسجم مع أقاربه،وغير منسجم مع الآلات التي يستعملها في عمله،والإدارة الواحدة غير منسجمة مع نفسها،والمجتمع غير منسجم مع المدينة التي يعيش فيها،والخطر في كل ذلك أننا نعيشه،ولا نشعر به،فنراه طبيعياً كما نرى اضطراب الأمواج طبيعياً في البحر.وهذا ما يجعل حياتنا الأخلاقية،والاجتماعية في وضع دقيق جداً،ومؤلم جداً لمن يحسه،ويشعر به،ويدركه ويفكر فيه،ويحاول علاجه»(13) .
وإذا أردنا أن ننتقل إلى الأسفار الأخرى التي ألفها الدكتور شريط،فإننا نُلفي أمامنا مجموعته الشعرية«الرماد»،وكتاب: «نصوص مختارة من فلسفة ابن خلدون» الذي انتقى فيه مجموعة من النصوص من مقدمة العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون،وقدم قراءات متنوعة لها،وهو يهدف من خلال هذا الكتاب إلى تقديم تفسيرات، وشروح متنوعة للفكر الخلدوني،وبالاشتراك مع الكاتب محمد الميلي ألف كتاب: «مختصر تاريخ الجزائر السياسي والثقافي والاجتماعي»، إضافة إلى كتاب: «تاريخ الثقافة والأدب في المشرق والمغرب»،وهو يحتوي على مجموعة من المحاضرات في تاريخ الثقافة والأدب العربي ألقاها على طلبة كلية محمد بن عبد الله بجامع الزيتونة بتونس في بداية الخمسينيات.وكتاب: «حوار إيديولوجي حول المسألة الصحراوية والقضية الفلسطينية»،وهو عبارة عن مجموعة من الحوارات والنقاشات الفكرية التي أجراها الأستاذ شريط مع المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي،بالإضافة إلى كتاب: «الإيديولوجية والتنمية»،وكتاب«المشكلة الأيديولوجية في الجزائر»،و«المنابع الفلسفية للفكر الاشتراكي في الجزائر»،وكتاب«مع الفكر السياسي الحديث والمجهود الأيديولوجي في الجزائر»،وقد تحدث الدكتور عبد الله شريط يوم تكريمه بالمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر،عن انتهائه من تأليف كتاب هام يقع في خمسة عشر فصلاً،قضى في تأليفه عشر سنوات،عن مشكلة ثقافة الدولة.
عبد الله شريط بعيون نخبة من معاصريه وتلاميذه:
على الرغم من المحاولات التي بذلها بعض أنصار التيار الفرنكفوني بغرض تهميش، وإنكار جهود الدكتور عبد الله شريط،وصرف أنظار الأجيال الجديدة عن فكره،وفلسفته،إلا أنهم لم يُفلحوا في ذلك،فقد حظي باهتمام كبير من قبل المفكرين والمثقفين الجزائريين والعرب،من مختلف الأجيال،فكتبوا عنه،واهتموا برؤاه المتميزة،وقدموا شهادات هامة تبرهن على مكانته المرموقة،وتُبرز الاهتمام الكبير الذي حظي به مشروعه الفكري والفلسفي.
