الحرية كما يراها العلامة ابن باديس
بقلم: عبد القادر قلاتي -
عند الحديث عن أي خطاب فكريّ يتوجب البحث عن أهم الأدوات التي ترفد هذا الخطاب وتحصنه بما يمكنه من تحصيل الخصوصية والذاتية التي تجعله ينتمي إلى مجاله التداولي الحقيقي، وإذا كنا سنتحدث عن خطاب الحرية المنجز في متن حركة الإصلاح الحديثة في العالم الإسلامي، وعند شخصية متميزة في هذه المدرسة ونعني بها علامة الجزائر الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ فإننا سنستند إلى الرؤية الدينية/الإسلامية وسيكون حديثنا عن مفهوم أصيل في بنية هذه الرؤية، ولا يعنينا النّظر في مفهوم الحرية وخطابها الفلسفي في المجال التداولي الغربي؛ لما يشكله هذا المفهوم من جدل واسع داخل هذا المجال التداولي.
ربما لم يقرأ أيّ خطاب فكري -إيديولوجي أو معرفي- الواقع السياسي والديني في العالم الإسلامي قراءة موضوعية نقدية وتحليلية، كما قرأه خطاب الإصلاح . لقد أمدنا هذا الخطاب بمجموعة من الآليات الفاعلة كانت دوماً دافعة لليقظة الروحية والفكرية التي صاحبت عملية النهوض الحضاري.
والحق أنّ الذي دفعني للكتابة حول موضوع الحرية في فكر الشيخ عبد الحميد ابن باديس هو نص استدل به الدكتور محمد سليم العوا في كتاب حواري جمعه بالدكتور برهان غليون عنوانه: "النظام السياسي في الإسلام"، والنّص يقول: "فحق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية. والمعتدي عليه في شيء من حريته كالمعتدي عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله الرسل وما شرع لهم الشرع إلا ليحيوا أحرارا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية…وما انتشر الإسلام في الأمم إلا لما شاهدت فيه من تعظيم للحياة والحرية ومحافظة عليهما وتسوية بين الناس فيهما مما لم تعرفه الأمم من قبل لا من ملوكها ولا من أحبارها ورهبانها".
والنّص في الواقع ليس غريبا عني فقد قرأته مرارا فيما قرأت من نصوص الشيخ التأسيسية لحركة الإصلاح في الجزائر، إلاّ أنني وجدتني اكتشفه لأول مرة لقوته وشموله، ووقفت مليّاً عند هذا النص المتقدم جدا بالقياس لمجمل الفكر الإصلاحي، وأدهشتني قدرة الشيخ على الوصول إلى أبعد نقطة في مفهوم الحرية، وهذا ما دفعني إلى الرجوع لبعض نصوص الشيخ التي تعطي مفهوم الحرية تفسيراً يتجاوز المألوف من كتابات الأدب الديني، الذي غالباً ما ينحصر في حدود اللغة، أو التفسيرات المأثورة.
والشيخ في هذا النّص يجعل الحرية موازية للحياة كما يجعلها الوظيفة الأساس للرسالات السماوية، ثمّ يذهب بعيداً ليجعل الحرية هي الرسالة الحقيقية في انتشار وقبول الإسلام عند الشعوب والأمم التي وصلها. لقد وُفِّقَ الشيخ أيّما توفيق عندما رسم أهم المحاور التي تحصر مفهوم الحرية وتجعلها قاعدة لمسار وتاريخ الإنسان، فإذا جعلنا الحرية موازية للحياة أوهي نفسها، رأينا كيف أن الإسلام جعل الحرية أصلاً من أصوله الثابتة. فالحرية قدر الإنسان الذي ميزه عن بقية المخلوقات.
والنِّضال من أجل الحرية ليس حقاً بل واجباً يثاب على فعله ويعاقب على تركه. تماماً كما أن تفريط الإنسان في حياته يعاقب عليه لما للحياة من قدسية وقيمة في الإسلام. وهذا ما عبر عنه القران الكريم عن كون الحرية أصلاً من أصول الإسلام وذلك في وصف النّبي -صلى الله عليه وسلم- ووصف أصحابه: {الَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعروفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتي كانَت عَلَيهِم}الأعراف/157. فالرسول – صلى الله عليه وسلم – جاء ليحرر الإنسانية من القيود والأغلال، ومن كلّ أسر يمارس على حرية الإنسان. ونص الشيخ في هذا يؤسس، فيما يؤسس له من قواعد الحرية، لحرية الرأي وسائر الحريات؛ لأن حرية الرأي هي المعادل الحقيقي لمعنى الحياة فمن كان فاقداً لهذه القيمة؛ كان بالضرورة فاقداً للحياة، وهذا تماماً ما كان الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب يعبر عنه لما قال قولته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
فهذا الحق ليس من الحقوق المباحة التي مكَّن الإسلام المسلم منها بل واجب في حقه إذا قصر في تحصيله، أو كما يقول الدكتور عبد المجيد النّجار: "ولكثرة ما جاء فيها -أي حرية الرأي – من طلب مشدد يمكن أن نعتبرها ترتقي في سلم المقاصد الشرعية إلى درجة الضرورة. فهي مقصد ضروري من مقاصد الشريعة".
