المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة
بقلم: عبد المالك حداد -
تعد المطبعة الجزائريّة الإسلاميّة بقسنطينة من مآثر الحركة الإصلاحيّة التي خلّدها التّاريخ، أسستها نخبة من الشّبيبة لخدمة اللّغة والنّهضة الجزائريّة عام 1343 ﻫ/1925 م، كما أسهمت في نشر فنّ الطباعة بين أبناء الوطن لَمَا كان الوضع في الجزائر يتسم بسيطرة الفرنسيين على المطابع، إذ لم تكن حينذاك سوى بضع مطابع عربية أنشأها جزائريون لطبع صحفهم ومنشوراتهم.
وتعود فكرة تأسيس المطبعة الجزائريّة الإسلاميّة إلى الفترة التي كان فيها الشّيخ ابن باديس يكتب فصولا في جريدة النّجاح (أسست سنة 1337 ﻫ/1919 م)، وكان السبب في إنشائها حاجته آنذاك إلى وجود مطبعة تطبع صحيفة تكون لسان حال حركته الإصلاحية التي ابتدأها عام 1332 ﻫ/1914 م، وتضمن لها البقاء ويَأمَن الضغط عليها لمعرفته بمضايقات وعراقيل الإدارة الاستعمارية، وقد عايش ذلك من تجربته مع جريدة النّجاح التي كان يأتمن إدارتها على سره في مقالاته، فأصبح معلوماً عند سلطات الاحتلال التي عرفت ميوله ومقاصده، وهذا من أسباب استقلاله عن الجريدة، وانفصال خليل ابن القشي عن مطبعة النّجاح، ويروي ابن القشي التفاصيل، قائلاً: «كنت أعمل بمطبعة النّجاح وبيني وبين إسماعيل مَامي (بن عبدي) رئيس تحرير النّجاح صلة قرابة وأتقنت فن الطباعة، وكان الشّيخ (ابن باديس) يكتب في النّجاح فصولا تحت إمضاء مستعار (ابن الإسلام، والقسنطيني، والعبسي)، وقد يتحاشى الإعلان عن اسمه، ولكن هذه المقالات كانت تصل إلى الإدارة الاستعمارية فتعرف أسرارها وأحيانا قبل أن تنشر، فكان الشّيخ يتألم، وذات يوم قلت له: لماذا لا تنشئ لنفسك صحيفة تكون لسان حال حركتك، وتنشئ مطبعة لها؟ إنني أعدك أن أترك عملي بمطبعة النّجاح وأتعاون معك. قال: فأجابني أنه سيفكر في الأمر ويتخذ قراره بعد الاستخارة، ثم أعلن قبوله واختيار الذين يعملون معه».
وتكونت عصبة المطبعة أول أمرها من السادة: الشّيخ عبد الحميد بن باديس، وأحمد بن إسماعيل بوشمال، وخليل (الزواوي) بن مُحَمَّد ابن القشي، وإسماعيل صحراوي، وعبد الحفيظ بن صالح صويلح (الجنان)، ثم انسحب هذا الأخير لظروف مالية قاهرة إثر وفاة والده الشّيخ صالح الجنان معلم القرآن في كتّاب سيدي فتح الله (موقعه بمقعد الحوت في رحبة الصوف)، وهو أوّل من أعطى كتّابه وصغاره للشّيخ ابن باديس لما انتصب للتعليم، وجعل من جملة دروسه تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها في آخر الصبيحة وآخر العشية، وكان ابنه عبد الحفيظ من تلاميذه. وفي وقت لاحق بعد عودة الشّيخ مبارك بن مُحَمَّد الميلي من جامع الزّيتونة إلى قسنطينة متحصلاً على شهادة التّطويع (سنة 1342 ﻫ/1924 م)، اختاره أستاذه الشّيخ ابن باديس ليكون من أعضاء المطبعة، وقد أدرك الشّيخ مبارك أهمية الطباعة عندما كان يشاهد في تونس انتشار المطابع خاصة بجوار جامع الزّيتونة، ورجوعه حاملاً معه مسودة القانون الأساسي ليحث الطلاب وأهل العلم على إنشاء مطبعة كبرى تطبع المخطوطات وتنشر الجرائد والمجلات لتحيا أمته حياة علمية لا نظرية.
