جمعية العلماء المسلمين الجزائريين : هل كان مشروعا ناقصا؟
بقلم: د. مصطفى بحموش-
لا أحد ينكر مدى مساهمة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في حفظ هوية الشعب الجزائري والدفع به لنيل الاستقلال. فمجرد استقراء ما قامت به من أعمال جبارة في سياق الظروف الاحتلالية الصعبة والموارد الشحيحة و ضراوة الخصم، تجعل من منجزاتها صرحا كبيرا من التضحيات والإرادة النافذة، يندر وجودها وتكرارها في العالم المعاصر على الأقل على المستوى العربي والإسلامي. لكنه من الضروري في مقابل هالة الاحترام والتقدير التي تنالها الجمعية بفضل هذه الجهود، والتي تحتفل بعيدها –عيد العلم- كل سنة أن يخضع مشروعها لنقد موضوعي بهدف البناء المستقبلي والقفز نحو الأفضل.
إن مقولة فرنسا في "مهمتها الحضارية بالجزائر" يمكن تفنيدها بسهولة بالنظر إلى نسبة الأمية و الجهل في هذا البلد خلال ما يزيد عن قرن وهو ما يؤكد وجود سياسة تجهيل لدى السلطات الفرنسية تجاه الشعب الجزائري. ففي حين كانت فرنسا تنعم بعصر الأنوار وتفجر العلوم الكونية فقد كان المجتمع الجزائري يعاني من ظلمات الجهل والفقر وفقدان المؤسسات التعليمية الكبرى. لقد اختزلت الجزائر إلى مقاطعة ريفية وظيفتها تزويد الوطن الأم بالمنتجات الفلاحية و المواد الأولية، وتحول مجتمعها إلى حشود خادمة لمجتمع ما وراء البحر. لكن ذلك الحصار لم يكن فيما يبدو مطلقا بقدر ما كان تضييقا وحرمانا من فرص التعليم. والدليل على ذلك تلك الثلة القليلة من الجزائريين الذين تسللوا إلى المنظومة الفرنسية، وكذلك نشأة الجمعية ونشاطها الذي امتد طيلة ما يقرب عن ربع قرن كما سنرى.
لقد كانت سياسة فرنسا الاحتلالية في الجزائر كما يراها الدكتور تركي رابح عمامرة تعتمد على محاور أهمها: التجهيل، والتنصير، والتفقير، والفرنسة، والتجنيس. ولذلك فقد كان مشروع جمعية العلماء هو رد الفعل العكسي لهذه السياسة والمناهض لها. ويكفي دلالة في ذلك اقتران نشأتها سنة 1931 باحتفال فرنسا بمناسبة مرور قرن على احتلالها للجزائر واستتباب الأمن فيها لصالح السلطة العسكرية. ولذلك فمن الإنصاف عند تقييم مجهود الجمعية اعتبار هامش الحرية الضيق الذي أتيح لها في تلك المواجهة التاريخية المفتوحة وغير المتوازنة. فقد كان لا بد للجمعية إذا ما أرادت الاستمرار في أداء رسالتها أن تداري حينا وتتنازل حينا آخر، وتلين القول للعدو المتمكن بقدر ما يسمح بالنشاط ويوسع هامش الحرية. ومع ذلك فقد تعرض أعضاؤها كثيرا للنفي والاغتيال والسجن ومدارسها للغلق وملكياتها للمصادرة في الكثير من الأحيان.
وقد كانت الأرضية الاجتماعية التي استلمتها الجمعية جدباء بما اتبعته السلطات الفرنسية من سياسة تجفيف منابع العلم في البلد. فقد قضت السلطات على معظم معاهد التعليم والعلم من مكتبات وزوايا و مدارس وكتاتيب قرآنية. كما تعرضت المؤسسات الوقفية التي كانت مصادر التمويل الرئيسية للتربية والتعليم للهدم والمصادرة والتعطيل.
ولذلك فإن الإحصائيات المتوفرة بعد قرن من الاحتلال تشير إلى ضآلة عدد الأطفال المتمدرسين خلال الفترة الاستعمارية الذي كان لا يتجاوز الخمسين ألفا، موزعين علي 625 مدرسة حكومية، في حين كان ما يقرب من نصف المليون طفل محرومين من نفس الفرصة نظرا لقلة المقاعد المدرسية. ولعل ما زاد الطين بلّة وكرس سياسة التجهيل هذه هو إحجام بعض أولياء الأمور من إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس التي كانت برامجها لا تخلو من نشر الإلحاد و تزييف الحقائق التاريخية إضافة إلى منع اللغة العربية فيها والدين الإسلامي.
