روح التوحيد والوَحدة، في جمعية العلماء المسلمين

بقلم: د. محمد موسى باباعمي -

إنَّ الحمد لله وحده، نحمده، ونستعينه، ونستهديه... ونصلِّي ونسلِّم على المبعوث رحمة ‏للعالَمين، من قال له ربُّ العزَّة: «وإنَّك لعلى خلق عظيم» ‏‎)‎القلم: 4)، وخصَّه بالخطاب ثانية، ‏فقال: «وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ ‏قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ ‏حَكِيمٌ» (الأنفال: 62).

‏ ثمَّ أمر الله تعالى في محكم تنزيله المؤمنين مجتمعين، في كلِّ عصر ومصر، أن يلزموا ‏التوحيد والوحدة، فقال لهم: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ، وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ ‏عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ ‏مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران: 103).‏

غير أنَّ كثيرا من المسلمين – للأسف – اعتبروا الأمر في مثل هذه الآيات للندب لا ‏للوجوب، وإنَّ بعضهم ليحرص على السنن والنوافل الحرص كلَّه، ويتحرَّز في أداء شعائره إلى ‏حدِّ الوسواس، وهو في ذات الوقت يضرب بهذه الآيات عرض الحائط، ويخالفها سرا وجهرا، ‏فيعمل على زرع الفرقة والشحناء، ويستجيب لنداء العداوة والبغضاء... هذا الذي أعيى ‏المسلمين ولا يزال، ومزَّقهم أيَّ ممزَّق، وكأنَّ قول الله تعالى في سلفهم من أصحاب محمد ‏عليه السلام: "أشدَّاء على الكفَّار رحماء بينهم" (الفتح 29)، يصدقُ في أعدائهم ولا يصدق في ‏أغلبهم.‏
غير أنَّ الروح التي سرت في جسم الأعلام المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين، هي روح ‏التوحيد، بأشمل معانيها: من توحيد الخالق إلى توحيد المنهج، ومن توحيد الصفِّ إلى توحيد ‏الإيقاع... فتميزوا بذلك عن كثير من معاصريهم، وكانوا بحقٍّ مجدِّدي هذا الزمان.‏
شعار هذه الروح وعنوانه، مقولة رئيس الجمعية العلاَّمة ابن باديس: «إنَّ ما جمعته يد ‏الرحمن لا تفرِّقه يد الشيطان».‏

خبرةُ العلماء المؤسسين وحنكتهم كانت وليدة الإخلاص لله تعالى وحده، مرجعها في ‏ذلك «نصوص الدين: من كتاب الله، وصحيح السنَّة، وإجماع السلف»، وللجمعية – كما ‏يقول الشيخ البشير –: «آراءٌ محَّصتها التجربة، وأيدها المنطق؛ ومواقفُ لم تراع فيها إلاَّ ‏المصلحةَ المحقَّقة أو الراجحة؛ ولم تبال في مواقفها بمن طار ولا بمن وقع، فالطائر قد تصدمه ‏نواميس الخفَّة والثقل، فينقلب مضعضعا أو مكسورا، والواقع قد تزعجه الحوادث فيتحرَّك ‏مختارا أو مقهورا» (البصائر، عدد2، س2، سنة 1947).‏

ولذا كان ردُّ فعل المستعمر متمثلا فيما كتب في جريدة "‏Echo de Paris‏"‏‎ ‎‏: «إنَّ الحركة ‏التي تقوم بها جمعية العلماء المسلمين في الجزائر أكثرُ خطرا من جميع الحركات التي قامت ‏حتى الآن». ‏
ولقد مزجت الجمعية بذكاء بين مناطق الجزائر جنوبها وشمالها، شرقها وغربها؛ ثم ‏وحَّدت بين الأجناس، فلا تَسمع عن فلان العربي، أو علاَّن البربري؛ وإنَّها صقلت – من بعد ‏ذلك – بإبداع منقع النظير بين المذاهب، فلا فرق بين مالكي وإباضي، ولا حنفي ولا شافعي ‏إلاَّ بالتقوى... فالصالحون عندهم هم المتقون من كلِّ جهة وعرق ومذهب، والطالحون هم ‏الظالمون الفجَّار والفاسقون، وأعداء الإسلام والعربية والوطن.‏