ولتحقيق مشروع المطبعة كانت هناك حاجة إلى مقر وأموال. أما المقر فقد اشترى أحمد بوشمال باسمه مناصفة مع خليل ابن القشي المحل التجاري الذي كان يشتغل فيه مع والده في صناعة الأحذية ليكون مكانا للمطبعة، وهو الكائن بالنهج المسمى سابقا اليكسيس لاﻣﺒﭙﺮ عدد 33 حذو محكمة القسم الأول قسنطينة، واليوم نهج عبد الحميد بن باديس حذو الأربعين الشريف. وأما المال فقد ساهم كل عضو بقدر المستطاع لتغطية النفقات الباهظة - لمثل من كان في وضعيتهم - على المعدات وآلات الطباعة, ويبدو أن الشّيخ ابن باديس الذي لم يكن له مال ولا دخل قد استعان بوالده صاحب الأملاك والثروة لدعمه ماديا، كما استعان بذهب زَوْجَته التي تبرعت به عليه، وقدمته له عن طيب نفس وإيمان بعظمة مقاصده.
وهكذا استطاع الشّيخ ابن باديس ورفقاؤه في المشروع تجهيز المطبعة، ومن تمَّ تركيب الآلات ووضعها في أماكنها في شهر رمضان 1343 ﻫ/أفريل 1925 م، وقد اختاروا لها التسمية التي تعبّر في حدّ ذاتها عن برنامج له أبعاد، وجعلوا شعارها "النظام والإتقان"، وقُيد نشاطها التجاري (R.C.C) تحت رقم 2505، وتولت طباعة جميع أنواع المطبوعات بالعربية والفرنسية وبجميع الألوان بعد فترة تجربة الآلات والحروف وتوزيع العمل حيث أصبح خليل ابن القشي مديرا للمطبعة وإسماعيل صحراوي مدير المستخدمين، وقد أشرفا معا على الطباعة لخبرتهما السابقة بمطبعة النّجاح، فيما أشرف الشّيخ ابن باديس على صحفه التي صدرت لاحقا وأسند إدارة شؤونها لأحمد بوشمال، وانضوى الشّيخ مبارك الميلي تحت لواء أستاذه يكتب فيها.
جاءت أولى إصدارات المطبعة في خاتمة شهور عام 1343 ﻫ/2 جويلية 1925 م، ممثلة في صحيفة "المنتقد" التي دخل بها الشّيخ ابن باديس عالم الصحافة، مستسهلاً كل الصعاب في سبيل الغاية التي كان يسعى إليها. ولم تعاني "المنتقد" من نقص في المال ولا من عراقيل مطبعية، وإنما عانت من قرار الإدارة الاستعمارية التي عطلتها في مدة قريبة بما تملك من قوانين بعد صدور 18 عددا، فأصدر بعدها جريدة "الشّهاب" في 26 ربيع الثاني 1344 ﻫ/12 نوفمبر 1925 م، وبسبب ضائقة ماليّة نقلها بعد أربع سنوات (1347 ﻫ /1929 م) إلى مجلّة شهرية، واستمرت في الصدور إلى أن أوقفتها السلطة الفرنسية غداة اندلاع الحرب العالمية الثانية.
