عبّاس بن حمانة صيادة التّبسي 1914-1878م ومدرسته الصّدّيقية بمدينة تبسّـة
سمير زمال

عبّاس بن حمانة صيادة التّبسي 1914-1878م ومدرسته الصّدّيقية بمدينة تبسّـة

بقلم: سمير زمال-

تبسة كغيرها من مناطق القطر الجزائري شهدت بدايات القرن العشرين نهضة علمية ثقافية تمثلت في بروز نخبة من رجالات العلم والتعليم عملت على بناء المدارس وإحياء اللغة وبعث مجالس العلم وإصدار الصحف، كما توجه البعض لممارسة الأنشطة السياسية خاصة ما تعلق بالانتخابات البلدية، ومن الشخصيات التي كان لها قدم السبق في إبراز الشخصية الوطنية في مواجهة الوجود الكولونيالي على مستوى المنطقة الشرقية من الجزائر وتحديدا في حوز تبسة نجد الرمز الوطني والمثقف السياسي عباس بن حمانة صيادة التبسي الجزائري-رحمه الله، والجهد الكبير الذي قام به في بعث الشخصية الجزائرية الأصيلة بمقوماتها الثلاث اللغة العربية والدين الإسلامي والهوية الجزائرية باتخاذه لوسائل حديثة ترتقي بالعنصر المحلي لمواجهة الآلة التغريبية الفرنسية آنذاك، فكان تأسيس وبناء مدرسة تعليمية عربية وبوسائل عصرية ثمرة جهوده ومن أعانه من أهل تبسة خاصة من بني ميزاب الذين استوطنوا تبسة منذ سنة 1865 عندما حلّ بها أول تاجر للقماش واستقر بين أهلها بطلب وإلحاح منهم .

نُبذة عن شخصية المناضل عباس بن حمانة
إنه المناضل المصلح عباس بن حمانة صيادة – ولقب أسرته الآن *سيادة* – من مواليد 1878 م بقرية مسكيانة شمال تبسة، عمل في ميدان التجارة وتملك العديد من الأراضي بها، معروف بنشاطه الوطني وسعيه الدؤوب في خدمة السكان المسلمين ساعده على ذلك إتقانه ومعرفته باللغة الفرنسية إلى جانب العربية الأم، كانت شخصيته محبوبة بين أفراد المجتمع التبسي بكل مستوياتهم وطبقاتهم، كما كانت له مكانة سياسية مهمة في أوساط النخبة، وسيفا مسلولا في مواجهة أعوان الإدارة الفرنسية وأذنابها الموالين لها، مارس السياسية بحنكة جعلته يسبب الكثير من المخاوف للمستوطنين والفرنسيين على حد سواء.
ذكر الأستاذ أحمد عيساوي أنه في بدايات القرن العشرين استقبل بن حمانة الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر ببيته عند مروره بتبسة واستضافه لأيام في مزرعته٬ وكان رحمه الله أحد أعضاء الوفد الجزائري إلى باريس سنة 1912 للاحتجاج ضد سياسات الإدارة الاستعمارية وما تحمله من تمييز وعنصرية، كما ندد بقانون التجنيد الإجباري المفروض قهرا على الجزائريين.
نوّه بمجهوده ونضاله العديد من الأعلام، نجد مثلا الأستاذ محمد علي دبوز وسعد الله أبوالقاسم، قال عنه الأستاذ مالك بن نبي – رحمه الله- في كتابه مذكرات شاهد للقرن :” .. بن حمانة لا بد أن يذكر بأنه أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في منطقة تبسة في تلك المرحلة، وبفضله ارتفعت ضمن أسوار تبسة أول مدرسة …”، وأثنى عليه بوصفه ” ..قد عاش مصلحا مدافعا عن هويته الجزائرية وقوميته العربية وأصالته الإسلامية ..”.
قُـتل عليه رحمة الله غدرا سنة 1914م إثر ضربة فأس وهو مرابط بمزرعته الواقعة ٱنذاك في حي المرجة أحد ضواحي مدينة تبسة٬ ولا شك أن نشاط ابن حمانة كان يهدد المصالح الفرنسية، وسبب لهم الكثير من المشاكل فأدى ذلك إلى اغتياله.