فقد شارك في التأسيس الفحولُ من كلِّ الجهات والفئات والمذاهب، ومن جملة من ‏شارك إلى جوار العلاَّمة الرئيس ابن باديس، والإبراهيمي، والتبسي... كلٌّ من الشيخ بيوض ‏وأبي اليقظان والبكري... وغيرهم كثير.‏

ثمَّ، إنَّ الجمعية وقفت وقفتها التاريخية في المقاطعة التي تسبَّب فيها بعض العملاء، ‏بإيعاز من فرنسا، في الفترة ما جوان 1955- وأفريل 1956، ولقد أصدرت الجمعية بيانا أنهى ‏المقاطعة، وردَّ المياه إلى مجاريها، فأخمد نار الفتنة... ولولاه لكانت مصيبةً على الوطن، وعلى ‏الدين... لا يحدُّها حدٌّ، ولا يحصيها عدٌّ.‏

ومن آثار الروح التوحيدية التي سرت في علماء الجزائر، من خلال جمعية العلماء، ‏ذلكم الموقف التاريخي الذي وقفه الشيخ بيوض من فرنسا، حين أرادت فصل الصحراء عن ‏الشمال، ورمت إلى اقتطاع جزء من أرض الجزائر؛ لتجعل منه محميةً بترولية تابعة لفرنسا، ‏يتحكَّم فيها اليهود، ويديرون دواليبها، شأنَ بعض الأراضي العربية اليوم. (ينظر موقعين اثنين في ‏هذا الشأن: زلابية ‏www.zlabia.com ‎، بالوقة: ‏www.balouka.com‏).‏

وعن نفس الخط التوحيديِّ، يقول الدكتور محمد ناصر: «وتفويتا لمخطَّطات الاستعمار ‏التي كانت ترمي إلى تفريق الشعب الجزائري، باستغلال نقاط الضعف كما أشرنا، وجَّه ‏الشيخ بيوض جهودا عظيمة للتغلُّب على بعض الأفكار المتسرِّبة من عهود الفتن والصراعات ‏المذهبية، واهتدى إلى خطَّة عملية أساسها التدريس في المسجد، وهدفها الطبقات المختلفة من ‏عامَّة الناس؛ فإلى جانب تفسير كتاب الله العزيز الذي نهج فيه نهج محمد عبده، وهو الذي ‏أعطى له حياته كلَّها، قام بشرح كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ‏العسقلاني، الذي ابتدأه سنة 1350هـ / 1931م، واختتمه بعد أربعة عشر عاما، أي سنة ‏‏1364هـ / 1945م، في حفل مهيب» (الشيخ بيوض مصلحا وزعيما، ص20).‏

ولعلَّ هذه المبادرة، المتمثلة في شرح كتاب للحديث، ومصدر للفقه، من غير مذهب ‏الشارح، كانت جديدةً كلَّ الجدَّة، لم يَسبق إليها أحد من علماء الإباضية في وادي ميزاب، ‏في حدود ما اطلعنا عليه. وليس أدلَّ على أثر جمعية العلماء في هذا السبيل من تزامن تاريخ ‏بداية الشرح مع سنة إنشاء الجمعية، أي سنة 1931م، ومن المؤكَّد أنَّ ذلك لم يكن اعتباطا ‏ولا ضربة لازب.‏

روح التوحيد تسري من السلف إلى الخلف:‏

رغم الضعف والوهن الذي أصاب الجمعية ردحا من الزمان، وذلك بُعيد الاستقلال ‏مباشرة، لأسباب سياسية واجتماعية، واقتصادية؛ غير أنَّ الخلف بقي على العهد في تعشق ‏التوحيد والإيمان، والدفاع عن الأخوَّة في الدين والوطن، لا يثنيه عن هذا الموقف مخادع، ولا ‏يستمليه مخاتل.‏
وإن كنتُ أنسى فلن أنسى ذلكم اليوم الذي هاتفني فيه أستاذي الدكتور عبد الرزاق ‏قسوم، رئيسُ تحرير "البصائر" في سلسلتها الرابعة، فقال: «نحن عازمون بإذن الله تعالى على ‏إحياء جريدة البصائر، ورجاؤنا أن يكون ضمن فريق التحرير أحدٌ الإخوة من الإباضية، ‏فكلُّ رجائي أن تكون أنت صاحبَ هذا الفضل».‏