هذه الغاية التاريخية وأبعادها لم تكن لتخفى على إدارة الاحتلال وأعداء الحركة الإصلاحية، لذا جاء رد فعلها سريعا كما يشهد بذلك الاعتداء الذي استهدف الشّيخ ابن باديس بالاغتيال في 9 جمادى الثاني 1345 ﻫ/14 ديسمبر 1926 م على خلفية اشتداد الحملات في "المنتقذ" ثم "الشّهاب" على الطرقية التي شوّهت محاسن الإسلام، ونشره رسالة "جواب سؤال عن سوء مقال" التي طبعت في المطبعة ردا على شيخ الطريقة العلوية الذي تَجَرَّأَ على مقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أبيات باللّسان العَامِّيِّ، وكذلك استهدف أحمد بوشمال ناحية الجلفة سنة 1345 ﻫ/1927 م. ثم تعطيل صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان يترأسها الشّيخ ابن باديس، وكانت تلك الصحف تطبع في المطبعة منذ سنة 1352 ﻫ/1933 م، وهي: السّنّة المحمّديّة (صدر منها 13 عدداً)، والشّريعة المطهّرة (صدر منها 7 أعداد)، والصّراط السّويّ (صدر منها 13 عدداً)، فيما أفلتت "البصائر" من توّقيف الإدارة الاستعمارية.
ويبدو أن الشّيخ ابن باديس قد تعرض منذ بداية المشروع إلى ضغوط كبيرة لتركه، حيث كشف في مراسلة لصديقه الشّيخ الطيب العقبي مؤرخة في 3 صفر 1345 ﻫ/12 أوت 1926 م أن بعض الأفراد والدوائر دفعت والده مُحَمَّد المصطفى بن باديس إلى أن يأمره بترك المشروع، فيقول: «أخي، إن سيدي والدي رأى أن أترك هذا المشروع، وأمرني بذلك فأبيت، وصمم على رأيه وصممت، حتى أدى ذلك إلى انفصالي عنه، وإعلانه البراءة منّي، راعى ما يرضي بعض الأفراد، وما يحمي سمعته وسمعتي، في تلك الدوائر، وراعيت مصلحة الأمة، والدّين والواجب والمبدأ، فضحيت بكل شيء في هذا السبيل غير متألم إلا تألمي الذي اضطرني إليه، فأنا اليوم يا أخي ناءٍ عن الأهل، صفر الكف منفرد في سبيل المبدأ والواجب». وكان من تداعيات ذلك أن طالبه والده بسداد المبلغ التي أقرضه إياه والمقدر بـ21 ألف فرنك، وقرر الوالد سنة 1352 ﻫ/1933 م أنه في حالة عجز ابنه عن السداد أن يحجز المطبعة، وقد أعان الشّيخ ابن باديس على سداد المبلغ بعض الإخوان الصادقين في خدمة الدّين والوطن.
هذا وكانت مداخيل المطبعة لا تغطي النفقات، وليس لها موارد أخرى، وحتى بعد انتصار الفكرة ونجاحها في الثلاثينات ما فتئت أن عطلت بسبب الحرب العالمية الثانية وما رافقها من تضييق، ما أدى إلى زيادة التكاليف والأعباء حتى صارت تدفع رواتب العمال من رأس مالها، وللخروج من هذه الضائقة قام أحمد بوشمال وباقتراح من مُحَمَّد الصالح رمضان بجمع المقالات التي تتناول موضوعا واحدا من أعداد مجلّة الشهاب في كتاب مفرد يباع ويدر على المطبعة أرباحا تستطيع بواسطتها الاستمرار في العمل. وقد تجسدت هذه الفكرة فصدر كتاب يجمع بعض دروس التفسير للشّيخ ابن باديس، وطبع بمناسبة الذكرى الثامنة لوفاته سنة 1367 ﻫ/1948 م، وقد قدم لهذا الكتاب الشّيخ مُحَمَّد البشير الإبراهيمي.
