خصائص أدب الإبراهيمي
بقلم: الشيخ عبد الرحمن شيبان -
إن الأستاذ الإبراهيمي قبل أن يكون إمامًا مصلحًا، وفقيهًا أصوليًا، ومربيًا حكيمًا، وسياسيًا محنكًا، كان أديبًا شاعرًا، وخطيبًا مفوّهًا، يهزّ القلوب ببيان ساحر، يعيد إلى الأذهان ما كان للخطابة العربية من مكانة وسلطان في عهودها القديمة الزاهرة. وهو محدّث بارع لطيف، يعمر مجالسه بالحكمة، ويجمّلها بالنكتة، ويعطرها بأريج اللطف، ينعش الأرواح، ويؤنسها بشعاع من الفكر يهدي العقول.
وهو ديوان لأيام العرب وآدابهم وتقاليدهم، في أفراحهم وأحزانهم، في حربهم وفي سلمهم، يروي عن فهم وبصيرة، ويصدر عن حافظة واعية خارقة للعادة، وذاكرة تحت الطلب ملبية منجدة.
وهو شاعر فحل في الفصيح والملحون، يذكّرك بالمعرّي في لزومياته، وأبي الطيب في حكمه وأمثاله، وشوقي في ملاحمه وبدائعه.
أما أسلوبه في الكتابة فمتنوّع بحسب الموضوعات وأحوال المخاطبين والمناسبات، فتخاله أحيانًا ابن بسّام في ذخيرته، أو ابن العميد في إخوانياته، أو الزّيات في لوحاته، وتحسبه في بعض الأحيان محررًا في جريدة يومية، بساطة وواقعية، من غير إسفاف أو حشو أو سوقية، فهو بحق معجزة من معجزات الثقافة العربية الإسلامية والبيان العربي في القرن العشرين.
ومن الأنماط الكتابية التي تكاد تجمع هذه الأساليب كلها رقة وجزالة، وقربًا وسموًا وسطحية وعمقًا، هذه الفقرة عن قضية فلسطين التي تهمّ العرب والمسلمين كلهم على اختلاف مداركهم واهتماماتهم، من أول نكْبَتِها إلى اليوم، وذلك إذ يقول كأنه يخاطبهم في ساعتنا الحاضرة:
"أيها العرب، إن قضية فلسطين محنةٌ امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست تُنال بالشعريات والخطابيات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوّة".
"إن الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه".
"وكونوا حائطًا لا صَدْع فيه … وصفًا لا يرقع بالكسالى"
وإلى جانب هذه الثروة الزاخرة، والمهارة الفنية الزاهرة، فهو يَحْيا بإيمان يجعله دائمًا في اهتمام واقعتمام بقضية بلده الكبرى مع الاحتلال الطويل البغيض، وقضايا الأمة العربية الإسلامية المبتلاة كلها بالاحتلال والاستغلال على اختلاف في الدرجات والمظاهر، وقد عبّر عن هذه المعاني في جملتها بعبارات موجزة صارخة مؤثرة الإمامُ الراحل المرحوم الشيخ محمد الغزالي، صديق الجزائر وشريكها في عهد جهادها، في ليل الاستعمار، ومساعِدُها ومنير دربها ومربّي جيلها في عهد الحرية والاستقلال، ومقاسمها آلامها وجروحها في عهد محنتها وفتنتها، إذ يقول رحمه الله: " ... وأذكر من أولئك الزعماء اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، عرفتُه، أو تعرّفت إليه، في أعقاب محاضرة بالمركز العام للإخوان المسلمين ... كان لكلماته دوّي بعيد المدى، وكان تمكّنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رزق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة، يذكّرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها، لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدّنا إليه- على قيمته المعنوية- إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين وغيظه المتفجّر ضد الاستعمار، ورغبته الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم، ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يحرّروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خطبته يزأر كأنه أسد جريح، فكان ينتزع الوجل من أفئدة الهيّابين، ويهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: "إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء" (1).
من الصفات البارزة التي يعرفها العاملون والعاملات في ميدان التربية والتعليم والوعظ والإرشاد عن إمامهم وقائدهم الإمام الإبراهيمي أنه كان يحنو ويعطف عليهم عطف الأب على أبنائه، ويبذل أقصى ما في وسعه لإرشادهم وتوجيههم إلى أحسن السبل لأداء مهمتهم على الوجه الأكمل، مع حرصه الشديد على حل مشكلاتهم المادية والأدبية مع الجمعيات المحلية القائمة بشؤون المدارس والمساجد والنوادي، والدفاع عن كرامتهم وحقوقهم أمام السُّلَط الاستعمارية الباغية.