اضطربت جوانحي، وارتجفت فرائسي، فما أنا بالرجل المناسب لهذا المنصب الخطير، ‏ولقد كنتُ ولا أزال تلميذا في صفِّ أستاذي الدكتور قسوم وأترابه... فما الحيلة إذن؟
كانت الحيلة التي حاولت أن أتملَّص بها عن الورطة، طلبَ استشارة أبينا الروحي الشيخ ‏عدون، علَّة يشفع فيَّ ويعفيني من هذه المهمَّة، لكنَّني ما إن سألته، وسألته رأيَه، حتى هبَّت ‏في أوصاله روح الوحدة، التي امتزجت بدمه وعظمه، وتذكِّر العصور الذهبية لجمعية ‏العلماء، فهو في – ولا شكَّ – من جيل الصحابة، ومن الرعيل الأول... فقال: «يصعب علينا أن ‏نهدم سورا لنبني سورا، ولكنَّ السور العام أولى من السور الخاص، فتوكل على الله، وباشر ‏مهامك، وليكن رائدك الإخلاص» (يقصد بالسور الخاص: وظيفتي في جمعية التراث، وفي معهد الحياة؛ وبالسور ‏العام: جمعية العلماء) (انظر- باباعمي: الشيخ عدون قطب المخلصين، وإمام العاملين، نفسه).‏
فما إن هلَّ هلال صفر، 1421هـ، ماي 2000م؛ حتى كانت العدَّة قد أعدَّت، والمقالات ‏قد كتبت وصفِّفت، فما بقي من الإدارة التي يترأَّسها الشيخ الإمام عبد الرحمن شيبان، إلاَّ ‏أن تقدِّم العدد الأول على بركة الله للمطبعة، لكن لن يكون ذلك قبل وضع بصمة التوحيد ‏والوحدة في أوَّل صفحة من الجريدة؛ فردَّد الشيخ – وهو ديوان الجمعية وإمامها اليوم – تحت ‏عنوان "مسيرة البصائر"، ما كتبه المصلحُ المرحوم باعزيز بن عمر، حين قال: «مرحبا بجريدة ‏جمعية العلماء المسلمين، التي نحن لها على العهد القديم وإن طال، مرحبا بالبصائر تزيل ‏الغشاوة عن الأبصار، وتنير البصائر بنور العلم الصحيح، والدين القويم، وتنشر الفضيلة ‏الإسلامية، فيتجدَّد التملِّي بها» (سلسلة 4، عدد 1، صفحة 1).‏

وهل في الوجود غشاوةٌ أفظعُ من غشاوة التقاتل في الدين، وهل العلم الصحيح إلاَّ مدعاةً ‏للوحدة والتوحيد، وهل الدين القويم إلاَّ حبلَ الله المتين، وهل من فضيلة أبلغ من إقامة الدين، ‏ونبذ الفرقة فيه، ألم يقل جلَّ من قائل: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا ‏إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (الشورى: 13)، ‏ألم يأمر ربُّ العزَّة رسوله الكريم بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي ‏شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (الأنعام: 159).‏
ويكتب الدكتور عبد الرزاق قسوم تحت عنون: "عهدٌ جديد"، ما يعبِّر به عن هذه ‏الروح التوحيدية، فيقول: «فإلى شعبنا الجزائري النبيل، وإلى المجدِّدين فيه، من رجال الفكر ‏والثقافة، وحُماة الحرف العربي، والمعتقد الإسلاميِّ، طُلابا ومدرّسين، رجالا ونساء، نضع ‏بين أيديهم العددَ الأول من البصائر في عهدها الجديد، باسطين أكفَّ التعاون، فاتحين قلب ‏المحبَّة والإخاء والبناء». (نفسه).‏