وفي مستوى أعلى نجد الأمر أوضح، حيث تشير الإحصائيات المتوفرة إلى قلة عدد الطلبة الجامعيين في المؤسسات الفرنسية الموجودة بالجزائر ناهيك عن تلك التي في فرنسا. فقد اقتصر مجموع الطلبة الجزائريين في كل التخصصات على حوالي خمسمائة طالب، في الوقت الذي كان فيه عدد أبناء المعمرين الأوربيين عشرة أضعاف بالضبط. وفي حين كان عدد أفراد الشعب الجزائري حوالي 8 ملايين نسمة فلم يكن يتجاوز عدد المعمرين ثمانمائة ألف نسمة. وبعد الاستقلال كانت حصيلة الجزائر من الإطارات هي: 354 محاميا، و165 مهندسا، و165 طبيبا، و185 مدرس ابتدائي لمجتمع يقترب من عشرة ملايين نسمة.
وفي المقابل فقد استطاعت الجمعية خلال عشرين سنة من وجودها في تأسيس عدد 150 مدرسة ومعهدا تتوزع على كامل الإقليم الجزائري. و قد بلغ عدد تلاميذها ما يزيد عن خمسين ألف ولد وبنت على مستوى القطر، يقوم على تنشئتهم ما يقرب من ألفي معلم، وهو ما كان ينافس جهاز الدولة. وبالرغم من قلة الإمكانات فقد نجحت الجمعية في مواصلة تعليم عدد من متخرجيها من خلال الثانوية الوحيدة بقسنطينة. ولم يقتصر عمل الجمعية على التعليم فقد كان نشاط أفرادها القلائل يتوزع على الدروس العامة بالمساجد وإصدار عدد من المجلات والجرائد مثل السنة والصراط والبصائر والشهاب وغيرها بالإضافة إلى العمل السياسي السري.
محدودية السقف العلمي للجمعية وعوامله
ليس من باب التجني أن نذهب في هذا المقال إلى القول أن سقف الجمعية العلمي كان محدودا وذلك بالمقارنة بالمستوى العلمي السائد آنذاك، ثم الأهداف التي وضعتها الجمعية في سياستها التعليمية، ثم اقتصارها على العلوم الشرعية دون غيرها من العلوم الكونية. وسنعرض أسفله بعض مظاهر هذه المحدودية من خلال الكشف عن حقائق تاريخية ونقد المنظومة التعليمية و الإطار الإداري للجمعية.
لعل أولى هذه المظاهر هي الروافد الخارجية المكونة لجمعية العلماء المسلمين الجزائرية التي تسمح باستكشاف سقف المطالب الثقافية والعلمية للجمعية. فقد تأثر رائدا الجمعية بالرافدين الدينيين الرئيسيين الذين نهلا منه في المشرق العربي خلال إقامتهما هناك و هما: الحركة السلفية الوهابية في الحجاز، و النهضة الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. فالأولى كانت ترمي إلى محاربة الفساد العقائدي وتحرير العقل المسلم من الخرافات والبدع المتراكمة عبر القرون و العودة إلى التوحيد، بينما كانت الثانية ترمي إلى تجديد الشريعة و الخطاب الديني و رفع الوعي الاجتماعي وفق رياح الحداثة والتحديات التي كانت تأتي من الغرب المناوئ. و لذلك فإن الالتزام بسقف تلك الحركات هو نفسه قد شكل حدود المطالبة الذي توقفت عنده الجمعية.
أما المظهر الثاني الذي حدد السقف العلمي للجمعية فهي الخطة التربوية التي وضعتها لمتخرجيها إن على المستوى التطبيقي أو حتى على المستوى النظري. فقد اتفق كل من ابن باديس و الإبراهيمي أثناء وجودهما في المدينة المنورة على سياسة تعليمية تقتضي تربية النشء على "فكرة صحيحة بعلم قليل". فذلك سيؤدي حتما حسب اجتهاد المؤسسين إلى عقيدة قومية سليمة و نظرة إلى الحياة سديدة. لكن المتفحص للبرنامج التكويني يجد أن معظم التكوين كان يقتصر على اللغة والعلوم الشرعية الأساسية بالإضافة إلى التاريخ و الأدب، في حين لم تجد العلوم العصرية الأخرى التي كانت تعج بها أوربا و الغرب طريقها إلى ذلك المنهاج.