ومن النصوص القرآنية الأكثر دلالة على الحض على التمسك بحق حرية الرأي بل والسعي في طلبه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}النساء/97 وهذا فيه معنى الرفض المطلق لمنطق الاستضعاف والاستذلال الذي يفرضه قانون الظلم والظالمين، فإذا فقد المسلم حريته في بلده وبين أهله نتيجة هذا الظلم، فإن الهجرة إلى حيث تتوفر هذه الحرية واجبة في حقه؛ لأنه سوف يسترجع حياته التي فقدها في بلده؛ لأنّ الحرية هي الحياة كما يرى الشيخ ابن باديس.
إذا وقفنا أمام مسار تاريخ الرسالات السماوية وجدنا أنَّ دعوة الرسل والأنبياء جميعاً كانت تنشد الحرية وتجعلها عنواناً لمنطق العبودية. وإذا كانت دعوات الرسل تركز -فيما تركز عليه- على عبودية الله وحده وجعلها المسالة المركزية التي تحدث المفاصلة بين العدل والاستبداد، فان هذه المفاصلة لا تتم إلا بالحرية وهو ما عبر عنه الشيخ بقوله: "وما أرسل الله الرسل وما شرع لهم الشرع إلاّ ليحيوا أحراراً، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية".
إنّ الذي جعل ابن باديس يعبر عن الحرية بأنها رسالة الإسلام الحقيقية التي جعلت له القبول عند الأمم والشعوب التي وصلها؛ ما قرأه في نصوصه التأسيسية التي تبرز رؤية الإسلام لجدلية العلاقة الفطرية بين الإنسان والحرية التي فطره الله عليها. فقد اتفق جميع علماء الإسلام أنَّ الحرية والعقل هما مناط المسؤولية والتكليف، فلا مساءلة ولا تكليف لمن لا حرية أو لا عقل له، وهذا يضع مفهوم الحرية وأهميتها في مكانة واحدة مع العقل، الذي هو محلّ تكريم الإنسان وسمو مكانته. فالإنسان في الإسلام؛ هو مستخلف في الأرض من قبل الله -عز وجل- وهذا الاستخلاف مشروط بتوفر العقل والحرية قال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}البقرة/286، وبعد توفر القدرة على التمييز والاختيار: {فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر}الكهف/29.
وبهذا المعيار العادل يُسأل الإنسان عن اختياراته ويحاسب عليها. بهذا جعل الإسلام الحرية أصلاً من أصوله الثابتة، وليس هناك من نظام معرفي في تاريخ البشرية أعطى الإنسان نطاقاً أوسع وأعدل ممَّا منحه الإسلام من حرية، وليس أدلَّ على ذلك ما قرَّره الإسلام من منطق التسامح في أهم مبدأ من مبادئه، إذ أعطى للإنسان حرية كاملة في المعتقد الديني، ونهى عن منطق الإكراه في الدين، فقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِيالدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}البقرة/256. وقال سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}الكافرون/06. كما قال -عزَّ وجلَّ- مخاطباً نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {أَفَأَنتَ تُكرِهُ النّاسَ حَتّى يَكونوا مُؤمِنينَ }يونس/99، ثمَّ قوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}الغاشية/21-22، لقد حقق الإسلام الحرية الكاملة للإنسان عندما سوَّى بين البشر جميعاً، وأمرهم بالخضوع لله وحده، وليس بعضهم لبعض، فالله وحده المستحق بالعبادة، والنَّاس متساوون بعبوديتهم له.
هذه وقفة بسيطة أمَامَ نصٍ مُهمٍّ ومُتقَدم في الطرح يظهر بوضوح أنَّ المتن الإصلاحي في مجمل إنتاجه التنظيري؛ أقدر على فهم الإسلام وتوضيح مفاهيمه ورؤاه بعمق منهجيّ ومعرفيّ، وذلك باستلهامه لمنهجية القرآن المعرفية من حيث القول والفعل. وهذا ما لا نراه أو نلمسه عند التيارات الإحيائية التي تملأ الساحة الثقافية والفكرية في العالم الإسلامي، وتقف أمام المسائل الكبرى للإنسان والمجتمع والدولة برؤية سطحية تفتقد لهذا العمق المنهجي الذي يطبع المتن الإصلاحي في عمومه.
والله من وراء القصد.