حقا لقد صدق أستاذنا، فما تزال قلوبهم الحانية المؤمنة تنبض دما طاهرا نقيا، يستبدل ‏بالكريات البيضاء والحمراء كريات "المحبَّة" في الله، والإخاء فيه، والبناء طلبا لرضاه. وبهذه ‏الروح العالية دبَّت الحياة في جسم آلاف الشباب، بل الملايين، من أبناء جزائر اليوم... ممن يئس ‏من الخطابات المفرِّقة، ومجَّ الانتماءات المميتة، وهو الذي عايش عشرا من السنين تفوق في ‏شؤمها أيامَ قوم عاد، التي قال عنها جلَّ من قائل: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ‏حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ» (الحاقة: 7). عشرٌ من السنين لم تُبق ‏ولم تذر، أكلت أخضر الجزائر ويابسها، شيبت عنوة ولداننا، واستخفَّت بأحلام شيابنا؛ ذلك ‏أنَّ القاتل فيها والمقتول محسوبون من زمرة المسلمين، وهم أبناء الجزائر المجيدة، يأويهم دين ‏واحد، ويجمعهم مصير واحد... لكنهم مع ذلك، افتقدوا روح التوحيد، التي كانت جمعية ‏العلماء تغرسها فيهم، من خلال مدارسها، وجرائدها، ومحاضراتها، ولقاءاتها، ومواقفها... ‏ولقد صدق أمير المؤمنين عمر يوم قال: «كيف يهتدي المستدلُّ المسترشد، إذا كان الدليل ‏حائرا».‏
وكتبَ الإمام العلامة الشيخ عدون "تحية للبصائر"، يعبِّر فيها عن الفرحة العارمة التي ‏غمرته بإحيائها، وعن الأمل المعقود عليها وعلى الساهرين في بعثها، فقال: «كان لهذه ‏المؤسسات – أي جمعيات الإصلاح في الشمال والجنوب – الفضلُ الأكبر في إيقاظ الأمة ‏الجزائرية وتحسيسها وتوعيتها للقيام بواجبها الديني، الذي يشمل جوانب الحياة الكريمة ‏كلِّها من غير استثناء، فهبَّت بمقتضى هذا الشعور العارم ومن ورائها الشعب الكريم إلى ‏انتزاع الحياة الكريمة من شِدقيْ غول الاستعمار الغاشم...» إلى أن يقول: «ولئن خلَت من قلم ‏مديرها الوفي ومحرِّرها الأبي الإمامِ البشير الإبراهيمي، الذي كان يرصِّع صدرها بقلمه ‏البالغِ الأوجِ في البلاغة والبيان، والقمَّةِ في الدعوة والإرشاد، والسموِّ في التفكير والتنوير؛ فلن ‏تخلوَ بإذن الله تعالى من أقلام باعثيها الأوفياء من أبنائه البررة، ومريديه الطيبين، وناهجي ‏نهجه القويم، في الإيمان بالله؛ ذلك الإيمان الذي دعاهم إلى بعث هذا المنار وإصداره في هذا ‏الوقت العصيب؛ كان الله لهم وليا ونصيرا» (البصائر: عدد 1، ص1، 12).‏

ولقد أبلت الجريدة البلاء الحسن فيما توالى من الأعداد، فنشرت مقالات وبحوثا، ‏تنتظم جميعها في صفِّ التوحيد والوحدة، ولا تحيد عنها قيد أنملة، فهي – وإن كان بعضها ‏دون المستوى المطلوب أسلوبا وفكرا – غير أنَّها لم تظلم من حقِّ الأخوَّة في الله شيئا، ولم تزغ ‏عن الخطِّ المقدَّس يوما... وما شهدنا إلاَّ بما علمنا، والله على ما نقول وكيل.‏

ومن أبرز الأقلام التي هزَّت أركان الجريدة، وشدَّت القرَّاء إليها ردحا من الزمن، ما ‏كتبه سليل البشير الإبراهمي، ووارثُ أدبه - كما كان يلقِّبه بعض المشايخ : أستاذُنا ‏محمَّد الهادي الحسني، فقد كان رمز الوحدة ومثال الإخاء، كتب مقالات ناريةً تُغيظ ‏الكفار، وتشفِ صدور قوم مؤمنين...من بينها نذكر:‏

‏*كملة في غير موضعها، تصحيحا لمفهوم الأخوَّة، وفيها يردُّ على رئيس مجلس الأمَّة، ‏وينقد استعماله لكلمة "الأخ" في حقِّ الرئيس الفرنسي، فيقول: «إنَّ كلمة الأخوَّة تحمل شحنة ‏كبيرة من المعاني والمشاعر النبيلة، كالحبِّ، والتضامن، والتناصر، والآمال، والآلام، ‏والاحترام... ولذلك اختارها شعبنا العربي المسلم ليطلقها على الصفوة من أبنائه الذين نفروا ‏ليجاهدوا في سبيل الله والوطن ضدَّ الفرنسيين» (من وحي البصائر، ص37).‏