وكان آخر واجب أدّاه هذا الأب الشفوق نحو أبنائه والقائد الأمين نحو جنده حرصه على أن ينالوا حقوقهم- في عهد الاستقلال- من دولتهم التي كانوا في طليعة بناة أركانها، وذلك بتولّيه- عام 1964 - رئاسة اللجنة الوطنية لإدراج الأساتذة والمعلمين الأحرار في سلك الأسرة التعليمية الكبرى للتمتعّ بجميع ما يمنحه قانون الوظيفة العمومية من حقوق للموظفين المرسمين، ماديًا وأدبيًا. وتمكّن بهذا الإجراء العادل عدد كبير من المعلمين والمربين والمرشدين الأحرار من أخذ حقوقهم كاملة، وكانت شهادات الحصول على هذه الحقوق موقعة كلها بتوقيع الإمام الإبراهيمي. وقد سجّل هذه المكرمة الوطنية في إبانها، الكاتب، الشاعر الأستاذ المرحوم حمزة بوكوشة بقصيدة عنوانها "نصر وفتح"، إذ يقول:
نصرٌ به استبشرتْ في الخلد قحطان … وهنّأت تَغْلِبًا في العرب عدنان
فتْحٌ به الدين والفصحى قد ارتفعا … فوق السماك، وقبل اليوم قد هانوا
كان الجزاءَ لمن وفوا بعهدهمُ … إن الوفاء لدين الله قربان
لفتية كسيوف الهند مصلتة … لا يُعقَد العز إلا حيثما كانوا
ففي النوادي لهم ذكرى وموعظة … وفي المساجد تذكير وقرآن
وفي المدارس تعليم وتربية … لِصِبْيَةٍ حظهم علم وإيمان
فهم رصيد به كانت جزائرنا … -رغم الزواج- لم يضعف لها شان
إن خير ما نختم به هذه الكلمة عن هذا العبقري، الذي لا يجود بمثله الزمان إلا نادرًا، هو ما جاء في ابتهالات له ناجى بها ربّه العزيز الرحيم في تقريره الأدبي عن جمعية العلماء سنة 1951، بعد خمس سنوات من استئناف نشاطها إثر الحرب العالمية الثانية، وهو دعاء ينطبق على أوضاعنا في الجزائر وفي الأوطان العربية والإسلامية جمعاء: "اللهم ارزق أمة محمد التفاتًا صادقًا إليك، والتفافًا محكمًا حول كتابك، واتّباعًا كاملًا لنبيّك، وعرفانًا شاملًا بأنفسهم؛ فقد جهلوها، وتعارفًا نافعًا بين أجزائهم فإنهم أنكروها، وبصيرة نافذة في حقائق الحياة فقد اشتبهت عليهم سبلها الواضحة؛ وهب لهم من لدنك نفحة تصحّح الأخوة السقيمة، وتصل الرحم المجفوة، وتمكن للثقة بينهم، واتحادًا يجمع الشمل الممزّق، ويعيد المجد الضائع، ويرهب عدوّك وعدوّهم، ورجوعًا إلى هديك يقربهم من رضاك، ويسبّب لهم رحمتك، ويزحزحهم عن عذاب الخزي، فإنه لا يذل من واليت ولا يعزّ من عاديت" (2).
ونسأل الله عزّ وجلّ أن يتغمّد برحمته ورضوانه صاحب هذه الآثار الذي قال، بحق وصدق، عن جهاده من أجل الجزائر: "إنني ما زلت أقارع الغاصبين لحقّك في ميدان، وأكافح العابثين بحرمتك في ميدان، وأعلم الغافلين من أبنائك في ميدان" (3).
وصلّى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار.
1) مجلة الثقافة الجزائرية، ع 87، مايو- يونيو 1985. وانظر مقدمة الجزء الرابع من آثار الشيخ البشير الإبراهيمي.
2) انظر التقرير الأدبي في هذا الجزء من الآثار.
3) انظر مقال "تحية غائب كالآيب" في الجزء الرابع من آثار الشيخ البشير الإبراهيمي.