الإمام ابن باديس والواقع الحالي..!
بقلم: كمال أبو سنة -
"إن عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها... فالرشيد الرشيد هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين فعمَّر وقته بالأعمال، والسفيه السفيه من أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل" [مجالس التّذكير،ج2 ،ص138].
هذه كلمات صدْق طبقها الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله في واقع صعب جدا، إذ كانت حياته كلها لا تخلو من الأعمال العظيمة النافعة والمواقف الشجاعة الباهرة، والجهاد الطويل والنضال المستمر الذي لم ينقطع حتى وهو على فراش الموت يصارع أسبابه، والمقاومة الفعالة ضد تحديات مختلفة قهرها بعزيمته الفلاذية، فكان بإخلاصه أمة وحده، وحقق في سنوات قصيرة بحركته التي لا تهدأ بالليل والنهار ما عجزت عن تحقيقه دول..!
إن الاحتفاء بالإمام العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس وصحبه العلماء من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رحمهم الله جميعا أمر مطلوب، وقربة يحبها الله والصالحون من عباده، خاصة في هذا الزمان الذي اختلطت فيه المفاهيم، وارتبكت فيه الأولويات، وأصبح الذي يهدم كمن يبني في عرف بعض كبرائنا...بل ولا يستويان مثلا في أغلب الأحيان إذ يقدم الهادم، ويؤخر الباني، ولله في خلقه شؤون..!
لقد تابعتُ كما تابع غيري عبر صفحات "الفيس بوك" صورة التمثال المصنوع للإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله الذي لا يشبهه وقد وضع أحد الشباب المغرر بهم سيجارة في فمه ساخرا ومستهزئا، وفعل فعلته تلك التي فعلها وهو ظالم لنفسه..!
والحق أن هذا الفعل المستنكر في رمزيته لن يضر ابن باديس شيئا، وهو لا يعبر عن التوجه العام للشباب الجزائري، لأن أغلب الجزائريين قد صنعوا له تماثيل من الحب والتقدير في قلوبهم، وهو يعيش فيهم بأفكاره وآثاره ومآثره، وهم يشهدون له أنه قد أدى الأمانة كاملة غير منقوصة، وأفضل تكريم له هو أن يحافظ أبناء باديس على الثوابت التي عاش بها ولها والتي رفعها في هذا الشعار المقدس:"الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا ".
ويضاف إلى هذا ضرورة أن يسعى الجزائريون المحافظون على النسب الأدبي الشريف الموصول بـ"باديس" إلى نشر فكره بين الناس من خلال طبع أعماله المسطورة وتوزيعها بالأخص بين الشباب في الثانويات والمعاهد والجامعات حتى يطالعوا تراث الإمام الذي خلفه، ويستفيدوا منه، فهو كنز قيم يشترك في ملكيته المعنوية جميع الجزائريين، ومعهم كل المسلمين في العالم...
بل إن ما تركه الإمام ابن باديس من فكر وعلم مستمد من كتاب الله الخالد وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تحتاجه حتى الإنسانية التي كانت في دائرة اهتمامات دعوته وحركته الإصلاحية..!
وعلى الدولة الجزائرية إذا كانت حقا تقدّر الإمام عبد الحميد بن باديس أن تتبنى مشاريعه الكبرى بتجسيدها في مفاصلها، وتفسح المجال واسعا لأفكاره النهضوية والإصلاحية في عملية البناء الحضاري، خاصة في ميدان التربية والتعليم، ليتحقق ما كان يطمح إليه في"الدولة الجزائرية المستقلة" التي كان يحلم بها ويعمل لها رفقة أصحابه الكرام.
ومهما يكن من أمر فإن الإمام عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مدرسة قائمة بذاتها لها خصوصياتها ومميزاتها معدودة من كبرى المدارس الفكرية والإصلاحية في العالم الإسلامي والإنساني، وقد لاحظنا أن الكثير من العلماء والمفكرين في مؤسسات علمية عالمية عريقة يعنون بدراسة آثاره ويحولون الاستفادة منها، وأخشى ما أخشاه أن يكون غيرنا أوعى لما تركه إمامنا من علم وفكر وسيرة ومسيرة وأكثر انتفاعا منا بها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.