‏*الإمام إبراهيم بيوض، ودوره في الحركة الوطنية الحضارية؛ وهي محاضرة ألقاها ‏الأديبُ الهادي، في الملتقى الأول لفكر الإمام إبراهيم بيوض، الذي عقد في القرارة أيام 13-‏‏14 أفريل 2000م. ومما ورد فيها أنَّ علماءنا – وفي مقدِّمهم رواد جمعية العلماء – استطاعوا ‏بتوفيق من الله تعالى أن يُفشلوا المخطَّط الفرنسي الصليبيَّ. ذلك أنهم كانوا من زمرة مَن ‏‏«فقهوا دينهم، وقبضوا قبضة من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في الدفاع عن الحقِّ، والاستمساك ‏بالصدق، فبلَّغوا ما حملوا من أمانة العلم، ووقفوا إلى جانب شعبهم، يثبِّتونه بالقول الثابت، ‏ويربطون على قلبه، ويرابطون على ثغره، وكانوا له معقِّباتٍ يحفظونه من أمر الله، ويصونون ‏خصائصه أن تزول، ويثبِّتون مميزاته أن تحول، ويُعدونه ليوم الفصل، الذي كانوا يرونه قريبا ‏ويراه غيرهم بعيدا» (نفسه، ص87). ‏

‏*وفي مقال تحت عنوان: إغاظة الشيطان في بريان، يقول الحسني: «تآمر عليَّ فضيلة ‏الشيخ عدون وبطانته الخيِّرة، فطلب مني إلقاء كلمةٍ، فقلت – بعد أن تمنَّعت وأنا راغب –: ‏لقد بلغ الغضبُ – اليوم – من الشيطان مبلغا عظيما، فقد ارتفع ضغطه، وزاد سكَّره، ‏وضاق صدرُه، حتى سمعنا له شهيقا وزفيرا... وذكرتُ ما قاله أحد إخواننا الزواويين، وهو أنَّ ‏الله عزَّ وجلَّ لن يطلب منا – عندما تأتي الساعة – لا شهادةَ الجنسية، ولا شهادةَ الميلاد، ‏ولكنه سيطلب منا شهادة السوابق الفعلية. وزدتُ – يواصل الحسني –: إنه سبحانه لن يسألنا ‏إن كنا مالكيين، أو إباضيين، أو لا مذهبيين، ولكنه سيسألنا إن كنَّا حقا مسلمين». ‏وأردف الشيخ الحسني مخاطبا الجمهور بأسلوبه الظريف المعتاد: «قصصتُ عليهم طرفة، وهي ‏أنني مازحتُ – يوما – أخي الدكتور محمد ناصر الميزابي، فقلتُ له: إن صحَّ الحديث ‏المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل بافتراق أمته  إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في ‏النار إلاَّ واحدة... فلا تطمعوا – أنتم الإباضيين – أن تكونوا الفرقة الناجية، ولكن المشكلة ‏هي أنني أحبُّ أن نكون معا في الجنة – إن شاء الله – فإذا كنتم أنتم الفرقةَ الناجية، فمعنى ‏ذلك أنني سأساق إلى جهنم، وإذا كنا نحن الفرقة الناجية فستساق إليها. ‏

فتبسم أخي محمد ناصر من قولي، وقال: إنَّ الفرقة الناجية – إن شاء الله – هم ‏الطيبون من كلِّ مذهب... وأُشهِد الله أنَّ أخي محمد ناصر، قد أزاح بكلمته تلك جبلا كان ‏ينقُض ظهري، ويكبُت على صدري... فتأثر الجميع لتلك الطرفة، وضحكوا حتى مال ‏بعضهم على بعض» (نفسه، ص424).‏