وقد سرى هذا الاقتصار الأفقي إلى نخبة الجمعية التي حظيت بالدراسات العليا آنذاك. فقد التحق معظم المبتعثين الجزائريين بالمشرق مع قلة عددهم لإكمال دراستهم بالمؤسسات العلمية هناك وتلقي العلوم والمعارف الإنسانية و العلوم الشرعية المتاحة آنذاك. وقد كان لهذا التكوين الذي امتد طيلة خمسينات القرن الماضي إلى بداية الستينات ثمرته المباشرة بعد الاستقلال. فقد ساعد الكثير من المتكونين في المشرق في حفظ الهوية الجزائرية و تكوين سفراء للبلد المستقل لكنه اقتصر في نفس الوقت على السلك الدبلوماسي والتعليمي والإعلامي، تاركا المجالات الحيوية الأخرى كالاقتصاد والطب والإدارة والسياسة والتكنولوجيا للنخبة الجزائرية المتغربة.
ولعل المظهر الآخر الذي لا يقل أهمية عن سابقيه هو التركيبة البشرية لنواة الجمعية سواء خلال مرحلة التأسيس أو في طور العمل الذي امتد إلى ما يقرب من ربع قرن من الزمن (1931-1956). فقد تميزت عضوية الجمعية بانحصارها في الفقهاء والشيوخ والأئمة، وعدم استيعابها المفكرين والباحثين في العلوم الأخرى. وقد كان لهذا العامل أثره المباشر في تنوع إنتاجها العلمي ومخرجاتها الثقافية التي اقتصر على التفسير واللغة العربية والآداب والتاريخ والوعي السياسي الوطني والقومي.
كما يكون البرنامج العملي المكثف الذي طغى على الجمعية وهاجس التوسيع الأفقي المستمر الذي كان يتطلب التنسيق على مستوى التراب الوطني الواسع عاملا رئيسيا في منع الجمعية من تعميق طروحاتها والاشتغال بالتنظير والتخطيط الاستراتيجي.
ولا نستبعد في هذا السياق دور الاعتقاد الإسلامي الذي يقتضي رفعة مكانة المسلم ودناءة الكافر المطلقة، مما يكون قد خلق نوعا من العزة لدى أعضاء الجمعية بما لديهم من علوم شرعية، وازدراء كل ما يأتي من فرنسا الصليبية، وهو العامل الذي منع اقتناء العلوم الوضعية الحديثة و الاجتهاد في افتكاكها.
وفي سياق هذا التحدي يذكر أنه حدثت مناظرة بين ابن باديس وأحد جنرالات فرنسا حين كان يناقشه عن الاستقلال. فقد أخذه إلى مستودع في ثكنة عسكرية وأزاح الغطاء عن مدفع طويل وقال له على سبيل النكتة: عندما يكون لك مثل هذا فات لتطالب بالاستقلال، فرد عليه الإمام ابن باديس: لدينا نحن المسلمين ما هو أقوى من ذلك و هي كلمة الله أكبر. فمع التسليم بصحة ردّ الإمام إلا أنه يبدو أن الحادثة لم تدفع أعضاء الجمعية إلى تقبل التحدي و الاهتمام بصناعة مثل ذلك المدفع، ولا حتى التفكير في فهم سره، الذي مكّن لفرنسا في بلاد المسلمين.
ونجد نفس العائق في مقال البشير الإبراهيمي عند معالجته للنظام العالمي الذي وضع له عنوان "أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام". فباستثناء قوة اللغة وسحر البيان الذي تميز به المقال، فإن معظم الحجج و الأدلة التي ساقها الإبراهيمي تندرج في خانة التبجيل و التقديس للإسلام وأسلوب الموعظة بعيدا عن الإقناع العلمي والمنهجي الذي عرفته ثقافة العصر، خاصة إذا كان موجها للغرب. ويتبين ذلك إذا ما قارنا المقال بكتابات عالمية غربية معاصرة أو سابقة له مثل أعمال باشلار وبرودل وإنجلز وآدم سميث وماركس التي أذهلت العالم بعمقها التحليلي أو أقنعته بنهجها التطبيقي.