إن شهادة الدكتور محمد العربي ولد خليفة؛رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر سابقاً،لهي شهادة ثرية حقاً،فهو أحد تلامذته الذين نهلوا من علمه، وعشقوا فكره،وأُعجبوا أيما إعجاب بنضاله،حيث يقول:« إن عبد الله شريط ينتمي إلى سلسلة ذهبية من رجالات التنوير الذين استوعبوا معطيات عصرهم، ورهانات المستقبل،يبرز في السلسلة الذهبية المغاربية عباقرة تجاوز تأثيرهم عصرهم،مثل ابن رشد الحفيد،وابن خلدون، وعبد الحميد بن باديس،ومالك بن نبي،وقد حصل عبد الله شريط على موقع لا تحجبه المعاصرة بين أولئك القادة الفاتحين،فهو باحث في ظواهر المجتمع،وفي واقعه الكلي، وفي استمراريته التاريخية،أثرى المفاهيم الخلدونية في فلسفة التاريخ، وعلم العمران،وسياسات الدولة بين النظرية والتطبيق،لقد استلهم الأستاذ شريط من المنهج الباديسي الكثير من أفكاره في النهضة، والإصلاح، وخاصة الجانب العملي الذي يتجنب الإغراق في التنظير والتجريد، وعدم الانعزال عن الناس في حلقات ضيقة من أهل الفكر،فنجد الأستاذ في مدرجات الجامعة،وفي مختلف وسائط التبليغ يحاور أقرانه، ويتحمس لأفكاره،ويضع الوقائع في ميزان النقد، ويخرجها من العنعنة عن فلان، وعن السردية»(14) . ويشير الدكتور ولد خليفة إلى أن المفكر عبد الله شريط قد أدرك منذ شبابه المبكر أن الانتصار العظيم على العدو الفرنسي هو المفتاح والبداية التي تمهد الطريق لاستكمال مشروع التحرير،ومواجهة التخلف الموروث،والمتراكم في الأذهان والسلوكات الذي كان من مضاعفاته اعتقال العقل، وتلويث الروح،ويؤكد على أن شخصية الدكتور شريط تقترب من الموسوعية،وقد سجلت حضوراً نشيطاً في الساحة الثقافية والسياسية لأكثر من نصف قرن،ولاسيما في مجال الحوار،وتوليد الأفكار،بالانطلاق من الواقع، والعودة إليه بعد التوصيف، والتشخيص، واقتراح وصفات العلاج ،ويشير إلى أنه سواء اتفقنا أم اختلفنا مع طروحات المفكر شريط فإنه يفرض على القارئ والمتلقي لخطابه الاهتمام والاحترام،نظراً لما يتميز به من شجاعة في خوض المعارك الفكرية التي شغلت النخبة الوطنية،وما زالت تثير الجدل إلى اليوم،مثل: قضايا الإيديولوجية، واللغة العربية،والأصالة والحداثة، وصيرورة المجتمع الجزائري،ووضع الأمة العربية والإسلامية، والأسباب الراهنة والتاريخية للعجز والاستلاب عن طريق التقوقع في الماضي أو الاندماج الاستهلاكي في حداثة الغرب.
وأما الأستاذ علي بن فليس؛ رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق،فقد أشاد بخصال،ونضال هذا المفكر العملاق،واصفاً إياه«بالطود الذي نستظل بظله،فهو واحدٌ ممن أخلصوا للوطن،ذرع في سبيله حقول الفكر،وتطوف بأرجاء المعرفة النافعة،وغمر الأجيال بصالح آرائه، وخالص أعماله،وصادق جهاده، وقويم نضاله»(51) ،ويعتبر الأستاذ بن فليس أن عبد الله شريط هو واحد من أهم كتاب الفكر السياسي في الجزائر،والوطن العربي،حيث إنه أغنى المشهد الفكري،والفلسفي بتقديمه لعشرات الأبحاث الرصينة،في مختلف مظاهر المعرفة وفنونها،علاوة على فضله في إثراء الحقل الإعلامي كتابة، وإذاعة، وبثاً،مُستخلصاً أنه يكفي هذا المفكر الرائد فخراً أنه صاحب تلك المجلدات الضخمة التي كُتبت عن الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية.