جمعية العلماء تكرَّم الشيخ عدون

في لفتة طيبة، وإيمان بالوحدة راسخ، كرَّمت جمعيةُ العلماء فضيلةَ الإمامَ الشيخ ‏عدون، وإن كان ممن ينكر البهرجة، ويمقتُ الظهور،فهو الذي: «يأبى تواضعُه إلاّ التنكرَ ‏للذات، ونسبةَ الفضل لغيره، واستصغارَ ما بذل، واعتبارَ جهاده طيلة قرن من الزمان مجرَّد ‏قطرة في محيط جهود العاملين، ونكرةٍ في قاموس أعلام الإسلام السامقين» (باجو مصطفى: ‏عندما تغيب شمس العلماء، ص19).‏

فقد قبل الشيخ عدُّون هذا التكريم على مضض، معتبرا في ذلك مقصدَ الوحدة، ورمز ‏الأخوَّة الإسلامية، مقدِّما للجيل اللاحق من أبناء الجزائر دليلا آخر على وجوب الحبِّ في الله ‏والبغض في الله.‏

وقد أعلن الشيخ عبد الرحمن شيبان بكرمه، أنَّ «الشيخ عدون هو الرئيس الشرفي ‏لجمعية العلماء المسلمين، واعتبره من قادة النهضة الإصلاحية أمثال الشيوخ محمد عبده، ‏ورشيد رضا، والإبراهيمي، وبيوض... وغيرهم، عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه».‏

ففي هذه المناسبة كتب الدكتور عبد الرزاق قسوم مقالا بديعا، استفتحه بنفَس ‏إيمانيٍّ فائق، وبأدب عربي رائق، فقال: «عندما تُشرق شمسُ الحياة من جنوب وطننا، حاملة ‏في أشعَّتها ضِياء القرآن، وصَفاء العلم، وإخاء الإصلاح، فتدِبُّ في أوصال أبناء الجزائر مبدِّدة ‏في أجسامهم كلَّ صيِّب من الاستعمار، فيه ظلم الاحتلال، وظلمات الجهل، وظلامية النعرة ‏الطائفية أو المذهبية، ساحقةً وباء فقْدِ المناعة الوطنية، وثاني أكسيد الغزو الثقافي...» ‏‏(البصائر: عدد 197؛ الاثنين 3-10 جمادى الأول 1425هـ / 21- 28 جوان 2004م، ص06).‏

وللشعر حضور في مسيرة الوحدة والتوحيد

في ذات المناسبة، التي كرِّم فيها فضيلة الشيخ عدون، ألقى الشاعر محمد ناصر ‏قصيدة، هزَّت أفئدة الحضور، وذكَّرتهم بعهود الأدب الذهبية، وبصولات الإبراهيمي، ‏والورتلاني، ومحمد العيد، ومفدي زكرياء... وغيرهم من الفحول الأقحاح... فقام الشيخ ‏شيبان وخاطب الجمهور قائلا: «إنَّ جزاء الدكتور محمد ناصر لتهنئته بهذه القصيدة الرائعة، ‏هي أن يقبَّل رأسُه من قبل جميع الحاضرين في هذه القاعة... فاستحسن الحاضرون هذه التحية ‏الكريمة والإشارة البليغة».‏
ولا شكَّ أنَّ القصيدة كانت رائعة في شكلها وفنِّها، وفي بلاغتها وبيانها، لكنها – ولا ‏ريب – تستمدُّ جلالها من محتواها، ومن نفحاتها القرآنية، وروحها التوحيدية... فمما جاء ‏فيها:‏

أبتاه مهما حلَّقتُ بالشعر، فدون سماك آفاق عَلية

مهما تسامى الشعر لن يرقى إليك معلِّمي، فلأنت أشرف أفضلية

إلى أن يقول:

علَّمتنا ألاَّ نرى غير السماء تديُّنا، وتسامِيا فوق الدنية

وتطلُّعا للعلم ليس بمنتهٍ، ما لم يشوِّه من أصالتنا الغنية

لقَّنتنا قيم الصلاة، فحوَّلت منا النفوسَ مآذنا شعَّت سنية‏

عوَّدْتنا فَرض الجماعة، فانصهرنا في الجماعة، لا ندين بطائفية‏

وتوحَّدت خطواتُنا نحو الغدِ البسام، نمضي في طريق سندسية‏

الدين أرضعنا، فآخى بيننا، والدين للأفكار رابطة قوية

ثم ينهي الدكتور الشاعر قصيدته بلمسة من الأدب الرفيع، والخلق الوديع:‏

أبتاه مهما حلَّقتْ بالشعر أخيلتي، فدون سماك آفاقٌ علية‏

أهديتُ شعري باقة لك يا أبي، هلاَّ قبلتَ مع اعتذاري الهدية‏

حسبي شفيعا أنني من روضك الفينان أقطف لك باقة شاعرية.‏

جمعية العلماء تشارك في تأسيس دور القرآن

‏اقتفاء لآثار مشايخنا وعلمائنا، اجتهدنا – رفقة ثلة من الشباب – في تأسيس  العديد ‏من دور القرآن الكريم، بالجزائر العاصمة، ولقد أردناها بعون الله تعالى معقلا للتوحيد، ‏وقلعة للوحدة...‏
ففي يوم الخميس 07 ذو القعدة 1426هـ / 08 ديمسبر 2005م؛ افتتحت بحمد الله دار ‏للقرآن، فكان لها الشرف أن يساهم في اختيار الاسم ثلة من العلماء، وهم: الدكتور قسوم، ‏والشيخ الحسني، والشيخ شريفي بلحاج، والدكتور محمد ناصر، والدكتور محمد شريفي. ‏

وفي كلمة الافتتاح حاولنا أن ننبه إلى جملة من الحواجز، تعيق نهضة الأمَّة، لعلَّ ‏أعقدها "حاجزُ الحمية"، المتمثل في الإحساس المفرط بالمذهبية، والعرقية، والجهوية...‏

وقد ذكرنا يومها أنه «قد آن الأوان أن نكون صُرحاء مع الذات، صُرحاء في حقِّ ديننا ‏وقرآننا، ونعلنها - كما أعلنها بعض العلماء المخلصين من أساتذتنا الحاضرين -: إنَّ ‏الفساد ليس له مذهب، ولا منطقة، ولا عرق، ولا لون... إنَّ المفسد اليوم يصول ويجول بلا ‏حدود؛ أمَّا المصلحُ فقد بنى بينه وبين المصلح الآخر أسوارا من الأوهام... نقول ولا نبالي: إنَّ ‏الإباضي المصلحَ أخ للمالكي المصلح، وللشافعي المصلح، وللشيعي المصلح... وهم جميعا أعداءٌ ‏للمفسدين، مهما كانت انتماءاتهم وأيديولوجياتهم.‏

من هذا المنطلق، نبشِّر الحاضرين أنَّ دار القرآن الكريم، اختارت لها اسما من أعلام ‏الفكر المعاصر، إنـَّه أحد أعلامنا الأفذاذ، الذين دافعوا عن الأخوَّة الإسلامية عقيدة ‏وفكرا، سياسة وفقها...»‏

فولدت في هذا الجو التوحيدي الوحدوي دار "مالك بن نبي" للقرآن الكريم، وقد ‏خرَّجت بحمد الله مستظهرين للقرآن، أصغرهم سنا حفظ كتاب الله هو ابن إحدى عشر ‏سنة. وخرَّجت مجازين في رواية ورش، ولا تزال تؤتي أكلها بحمد الله تعالى.‏

وفي يوم الأربعاء 17 محرم 1428هـ / 31 جانفي 2007م، التقى بالدار البيضاء، ثلة من ‏علمائنا الأجلاء، من بينهم الدكتور قسوم، والشيخ الحسني، والأستاذ مشنان... فشهدوا ‏ميلاد  دار القرآن، المسماة بـ" دار البشير الإبراهيمي".‏

وجوابا على سؤال دقيق هو: لماذا اخترت البشير، فسميتم بهم هذه الدار؟

فكان الجواب في كلمة الافتتاح:‏ ‏«إنَّ الذي دفعنا إلى اصطفاء هذا العلَم الكريم، تلكم الروح الوحدوية التي لا تعرف ‏الحدود، فلقد كتب سنة (1947م) في جريدة (البصائر) بمناسبة (عيد الأضحى)، قائلاً في ‏ختام مقالته: ‏