المدرسة الأهلية الصّدّيقية ودور بني ميزاب في تأسيسها
مع استقرار مجموعة من الميزابيين في مدينة تبسة أواخر القرن التاسع عشر وخلال العشرية الأولى من القرن العشرين، ثم اشتغالهم بميدان التجارة لمختلف أنواع السلع والبضائع خاصة التمور والقماش، وكان منهم أيضا أصحاب علم و دراسة بمجالسه كونهم كانوا تلاميذ للشيخ امحمد أطفيش، إذ نجدهم ومع مرور الوقت استطاعوا-أي الإخوة الميزابيون- كسب مودة وحب واحترام أهل تبسة نظرا لما يمتازون به من صدق حديث وأمانة وبذل – وهو الحال لحد كتابة هاته الكلمات-، أضحت تبسة مكانا خصبا لتلاقح الأفكار وتبادل التجارب وتوافق الرؤى بين الجانبين في سبيل مواجهة تسلط الإدارة الفرنسية وأعوانها بسياسة العنصرية والتنصير وكذا التجنيد ضد الجزائريين، فكان من ثمرة هذا التعاون بناء مدرسة تجمع في حجراتها أطفال تبسة وتعمل على تعليميهم وتربيتهم وفق منهج علمي وتربوي.
أسست هذه المنارة العلمية سنة 1913 م وسط مدينة تبسة بالقرب من مسجد العتيق المعروف في مكان يسمى الٱن – بلاصة الديوانة/ أنظر الصورة المرفقة٬ وقد سميت بـ “الصديقية ” نسبة الى : الجمعية الصديقية للأعمال الخيرية بتبسة والتي أشرفت عليها مجموعة من الخيرين والأعيان الصالحين يتقدمهم كل من عباس بن حمانة كرئيس لها والذي سبق التعريف به وبمساره النضالي، بمعية شخصيات ميزابية مثقفة ومحبة للعلم وأهله من أبرزهم الشيخ الحاج عمر العنق الذي كان أمين المال والشيخ الحاج .
لقد كانت المدرسة الأهلية الصديقية أول مدرسة تدرس مختلف العلوم باللغة عربية بوسائل حديثة وعصرية كالتي كانت في المدارس والمعاهد الفرنسية، مستقلة تماما وحرة، غير مرتبطة بالسلطة الفرنسية ولا تعمل وفق برامجها، لم توجد في تلك المرحلة مدرسة سواها ولا شبية لها في القطر الجزائري بإجماع المؤرخين.

هيكل المدرسة التنظيمي ونظامها التعليمي
كان الموقع الذي تم اختياره ليكون مكان المدرسة ملكا لعائلة الشيخ الميزابي الحاج بكير بن عمر المرموري – رحمه الله – ، تبرع بها للجمعية الصديقية، جاء وصفها في العدد الثلاثين 12-04-1921م من جريدة الصديق في مقال بعنوان ” أول مدرسة حرة نظامية بالقطر الجزائري :”..وكانت المدرسة في موقع جميل طلق الهواء وأمامها فسحة – ميدان- مزينة بالأشجار، مبنية على أدوار ..، وبالجملة فهي أنضر وأزهى قصور تبسة “، وقد ذكر المؤرخ محمد علي دبوز بأنها كانت تحوي ثلاث طبقات كما حدثه ابن بكير المرموري – رحمه الله الجميع -.
احتوت المدرسة على مكتبة مزودة بعديد الكتب، بالإظافة إلى مطعم في الطابق الأرضي أما الطابق الأول فخصص لتحفيظ القرآن وعلومه فقط، بينما كان الطابق الأخير خاصا بتدريس مختلف العلوم الأخرى، وبالعموم فقد جمعت الصدّيقية بين الهيكلة العصرية بما حوته من أقسام مجهزة بمعدات حديثة كالطاولات والسبورة .. والتوفيق في حسن اختيار المكان والتوزيع الإداري والدراسي .
أما المنهج التعليمي والبرنامج الدراسي فقد استقدم لها أستاذان من تونس وهما أحمد بن صالح ومحمود بن محمد، اللذان عملا بتوجيه من الجمعية الصديقية على الاعتناء بالتربية الخُلقية والتربوية للتلاميذ بإحياء القيم الإسلامية وزرع الأخلاق الحميدة وربطهم بسيرة المسلمين، حيث أشار الأستاذ دبوز إلى نشرية خاصة طبعت في تونس سنة 1331هـ تحوي القانون الداخلي وجميع ما له علاقة بالمدرسة، عند الإطلاع عليه تجد العناية الكبيرة والتوزيع المنوع لمختلف العلوم التي يتلقاها التلميذ في مقدمتها القرآن وعلومه وهو مادة أساسية خصص له جزء كبير من وقت الدراسية، كما كان هناك نصيب للفقه واللغة والتاريخ الإسلامي وجغرافية الجزائر والحساب والمكاييل والمقاييس، بل يوجد مجال للتربية البدنية…
وندرك مزية وقيمة تلك المدرسة حين نعلم أن المرحوم الصديق سعدي التبسي كان من تلاميذها – وفق ما ذكره المؤرخ محمد علي دبوز الذي نقل شهادته في كتابه أعلام الإصلاح في الجزائر-، وهو من هو في العلم والمنزلة العلمية، فقد كان من أعوان الشيخ العربي التبسي في مهمة التعليم بمدرسة التهذيب بتبسة، وكان من رجال الثورة بعد اندلاعها في 1954م ـ في مصر التي عمل فيها وكان من أصدقاء المفكر مالك بن نبي، وأصبح بعد الاستقلال أول رئيس للمجلس الإسلامي الجزائري الأعلى …
لقد كانت ” المدرسة الأهلية الصدّيقية ” باب خير ومثالا يقتدي به باقي سكان القطر الجزائري من المسلمين، فانطلق الجزائريون في بناء مدارسهم الحرة رغم أنف الاحتلال الفرنسي، وصارت مدرسة عباس بن حمانة وبكير العنق قدوة لغيرها وأسوة يحتذى بها، وأضحت تبسة في تلك المرحلة لا تذكر إلا ويتذكر الناس مدرستها الصديقية وزعيمها ابن حمانة.