ويصفه تلميذه الباحث الدكتور عبد الرزاق قسوم،بأنه فيلسوف المعاني الذي يهزج في بلاغة منطقية دقيقة وعميقة بين الفلسفة والأدب،وينحت بصياغة فقهية ثمينة،وبراعة لفظية أمينة بين المبنى والمعنى،ويتساءل الدكتور قسوم:«بأي الكلمات أصفه؟لأفيه حقه من الموضوعية،بعيداً عن الذاتية التي ينبذها،وعن العاطفية،والمحسوبية التي نرفضها،أأصفه بالجبل في صلابة مواقفه وثبات مبادئه؟أم أصفه بالنخلة في شموخه، وعلوه وخصوبة إنتاجه،وتسامحه مع مخالفيه؟أم هل أقول عنه،بأنه البحر في موسوعية علمه، وسعة أفقه،وعمق مفاهيمه؟يصعب أن تجد لأستاذنا عبد الله شريط،وصفاً جامعاً مانعاً يفي بخصائصه،وخصوصياته،فهو صيغة منتهى الأوصاف،وما ظنك بفيلسوف أخذ من الفلسفة منهاجاً فطبقه على كل اهتماماته العقلية،وأخذ من الأدب المقفى، والمسجوع سلاسة اللغة،وعذوبة الأسلوب، ومسحة الجمال،فانعكس كل ذلك على لغته الشاعرية والفلسفية.كما أخذ من الحكمة،والتسامح، والجدل بالتي هي أحسن،فسال ذلك على منهجه في الاختلاف،فكان عنده أدب الخلاف،الذي تحلى به أئمة الفقه،كما نلمس ذلك عند الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب»،ذلك هو أستاذي-عبد الله شريط- مثقف تعددت أصول مواهبه،وتلونت ينابيع عبقريته،أديب،وفيلسوف،وصحافي،وعالم اجتماع،وفقيه ديني،وإن يتلمس فتواه عند كل من الجاحظ، وابن خلدون وحتى أوغست كونت،عندما يتعلق الأمر بأفقية المجتمع،ونوازل التخلف،ولك أن تجمع-في شكل واحد- مجموع هذه الاهتمامات»(61) .
وعن شهادة المفكر الدكتور أبي عمران الشيخ؛رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، فقد استعاد من خلالها ذكرياته مع المفكر الراحل بقوله:«أول معرفتي بالدكتور عبد الله شريط كانت في قسم الفلسفة الإسلامية بجامعة الجزائر،حيث درسنا معاً، وأهم ما كان يُعجبني في الزميل المحترم هو النكتة الخفيفة،إذ كنا في قسم الفلسفة لا نبدأ التدريس إلا إذا التقينا على نكتة،وأول نشاط فكري قمنا به في قسم الفلسفة بمساعدة وزارة الإعلام والثقافة،هو مهرجان ابن رشد سنة:1978م،وكان هذا النشاط في القمة، وكان في كل هذا وجود الدكتور عبد الله شريط الذي نعتبره العميد،لقد كُنا ثمرة فريق تربط بيننا أشياء قوية:حب الوطن،والدين الصحيح، ونشر الثقافة، والنهوض بثقافتنا الوطنية،وإظهار الجزائر في المحافل الدولية،وقد شاركتُ معه أحياناً في نشاطات بمنظمة اليونسكو،وأحياناً في حوارات بالجامعة التونسية،وغيرها من الجامعات،فكنا فريقاً متيناً مُتضامناً،فكل واحد منا له شخصيته الخاصة، والمميزة»(71) .