الوضع العلمي في فرنسا غداة إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
إذا كان من الواضح أن البعد الجغرافي لحركات الإصلاح في المشرق عن الغرب المتقدم قد أثر في طبيعة المنظومة و صبغتها بالإحيائية الداخلية، فإن الوضع في الجزائر كان مختلفا تماما. فلم تكن جمعية العلماء بمعزل عما كان يحدث في أوربا من تطورات، و إنما كانت في قلب الثورة العلمية، حيث كان السفر إلى فرنسا متيسرا و المسافة قصيرة بين ضفتي البحر المتوسط، و قوانين التجنيس سارية. و لذلك فإن التاريخ المقارن سيسمح لنا بالاطلاع على ما كان عليه المناخ الفكري الفرنسي غداة تأسيس جمعية العلماء الجزائريين، و يعطينا بالتالي وسائل أكثر للتقييم الموضوعي و تأكيد فرضيتنا السابقة.
ولإدراك أبعاد هذا الموضوع يجب استعراض بعض إنجازات الفكر الغربي آنذاك و الذي كان حضور فرنسا فيه قويا وأساسيا. فقد أخذت الحركة الفكرية تنمو في أوربا منذ عصر النهضة في حلقات متسعة باستمرار لتشمل جميع نواحي الحياة، بعد إزاحة الكنيسة من مركزها وإحلال العقل والمنهج التجريبي مكانها. وقد كان هذا النمو متناثرا في العواصم الأوربية ومتتاليا طيلة قرون قبل أن يغطي قارة أوربا كلها. ولعل إلقاء نظرة سريعة على تاريخ الأفكار والفنون والآداب والطب والتكنولوجيا في تلك الدول من خلال الموسوعات المتوفرة حاليا سيعطينا دلالة على مدى مساهمة كل بلد أوربي في تلك النهضة.
ففي فرنسا الاستعمارية سميت سنوات ما بين 1650 و1800 بعصر الأنوار التي شهدت هيمنة العقلانية الديكارتية والاهتمام بالإنسان كمحور تفكير ونقد النظام الاجتماعي وزحزحة الدين من السلطة. ولعل أبرز الأعمال التي تلخص هذا المنحى في فرنسا هي إنتاج كل من منتيسكيو، وديدرو وفولتير وجان جاك روسو أوغست كونت وباشلار والذي اعتبر عهدا جديدا للعقل والعلم.
لقد كان من اهتمام ديكارت (1596-1650) تطوير الفكر المنهجي للارتفاع بالعقل الأوربي والبحث عن حقائق العلوم و تحجيم الفكر الديني الميتافيزيقي. وقد كان من اعتقاد ديكارت أن كل العلوم البشرية تخضع للمنطق البشري العالمي المبني على النظام الرياضي والقياس ومنهجية التجربة والاستنتاج الذهني. وقد استفاد كل من سبينوزا في مجال الفلسفة (1677) وإسحاق نيوتن في الفيزياء (1688) من هذا التوجه الجديد وساهم كل منهم بتوسيعه وتغذيته بالوسائل و المادة العلمية و الفلسفية.
أما في العلوم السياسية والاجتماعية فقد كان لإنتاج الاجتماعي الفرنسي منتيسكيو (1748) أثره البالغ في توسيع دائرة الفكر النوراني وزلزلة التركيبة الاجتماعية والسياسية القديمة لإعادة بنائها وفق منطق الطبيعة والسنن الإلهية في الكون ثم العقل والقيم المدنية المشتركة بين بني البشر واحتياجات الإنسان. ولعل مقارنة سريعة بين "روح القوانين" و"مقدمة ابن خلدون" توحي إلينا بمدى الارتباط المنهجي بين المفكرين وإدراك التشابه في طرح كل منهما في الاهتمام بطبائع العمران وسنن الكون.
وقد انتقلت المدرسة الفكرية الفرنسية بعد ذلك إلى مرحلة أخرى ذات معالم أكثر وضوحا عن طريق الفيلسوف أوغست كونت (1789-1857) صاحب المنهج الوضعي الذي وضع أسس المنهج العلمي المبني على التجربة والمعرفة الحدسية للظواهر الطبيعية وهو ما سماه بالإبستمولوجيا. فقد وضعت فلسفته علماء الطبيعة في الإطار المنهجي الصارم والدقيق الذي استمر إلى يومنا. فالعالم يجب أن يعتمد على الملاحظة المجردة للظواهر بعيدا عن أية أفكار مسبقة، ثم عليه أن يكتشف القوانين التي تتحكم في تلك الظواهر مبتعدا بذلك عن التفسير الغيبي الميتافيزيقي السلبي. ولذلك فقد ساهم أوغست كونت في دفع العلوم الكونية نحو الدقة المتزايدة، في نفس الوقت الذي أثر في العلوم الإنسانية الأخرى التي تتميز عادة بسعة هامش الظنية.