ومما يذكر في هذا الصّدد أن الشّيخ ابن باديس كان يتناول مرتباً أسبوعياً من المطبعة والشّهاب – مائة فرنك فقط – وبعد وفاته رحمه الله سنة 1359 ﻫ/1940 م بقيَ هذا المرتب يخرج من الميزانية ويدفع كصدقة عليه، وهذه حقيقة ذكرها لأول مرة تلميذه الشّيخ أحمد حماني. وإبان ثورة التحرير وضعت المطبعة في خدمة الثورة حيث كان أحمد بوشمال يمارس أعمالا سرية بطبع بياناتها وبعض وثائقها على غرار بطاقات جنود جيش التحرير الوطني، وقد استقطب نشاط أحمد بوشمال وبعض رفاقه بدعمِ الثورة شبهات الأمن الاستعماري ما أدى إلى اعتقاله، وتوقيف نشاط المطبعة سنة 1376 ﻫ/1957 م.
المطبعة تنتظر من ينفض عنها غبار الزمن
الواقف اليوم أمام باب المطبعة الجزائريّة الإسلاميّة بقسنطينة يجدها موصدة بالسلاسل ودون استغلال أو حتى تحويلها إلى متحف، والأدهى والأمر تدهور حالتها على ما كانت عليه بعد ترميمها من قبل المجلس الشعبي الولائي لولاية قسنطينة سنة 2005 م، أما ورشة الترميم المخصصة لها في إطار قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 فلا أثر لها، وها نحن في ختام سنة التظاهرة.
لقد أتيح لنا رؤية بقايا المطبعة، فوجدنا بداخلها آلات كانت مخصصة للطباعة يعود تاريخها لأواخر القرن 19 م، منها آلة لطباعة الصحف ذات تغذية ذاتية من الورق الملفوف على بكرات، وآلة "مقطع الورق George Lhermite"، ومكينة قص الأحرف، وأخرى لثقب الورق ومكتب ونماذج من الأحرف الخشبية التي كانت تستخدم في الطباعة وقوالب الطباعة الحجرية، ويظهر جليا أن هناك معدات أخرى قد اختفت من المطبعة مقارنة بما شهدناه سنة 2005 م ،أو حتى من قبل، مقارنة بمطابع مماثلة.
للأسف.. اليوم نجد هذه المطبعة تنتظر من ينفض عنها غبار الزمن ويعيدها إلى الوجود، لتروي تاريخ مكان شكّل حقبة من الزمن في تاريخ الطباعة والصحافة بالجزائر، فهي مما خلف العظامُ من ميراث أعمال يُحتذى بها من بعدهم، وأفكار يُهتدى بها في الحياة، وآثار مشهودة ينتفع بها، وأمجاد يعتزّ بها.
فإلى متى تظل المطبعة مغلقة يأكلها الغبار! لا أحد من المسؤولين تجرأ لنفض الغبار عنها، لا الولاية، ولا المنتخبون، ولا وزارة الثقافة ولا السياحة ولا التربية ولا الشؤون الدينية والأوقاف، ولا حتى مؤسسة ابن باديس، ولا حتى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أولم يكن جديرا بدل صرف الملايين على تمثال العلاّمة ابن باديس ترميم المطبعة وجعلها متحفا لأثاره ما دام الجميع فشل في تحقيق هذا الحلم..
المصادر:
أحمد حماني: صراع بين السنّة والبدعة، ج1، وج2.
تقارير سرية من الأرشيف الفرنسي رقم: 1492 بتاريخ 14/06/1933 م، ورقم: 1865 بتاريخ 19/07/1933 م.
الشّهاب: ج1، م5، رمضان 1347 ﻫ/فيفري 1929 م.
عبد الحفيظ الجنان: أطوار من حياة الشّيخ مبارك، البصائر، 15 ماي 1948 م.
مُحَمَّد عباس: الشهيد بوشْمال الساعد الأيمن لابن باديس، الشروق اليومي، 12 جويلية 2015 م.
المنتقد: س1، ع1، ذي الحجة 1343 ﻫ/2 جويلية 1925 م.