أثر المدرسة الصديقية وانعكاس نشاطها على المجتمع التبسي
اعتبر العديد من المؤرخين والباحثين أن نشاط الزعيم عباس بن حمانة وإخوانه التبسيين والميزابيين والذي أثمر جمعية ومدرسة ” الصدّيقية ” البذرة الأولى والأساس المتين الذي قامت عليه تلك النهضة التربوية والعلمية بمنطقة تبسة وما جاورها، والتي ارتسمت معالمها الكبرى في ذلك الزخم الذي تلا تلك المرحلة، والمتمثل أساسا في الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام العربي بن بلقاسم التبسي بداية من ثلاثينيات القرن العشرين ومجموعة من الرجال المخلصين فيما بعد، الحاملين للقيم الإسلامية والروح النضالية التي كانت تمهيدا لعتق الشعب من أغلال الاحتلال انطلاقا من تحرير الفكر ثم الانطلاق إلى مرحلة أخرى ألا وهي الجهاد والكفاح المسلح الذي تمثل في المعركة الفاصلة معركة الجهاد الذي انطلق مع الفاتح نوفمبر1954م ـ.
في الحقيقة كان تأسيس مدرسة التهذيب للبنين والبنات بتسبة سنة 1934م انطلاقة ثانية، بإحياء مجالس والدرس ورياض العلم التي مهد لها الشيخ عباس بن حمانة ومدرسته الحرة، إذ كان القاسم المشترك بينهما هو بث العلم وتنوير الأذهان وكسر قيود الجهل والخرافة، وإماطة اللثام عن وهم الحضارة الكولونيالية العنصرية التي يريد من خلالها الإحتلال الفرنسي الصليبي إقناع الجزائريين بأنه ينشر العدل والمساواة والقيم الإنسانية، وماهي في الحقيقة إلا سرقة عقول أبنائهم مع ثرواتهم وسلب إيمانه كما ينهب خيراته لا غير.
لم يتوقف مشروع الشيخ عباس بن حمانة عند اغتياله – نحسبه عند الله من الشهداء- ، بل كان لابنه السياسي المثقف علي بن عباس دور ٱخر في الحياة الوطنية خلال الثلاثينات من القرن العشرين حيث شغل منصب عضو في المجلس البلدي 1907/1035م صاحب السمعة الطيبة والجهد الحثيث في قضاء مصالح أهل تبسة وتشجيع ما يمكنه من طاقات خدمة لهم، وقد شهد بذلك العديد من رجالات تلك المرحلة من أبرزهم الإمام ابن باديس- رحمه الله – رائد النهضة العلمية الجزائرية الحديثة، والذي أثنى عليه خلال زيارته لتبسة سنة 1929م حيث كان في استقباله في محطة المدينة مُرحبا به ومكرما له، فنجد مما قاله العلامة عبد الحميد بن باديس ونشرته في جريدة الشهاب :
” .. أعجبني النائب البلدي والعمالي السيد علي عباس، أعجبني نشاطه وإخلاصه وحسن سياسته في إدارة مصالح مندوبيه، فمن ذلك سعيه .. لدى البلدية حتى اشترت عشر نسخ من كتاب ” تاريخ الجزائر” للأستاذ مبارك الميلي ووزعها على التلاميذ، واشترك معنا في مجلة الشهاب ..” الشهاب نوفمبر 1929م نقلا عن الأستاذ أحمد عيساوي٬ كما كان لعلي بن عباس مراسلات مع الشيخ العربي التبسي رحمهما الله، – أنظر الصورة المرفقة ونعتذر مسبقا عن قلة وضوحها لكونها قديمة – ، جمع بينهما الاحترام والتعاون وتبادلات الرسائل واللقاءات لمناقشة ومدارسة أحوال تبسة وأهلها .
لقد كانت الصديقية بحق فضاء رحبا التقى فيه نور العلم ورحمة الأخوة وحرارة التعاون بين التبسيين وإخوانهم بني ميزاب، زادت مجالسها في لحمتهم ووحدتهم فحق لها أن تكون منارة يحتفى بها وذكرى تروى يستأنس بها وعبرة في ميدان التضحية والإخلاص يقتدى بها، فيا ترى هل تستحق الآن تلك المنارة العلمية وروادها الرجال الأخيار الذكر والتخليد بل والتمجيد، وقد كانوا يوما ما من بناة المجد وأعلامه بل ورواده ؟ ..

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.