أما في مجال الرياضيات فقد ساهمت فرنسا بعدة باحثين كان لهم الأثر البليغ في مسار هذا العلم. فقد برع باسكال منذ سنة 1642 في وضع أسس ماكنة حسابية تسهل عملية الحساب التي كانت تجري في السابق بالأقراص، ثم جاء كاسبار مونج (1746-1818) بأسس الهندسة الوصفية و جوزيف لاكرانج (1736-1813) الذي كلف إثر الثورة الفرنسية بوضع أسس لنظام مقاييس و مكاييل جديدة و التي تحولت إلى أنظمة دولية بعد أن تم تبنيها في مؤتمر باريس لسنة 1960 والتي أصبحت متداولة إلى يومنا.
وفي مجال التاريخ نجد أن الدراسات قد شقت طريقها وفق مناهج جديدة تهدف إلى استنتاج سنن الكون في المجتمعات وتوظيفها في الميدان. فقد عرفت فرنسا ابتداء بمنتيسكيو (1689-1755) الذي اجتهد في رفع الستار عن القوانين التي تحكم الدول والمجتمعات، اجتهادات كثيرة منها أعمال فرنان برودل (1902-1985) الذي سبق وأن درس في كل من الجزائر وقسنطينة والذي وضع أسس المدرسة الفرنسية في دراسة التاريخ. فقد وجد أن الأحداث التاريخية تتقاطع مع الكثير من المواضيع الأخرى التي يمكن أن تخدم فهمها. ولذلك فقد كان يشجع العمل الجماعي المتعدد الأطراف في كتابة التاريخ من جهة، وضرورة توسيع مجال المؤرخ إلى المجالات العلمية الأخرى لفهم أوسع للحادثة التاريخية. وهكذا فقد كان يرى أن للزمن أنواعا ثلاثة أولها الزمن الطويل المتمثل في البعد الجغرافي والسلالة البشرية الممتدة، والزمن المتوسط المتمثل في الدين والتركيبات الاجتماعية والاقتصادية، ثم الزمن القصير المتمثل في التأثيرات السياسية المتقلبة.
وبالموازاة مع هذا التقدم الفكري النظري فقد شهدت فرنسا و أوربا تطورا هائلا في المجال العلوم التطبيقية تتمثل في الصناعة والتقدم التكنولوجي مما أدى إلى ثورة صناعية غير مسبوقة. فقد عاشت بريطانيا خلال سنوات 1780-1820 إرهاصات هذه الثورة التي ما لبثت أن انتقلت إلى جارتها فرنسا ما بين 1830-1870 وهو التاريخ الحاسم لهذه الدولة في التوسع الخارجي واحتلال الجزائر ثم بسط نفوذها على جميع أراضيها الواسعة و إنهاء أشكال المقاومة.
كما كان الطب هو المجال التطبيقي الثاني الذي خطت فيه فرنسا كذلك خطوات رائدة. فقد قادت الدراسات المجهرية –الميكروبيولوجيا- لباستور (1822-1895) لاكتشاف أسباب داء الكلب والذي أهدى للبشرية اكتشافا لا مسبوقا تمثل في اللقاح الوقائي والعلاجي الذي أوقف زحف الأوبئة و الأمراض الفتاكة. وقد استمرت مدرسته في العطاء حيث انتهت باكتشاف لقاحات المضادة للسل سنة 1921. كما أثمرت أعمال كل من السيدة ماري كوري (1867-1934) وزوجها حول الأشعة السينية أثرها الكبير في تقدم الطب الحديث. وقد تبعت ابنتها نفس المنهج حيث نالت جائزة نوبل حول أعمالها الطبية.
لقد عكست هذه الأعمال ظاهرة جديدة من نوعها تمثلت في نشأة نخبة علمية واسعة ومتنوعة دفعت بالعلوم نحو التكامل المعرفي وبالمجتمع نحو التقدم الثقافي مما سحب جزء من السلطة من النخب السياسية من جهة ومن هيمنة رجال الدين الكنسي من جهة أخرى. ولم يكن ذلك بمجرد الدعاوى والطروحات المقنعة للعقل، و إنما كانت كذلك عن طريق تبسيط تلك الأعمال الأدبية ووضعها في متناول الطبقات الاجتماعية الدنيا و الوسطى، بالإضافة إلى تلك المنتجات التقنية التي رفعت من مستوى الحياة المدني والعمران البشري. ولعل أهم ما يعكس ذلك في فرنسا مثلا ما قام به المفكران الفرنسيان ديدرو و دالمبير سنة 1752 بوضع موسوعة علمية شاملة لكل مستجدات العلوم بمختلف فروعها تضم تاريخ الأفكار والمعارف لتسهيل انتشارها بين كافة طبقات المجتمع مما رفع مستوى المجتمع المعرفي.