وأما شيخ المؤرخين الجزائريين؛العلاّمة الدكتور أبو القاسم سعد الله،فيرى في شهادته أن الدكتور عبد الله شريط تميز بشخصية رزينة هادئة،وعُرف بتواضعه الجم،وقد كان مُتوازناً في آرائه، وقد غلبت العقلنة على تفكيره كونه أستاذاً للفلسفة،فكان يتدخل في الندوات الفكرية،والمؤتمرات العلمية، ولا يتحمس لرأيه،ويشير الدكتور سعد الله إلى أنه طوال مسيرته وقف مسانداً وراداً على المخالفين أو المترددين، وأسهم في الرد على من اعتقد أنهم أساؤوا إلى المنظومة التربوية، وكذلك فعل في مسألة فلسطين، والقضايا العربية الأخرى حيث يلبس شريط عباءة الوطني الغيور الذي عناه محمد العيد آل خليفة حين خاطب المترددين بين الاندماج والانفصال عن فرنسا بقوله: قف حيث شعبك مهما كان موقفه،كما عارض دعاة البربرية والتزم الخط الرسمي حولها،وقد كان وطنياً مُلتزماً بوحدة الوطن وثوابته،وقد عكست مؤلفاته، وأحاديثه نمط تفكيره، ووفقاً لرؤية الدكتور أبو القاسم سعد الله فعبد الله شريط ليس فيلسوفاً بالمعنى النقدي، ولكنه عالم أخلاق واجتماع، والمتأمل في خط سيره الفكري يجده مُلاحظاً واصفاً أكثر منه مؤسساً لنظرية،وهو يعد رائداً لجيل من الباحثين في مجال التربية السياسية، وبناء الشخصية الإنسانية،وقد اختتم الدكتور سعد الله شهادته بإشارته إلى أن عبد الله شريط قد ملأ عصره بالكتابة في الصحافة، والتدريس بالجامعة، والحديث في الإعلام المسموع والمرئي، والمشاركة في أكثر من مجال اجتماعي وثقافي، وهكذا فقد ترك بصماته على مرحلة طويلة من تاريخ الجزائر، وسيذكر الناس شخصيته الهادئة الرصينة، ونقاشه الصريح والجريء مع أصدقائه، وحتى مع الذين لا يتفقون معه في المشرب، كما سيذكرون تواضعه الكبير، وتقبله للنقد والرأي الآخر.
شهادة أخرى للمفكر، والمناضل السياسي الكبير عبد الحميد مهري؛الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني،ركز فيها على الجانب النضالي في شخصية عبد الله شريط،حيث يذكر أن عبد الله شريط كان واحداً من المناضلين الكبار،دخل ميدان الإعلام منذ شبابه،وكان يحرص على اللقاء بالمناضلين الجزائريين في التنظيمات السرية لحزب الشعب الجزائري في تونس،كما كان مُداوماً على الحضور في لجنة الإعلام السرية،وقد اتسم بخُلق سامٍ،وتواضع جمٍ،ويذكر عبد الحميد مهري أن عمل المفكر عبد الله شريط كان يتركز على تحرير المقالات عن الجزائر، وعن الأوضاع الجزائرية في تلك المرحلة،وقد تولى التكفل بمراجعة وتصحيح المقالات التي يكتبها المناضلون الجزائريون في الصحافة التونسية«وكان عمله في جريدة الصباح، وفي معرض الصحافة بصفة خاصة بمثابة باب مفتوح للقضية الجزائرية، والعربية بصفة عامة،وكان يطلع،ويُلخص كل ما يصدر في العالم عن المنطقة العربية، وعن الجزائر،ويقدمها إلى القراء في لغة عربية متينة،وممتازة في قالب فرض نفسه على اليومية التونسية،وأصبح الناس يشترون جريدة الصباح، وبالأخص معرض الصحافة،لقد كان مُناضلاً صامتاً،قدم العديد من الخدمات،واستمر عطاؤه أثناء الثورة في جريدة المجاهد، وفي منشورات الثورة،كما كان حريصاً على تقديم صورة مُشرقة عن الجزائر »(18) .
ويذكر الأستاذ الأمين بشيشي؛النائب الأول لرئيس المجمع العربي للموسيقى لجامعة الدول العربية،والمدير العام للإذاعة الوطنية الجزائرية،ووزير الاتصال سابقا ًأن الدكتور عبد الله شريط كان يتمتع بدبلوماسية كبيرة،وتكاد تكون دبلوماسية غريزية،وآنية فيه،وقد عُرف بخفة ظله،و رغم وزنه الفكري،فهو صاحب نكتة،وكان دائماً حريصاً على توجيه زملائه، وأصدقائه،ويمدهم بما لديه من حنكة،وما لديه من صبر،سواء قبل العهد الأول قبل تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة، أم بعدها،وهذا ما جعله يحظى بمحبة وتقدير الجميع،كما أشار الأستاذ بشيشي في شهادته أن الدكتور شريط هو الذي كان يكتب التعليقات السياسية التي كان يذيعها الإعلامي الجزائري المعروف عيسى مسعودي،وقد كان لها تأثير كبير في نفوس الجزائريين،وباقي الشعوب العربية.