‏"أما والله لو ملكتُ النطقَ، يا‏‎ ‎عيدُ، لأقسمتُ بما عظّم الله من حُرماتك، وبما كانت ‏تقسم به العرب من الدماء المُراقة في‎ ‎أيامك ومناسكك، ولقلتُ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة ‏من أتباع محمد، يا قومُ: ما أخلفَ‎ ‎العيد، وما أُخلِفت من ربكم المواعيد. ولكنكم أخلَفتم، ‏وأسلفتم الشرّ، فجُزيتم بما‎ ‎أسلفتم.. فلو أنكم آمنتم بالله حقّ الإيمان، وعملتم الصالحات ‏التي جاء بها القرآن،‎ ‎ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوّة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز ‏الله لكم وعده،‎ ‎وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبت ريحكم، وما ‏ظلَمَكم الله، ولكن‎ ‎ظلمتم أنفسكم. أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا ‏استعددتم، لا تظنُّوا‎ ‎أنَّ الدعاء وحده يردّ الاعتداء، إنَّ مادة (دعا يدعو) لا تَنسَخ مادة (عدا ‏يعدو) وإنما‎ ‎ينسَخها (أعدَّ يُعدُّ) و(استعدَّ يستعدُّ) فأعدّوا واستعدُّوا تزدهرْ أعيادُكم، وتظهرْ‎ ‎أمجادُكم"...‏

ثم قال – لا فضَّ فوه حيًّا وميِّتا – في‏‎ ‎الخامس من (جوان 1955م) من إذاعة (صوت العرب) ‏بالقاهرة مخاطباً العيد: «كأنك يا عيد‎ ‎تقول لنا – لو أحسنا الإصغاء –: لا أملك لكم نفعاً ‏ولا ضَراً، ولا خيراً ولا شراً، ولا‎ ‎أسوق إليكم نحساً ولا سعدا، ولا برقاً ولا رعداً، فأصلحوا ‏أنفسكم واتقوا ربّكم،‎ ‎واعملوا صالحاً، واجمَعوا كلمتكم، وصحّحوا عقائدكم ‏وعزائمكم، وتحابوا في الله،‎ ‎وتآخوا على الحقِّ، وتعاونوا على البر والتقوى.. ولا تقاطعوا ولا ‏تباغضوا ولا‎ ‎تدابروا، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم".‏‎ ‎

أقول: لهذه الكلمات التي لو حُفرت على صخور سلسلة الأطلس الصحراوي، وإن شاء ‏البعض منكم اقترح الأطلس التلي [إشارة إلى حوار جنوب جنوب مع الدكتور قسوم]، ثم وُزنت تلكم ‏الجبال، فحوِّلت إلى ذهب إبريز، لما رضيتُ لها بديلا، ولما استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو ‏خير...‏

كلماتٌ، لو صدقت نوايا الحكام في وطني، لحفروها في ذهن الأجيال، ولنحتوها في ‏جبين التاريخ لِيختال... لكن ما العمل، وفينا سمَّاعون لغيرنا، ومصلُّون إلى غير قبلتنا، ‏وعابدون لغير ربنا، ومخلصون لما دونَ وطننا؟

أخيرا وليس آخرا‏

لو حاولت جمع الأمثلة وحشد الأدلة على المواقف التوحيدية التي ميزت مسيرة علمائنا ‏الأجلاء قديما وحديثا، لاستغرقت من الوقت أضعاف ما يسمح به المقام، لكني أوجه ‏الباحثين والدارسين إلى ترصيع جبين التاريخ بهذه الخلال والخصال، التي نباهي بها الزمن، ‏ونعدها مفخرة لجزائر اليوم... فلولاكم – أيها العلماء – لكانت جزائرنا أسوأ من العراق ‏ولبنان، ولَما شهدت لحظة من الهدوء والهناء، فرغم كل شيء، ورغم عوادي الزمن... إلاَّ أنَّ ‏الأمل معقود فيكم، فأعيدوا لجزائر الفخر كرامتها، ووحدوا شمل أبنائها وفلذات ‏أكبادها، وداوموا على العهد دام ودكم، وجزاكم الله عن الإسلام خير جزاء.‏

والسلام، مع تحياتي لمنظمي هذا الملتقى الكريم، أهالي خنشلة الغراء...‏

 

 

ألقيت هذه المحاضرة، في إطار ملتقى جمعية العلماء المسلمين -شعبة خنشلة- والذي عقد بومي 23-24 أفريل 2008، وبحضور العديد منعلماء الجزائر، من مختلف المناطق والجامعات، 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.