هل كان الاختراق العلمي ممكنا؟
لعل أهم ما نختم به هذه الدراسة هو التساؤل عن مدى ما فات جمعية العلماء من هذا المناخ العلمي والفكري العام الذي ساد فرنسا والذي امتد إلى الجزائر بفعل الارتباط الإداري والثقافي والحضور المكثف للمعمرين فيها. ويتفرع من السؤال الجوهري السابق تساؤلات تفصيلية عديدة أهمها:
ألم تساعد الخطة التربوية لجمعية العلماء الجزائريين في تكريس سياسة الحصار العلمي بالتسليم لفرنسا بعدم تنمية البحث العلمي والعلوم الحديثة و الاكتفاء بالعلوم التقليدية ؟
ألم تكن سياسة "العلم المفيد القليل" التي أعلن عنها البشير الإبراهيمي هي نفسها عامل إضعاف المشروع النهضوي الجزائري؟
ألم يكن الاختراق العلمي ممكنا في ظل السياسة الاندماجية لفرنسا؟
ألم يكن من الأسهل متابعة الأبناء الذين التحقوا بالمدرسة الفرنسية بالرعاية الوطنية والدينية بدل قبول سياسة التجهيل التي مارستها فرنسا والاكتفاء بالعلوم التقليدية كدرع حام للشخصية الوطنية؟
إن هناك مؤشرات تاريخية تفيد بإمكانية ذلك إلى حد معتبر في ظل سياسة الاندماج وحرية الهجرة والحركة آنذاك، و لعل أدل شيء على ذلك هو القليل من الجزائريين الذين تخرجوا من فرنسا و الذين لم يفقدوا حسهم الوطني العالي، وأهمهم على الإطلاق مالك بن نبي، ثم بعض الأطباء والمهندسين القلائل الذين تخرجوا آنذاك.
ولذلك فإن عدم حدوث الاختراق بالإضافة إلى سياسة الحصار الثقافي الفرنسي، كان أغلب الظن لموانع ذاتية أهمها عدم تجاوز رد الفعل الميداني للجمعية في مواجهة المشروع الاستعماري و الاكتفاء بالموقف الدفاعي وتحقيق استرجاع الهوية. ويعود هذا الموقف بدوره إلى دوافع عديدة لعل أهمها الحاجز النفسي الكبير بين المجتمع الجزائري و فرنسا نظرا لبشاعة ممارساتها، ثم هاجس الإلحاد والكفر الذي كان يصاحب تلك العلوم الكونية التي ارتبطت في الغالب بالفكر العلماني، ثم القصور المنهجي الذي تطرقنا إليه أعلاه.
ولعل هذا الاستنتاج ينطبق على الكثير من الحركات الإصلاحية التي نشأت في العالم العربي. فرغم النداءات التي قام بها الإصلاحيون التحديثيون أمثال خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، فإن الموقف المحافظ وهاجس التغريب كان يلازم تلك الحركات الإصلاحية مما حرمها من إجراء الخطوة الجريئة في تطعيم المؤسسات التعليمية القديمة بالعلوم والمناهج الحديثة والاكتفاء بإثارة العلوم التقليدية وتدويرها.
ولعل الأدهى من ذلك هو تلك العلة المستمرة إلى يومنا والتي ورثناها منذ تلك الفترة والمتمثلة في فشلنا في ربط التقدم العلمي والمناهج الحديثة بالفكر الإسلامي والعلوم الشرعية رغم بعض المحاولات المتباعدة التي تقوم هنا وهناك في العالم الإسلامي.
إنه من الممكن إيجاد العذر لاقتصار جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على العلوم الشرعية واللغة والتاريخ استنادا إلى المعطيات التاريخية المذكورة أو المجهولة، لكنه من الأكيد أننا إلى يومنا لا نزال نعاني من إشكالية درء تعارض العقل مع النقل التي طرحها ابن رشد منذ قرون. بل إن الفجوة قد اتسعت بممارستنا إن على مستوى النخب أو في أوساط المجتمع.
*جامعة البحرين،للتواصل mostefaa@yahoo.co.uk