وعن منهجه في التدريس،وفي تقديم البرامج الإذاعية يشير تلميذه الناقد الدكتور أحمد منور في شهادته إلى أن عبد الله شريط«هو الشخص الذي استدعى طريقة جد تربوية مهمة،وهي الطريقة السوقراطية،فقد اتبع فكرة الحوار،الأخذ، والرد،وطرح الأسئلة ثم الإجابة عنها،ولمدة سنوات طويلة،وهو يُقدم برنامجاً في الإذاعة بهذا الشكل،فالحقيقة أن هذه الطريقة المبتكرة نالت إعجاب الجميع،لكن لما دخلنا إلى الجامعة في نهاية الستينيات،وبداية السبعينيات اكتشفنا الأستاذ عبد الله شريط من جانب آخر،وهو الجانب الفكري،والجانب الفلسفي،وأقول إنه الأستاذ الذي أفهمنا الفلسفة،وأفهمنا النظريات التي كُنا نخافها،ونخشاها، ونعتبرها غامضة، وصعبة، ومُعقدة.كانت له طريقته الخاصة في إيصال هذه الأفكار،وأستطيع أن أفسر هذا بأن الأستاذ شريط لم يكن أستاذاً للفلسفة فقط،كان متعدد الجوانب،كان أديباً ويشهد على هذا الجانب كتاباته في المقالة،فهو يعتبر من أهم الرجال الذين كتبوا المقالة الصحفية عندنا في الجزائر،ويدل على ذلك ديوانه الشعري الذي سماه«الرماد»حيث اكتشفناه شاعراً مُتحكماً في قوافي الشعر،وكان باستطاعته أن يكون اسماً كبيراً لو استمر في هذا المجال،وقد كان الأستاذ شريط يُحدثناً كثيراً عن الأدباء،مثل:الجاحظ، ويحدثنا عن ابن خلدون،وعن مختلف المفكرين العرب والمسلمين،رغم أن البرنامج كان حول الفلسفة اليونانية، والأوروبية،لكنه كان يستطرد،وكانت استطراداته من أحسن ما يُقدم لنا»(19) .
ويقول عنه الروائي الدكتور أمين الزاوي؛المدير العام السابق للمكتبة الوطنية الجزائرية:«هو من أهرامات الثقافة، والفكر في الجزائر،وهو من أدَّب الفلسفة،وأخلق الإذاعة،فقد أدب، وثقف،أخلق الإذاعة والجامعة، والحوارات والندوات التي كان يُنشطها،وحلقاته التي كانت تُذاع في الإذاعة الوطنية،هي وثيقة في المجتمع الجزائري،وفي الدولة الجزائرية،وفي دهنيات المجتمع الجزائري،وأخلاق المجتمع الجزائري،وفي طريقة الحوار الجزائري،فقد ثقف السياسة، وثقف الجامعة،لأنه كان أديباً،وكان في الجامعة دائماً مُحاوراً،كانت الجامعة معالمه،وكانت الجامعة عنده من زجاج،فهي مفتوحة على المجتمع، ومفتوحة على الثقافة،ومفتوحة على الإعلام، وهو صاحب ديوان الرماد الذي احتفلت به مجلة «الآداب»،وهي من أكبر المجلات في العالم العربي،وأعتقد أنه هو الذي جمع بين الفلسفة، والآداب،فكان شبيهاً إلى حد كبير بأبي العلاء المعري»(20) .
فـذلـكـة:
لقد كان أستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الله شريط أحد عمالقة الفكر في الوطن العربي،ترك بصمات خالدة في تاريخ الفكر الجزائري والعربي،إنه مفكر من طراز الفاتحين في عالم المعرفة،صاحب فكر شامل،عُرف بجرأته وشجاعته في إبداء آرائه،وبعُمقه في طرح، وتحليل المفاهيم،ولم يكن يكتفي بمناقشة الإشكالات،وعرضها،بل تُلفيه يبحث لها عن حلول ناجعة،وشافية من وجهة منطقية،جمع بين الفكر، والفلسفة،والأدب، والتاريخ، والإبداع،وجميع الميادين التي طرقها الدكتور شريط لم يكن يلج أبوابها من باب التقليد،بل كان مُجدداً،تميز بثراء عطائه«رصد الواقع الثقافي في الجزائر بعد الاستقلال،فخاض معركة التعريب برؤية مثقف،أراد أن يكون فاعلاً،وكان له ذلك،ناظر رجالاً عاصروه في الفكر والاهتمام، وفتح معهم نقاشاً ما يزال إلى اليوم متصلاً،لأن الفكر لا يموت،بل يتجدد،عرج على الكثير من القضايا ذات الأولوية الفكرية،بدءاً بالتعريب إلى إصلاح الجامعة، والمدرسة، إلى الثقافة باعتبارها تنمية بشرية هامة،تميز أستاذنا الراحل بتلك الإيجابية الشجاعة التي هي علامة من علامات عمالقة الفكر،لقد ظل طوال مشواره يؤكد على ضرورة حماية الثقافة الوطنية العربية في الجزائر،فعروبة الجزائر راسخة على مدى التاريخ،والثقافة الوطنية هي المرجع الرئيس، والأساس،ووفقاً لرؤيته فأفكار التخريب،والاستلاب الحضاري تمسخ هوية الفرد، وتُحيله إلى علامات استفهام بشرية كبيرة»(21) .
وعن الجانب الأخلاقي والحضاري في شخصية أستاذنا الدكتور عبد الله شريط،فقد كان أنموذجاً فريداً في الحوار الحضاري والعقلاني،وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى طبيعته الهادئة،وقوة منطقه،وسعة معرفته،وعمق ثقافته، كما عُرف برحابة صدره،وتواضعه الجم، وتسامحه الكبير،فعلى الرغم من المعركة الفكرية الكبيرة التي خاضها مع المفكر مصطفى الأشرف،بيد أنه كان يُوصي طلبته بقراءة كتبه والاستفادة منها،ولم يتناوله بالقدح أمام طلابه،وأصدقائه،وهذا ما نلمسه في مسيرة الدكتور شريط ككل مع عامة الناس،وعندما تُجالسه فإنك تكتشف عظمة ذلك الرجل،حيث إنه يروي لك قصصاً،ونوادر مفصلة،ومتنوعة،ويثير قضايا فكرية معمقة،بيد أنه يعرضها عليك بطريقة سردية جذابة ودقيقة تستلب اهتمامك، وتجعلك لا تمل من حديثه أبداً،وهذا ما نُلفيه في طريقته المتميزة في التعليم والتدريس،فهو يسرد المعلومات على طلابه بطريقة شائقة،تأخذ ألبابهم،وتشغفهم بالمادة،وهذا ما جعل طُلابه مُحبين وأوفياء له حيثما لاقوه،فكثيراً ما تلمحه واقفاً مع مجموعة من طلابه القُدامى، الذين كلما رأوه هرعوا لإيقافه،والحديث معه،وأبدوا استعدادهم لأداء أية خدمة،وكثيراً ما يستعيدون معه ذكرياتهم،ويذكرونه بمواقف طريفة،وجليلة وقعت لهم معه،ولا تُلفي في شخصيته تناقضاً بين الجدية والانضباط، والمُزاح، والفُكاهة،وهذا ما اكتشفه جميع من خامره،فيخبر روح المرح والدعابة عنده...
ذلكم هو العلاّمة الجليل أستاذنا الدكتور عبد الله شريط،مفكر من الجزائر،ستظل أفكاره، ورؤاه صداحة،ومملوءة بمعاني التغيير، واستشراف المستقبل الأفضل،قضى حياته فيلسوفاً مناضلاً مع الفلاسفة، ومفكراً رائداً مع رواد الفكر العربي،ومُجاهداً في ساحات الوغى ضد الاستعمار الفرنسي ،ظل طوال مسيرته مُتنسكاً في محاريب العلم،والمعرفة،كانت حياته حياة جد،وبحث،وكفاح،وقد ترك لنا مؤلفات هامة ستبقى الأجيال العربية تستنير بمضامينها،فهي شاهدة على مراحل زاهرة من تاريخ الفكر العربي،رحم الله أستاذنا الفاضل العلاّمة الدكتور عبد الله شريط.
الهوامش:
(1)يُنظر كلمة وزير المجاهدين الجزائريين:محمد شريف عباس التي ألقاها في اليوم التكريمي للدكتور عبد الله شريط بالمكتبة الوطنية الجزائرية،مجلة الكتاب،عدد:02، 2005 م،ص:38.
(2)د.محمد العربي ولد خليفة:عبد الله شريط:المفكر والمناضل الحر بأقلام نخبة من معاصريه وتلاميذه،جريدة صوت الأحرار،العدد:3780،18جويلية2010م،ص:11.
(3) يُنظر كلمة الدكتور عبد الله شريط يوم تكريمه بالمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر،نقلاً عن الدكتور محمد العربي ولد خليفة:عبد الله شريط المفكر والمناضل الحر بأقلام نخبة من معاصريه وتلاميذه،جريدة الشعب:العدد:15242،17جويلية2010م،ص:11.
(4)يُنظر تقديم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لكتاب: «الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية»للدكتور عبد الله شريط،منشورات وزارة المجاهدين بالجزائر،ج:01،نقلاً عن مجلة الكتاب،عدد:02، 2005م،ص:37.
(5)قراءة في موسوعة: «الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية»للدكتور عبد الله شريط،مجلة الكتاب،عدد:02، 2005م،ص:37-38.
(6)يُنظر كلمة الدكتور عبد الله شريط يوم تكريمه بالمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر،نقلاً عن الدكتور محمد العربي ولد خليفة:عبد الله شريط المفكر والمناضل الحر بأقلام نخبة من معاصريه وتلاميذه،المصدر السابق،ص:11.
(7)د.عبد الله شريط:من واقع الثقافة الجزائرية،الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،الجزائر، د،ت، ص:5-6.
(8)د.عبد الله شريط:نظرية حول سياسة التعليم والتعريب،المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، د،ت،ص:6.
(9)د.عبد الله شريط:المصدر نفسه،ص:08.
(10)د.عبد الله شريط:من أجل سعادة الإنسان،الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، د،ت، ص:8-9.
(11)د.عبد الله شريط:أخلاقيات غربيّة في الجزائر،الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، د،ت، ص:8-10.
(12)د.عبد الله شريط:المصدر نفسه،ص:7.
(13)المصدر نفسه، ص:5 وما بعدها.
(14)شهادة الدكتور محمد العربي ولد خليفة، يُنظر جريدة الشعب،العدد:15240، 14 جويلية 2010م، ص:07.
(15) محمد.ب:عبد الله شريط:وسام تقدير لعمر من النضال والعطاء الفكري،جريدة المساء، القسم الثقافي، 24ديسمبر 2002م، ص:03.
(16) شهادة الدكتور عبد الرزاق قسوم، يُنظر جريدة صوت الأحرار، العدد:3780، 18 جويلية 2010م، ص:11.
(17) شهادة الدكتور أبو عمران الشيخ: يُنظر جريدة صوت الأحرار، العدد:3779 ،17 جويلية2010 م، ص:11.
(18) شهادة المناضل والسياسي عبد الحميد مهري، يُنظر جريدة صوت الأحرار، العدد:3779،17 جويلية2010م، ص:11.
(19) شهادة الدكتور أحمد منور،يُنظر جريدة الشعب،العدد:15242،17 جويلية2010م،ص:11.
(20) شهادة الدكتور أمين الزاوي،المصدر نفسه،والصفحة نفسها.
(21)د.محمد العربي ولد خليفة:المصدر السابق،والصفحة نفسها.