شيخ علماء الجزائر عبد الرحمن شيبان في حوار لمجلة المجتمع
حدثنا عن جمعية العلماء المسلمين في الجزائر؟
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تتأسس صدفة، ولا جاءت طفرة، بل هي ثمرة جهود قام بها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقد أرادوها ردًّا على دعوى "المستدمر" الفرنسي الذي احتفل عام 1930 بمرور مائة سنة على احتلاله للجزائر فكان الإعلان عن تأسيسها جواباً حازماً وحاسماً على خيبة مسعاه، وبطلان دعواه، كما أرادها الله تصديقاً لنبوة نبيه عليه أزكى صلاة وأتم سلام التي تضمنها حديثه: "إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
ولا يخفى على أحد أن جمعيتنا هذه قد تكفلت قبل الثورة بمهام أساسية هي:
الحفاظ على الإسلام والدفاع عنه ومقاومة كل محاولات تنصير المجتمع.
الحفاظ على اللسان العربي ومقاومة محاولات الفرنسة وإحباطها.
مقاومة محاولات الإدماج ومساعي وتذويب المجتمع الجزائري في الكيان الفرنسي.
وقد تطلب ذلك نشر التعليم العربي وإذكاء الفكر الديني وبث الوعي السياسي قصد تهيئة العقول والنفوس لتحمل مسؤولية القيام بالواجب حال نشوب حرب تحريرية تقتضيها رغبة الشعب في استرجاع سيادته المسلوبة، واعتمدت كذلك إستراتيجية طويلة المدى سخرت لها أدوات منها: إنشاء المدارس والتوسع في التعليم وجعله يشمل الجنسين ومتعدد المراحل واتخاذ الإجراءات التي تسمح لخريجي مدارس الجمعية بمواصلة التعليم العالي خارج الجزائر مثل تونس والمشرق العربي، وبناء المساجد والتوسع فيها وتكثير المنابر والدعوة ونشر الفكر الديني الصحيح عند الكبار وتأسيس النوادي لاستقطاب الشباب، واتخاذها إطاراً للتكوين الثقافي والسياسي قصد تحصينهم ضد الانحراف ومحاولات تخديرهم من قبل المحتل لصرفهم عن واجباتهم الوطنية والاجتماعية، وإصدار الصحافة الناطقة بالعربية لنشر فكر الجمعية على أوسع نطاق ولاستقطاب الكفاءات ذات التوجه الوطني للاستفادة من جهودها في خدمة أهداف الجمعية، وإنشاء جمعيات خيرية ورياضية وكشفية لاستغلال أوقات الفراغ ومحاربة البطالة وتدريباً لأفراد المجتمع على التنظيم والتسيير لتكوين قاعدة من القيادات تفيد المجتمع في القيام بمسؤولياته كاملة عند اللزوم.
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قبل الثورة وأثناء الثورة وما بعد الاستقلال وفي فترة التوقيف.. والآن ماذا بقي من مبادئها وأهدافها وتراثها؟
ركزت الجمعية جهودها قبل الثورة على محاربة اليأس وبعث الأمل في النفوس، وتجديد الثقة في قدرة الشعب على تغيير الواقع الذي فرضه عليه المحتل ومحاربة الجهل والأمية، وإصلاح الأخلاق وبعث الوعي السياسي الذي يهيئ الشعب للثورة على المحتل، وذلك بمدارسها الحرة ومساجدها وأنديتها، وصحفها، وحافظت على مبدئها كجمعية وطنية مستقلة وإن كان لها رأي في جميع القضايا الوطنية.
أما أثناء الثورة فقد انصرفت الجمعية إلى إمداد الثورة بالرجال وتعبئة الشعب للالتفاف حولها؛ إذ انخرط رجالها وأتباعها في صفوف جبهة التحرير الوطنية وأبلوا في النضال بلاءً حسناً وكان منهم شهداء.
أما بعد الاستقلال فقد وضعت نفسها في خدمة الدولة التي دينها الإسلام ولغتها العربية ودعم جهودها في البناء والتشييد. وقد كان لرجال الجمعية الأثر الإيجابي في التربية والتعليم والوعظ والإرشاد وتنشيط الحياة الثقافية وحتى عند توقيفها ظل رجالها وأبناؤها يعملون ليل نهار في خدمة مبادئها وتحقيق أهدافها وكان لهم الدور المشرف في خدمة الإسلام والعربية، واليوم بعد أن عادت إلى النشاط في عهد التعددية تواصل جهودها عن طريق النوادي، وإن كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد توقفت في عهد الاستقلال، فلا يعني ذلك أن رجالها انفرط عقدهم وانقطع بذلك تأثيرهم في المجتمع، بل ظل رجالها مخلصين لمبادئها مؤمنين بأهدافها وبقوا يعملون كل في مجاله وحسب اختصاصه، بما يمليه عليهم الضمير، ويدعوهم إليه واجبهم الديني والوطني إلى أن أذن الله بعودتها من جديد في عهد التعددية، فسارعوا عندها للإعلان عن عودتها إلى النشاط، فعادت إلى العمل وبادرت بتأسيس شعبها في جميع أنحاء القطر، وإصدار صحيفة (البصائر) لسان حالها واستعادت مركز ميلادها الذي هو (نادي الترقي).
تعرضت الجمعية إلى مرحلة تهميش بعد الاستقلال، وانبعثت بعد التعددية من جديد.. ما الظروف التي أدت إلى ذلك وكيف انبعثت من جديد؟
معروف أن الفترة التي تم إيقاف الجمعية فيها عن نشاطها هي فترة ساد فيها النظام الاشتراكي كثيراً من بلدان العالم الثالث، وكان لا ينظر بارتياح للدين كما كان يؤمن بالمركزية ونظام الحزب الواحد وباعتبار ذلك اقتضت الظروف آن ذاك إيقاف كل الجمعيات والتنظيمات الجماهيرية، إلا تلك التي انضوت تحت لواء الحزب الواحد، أي أن الجمعية لم تتوقف عن نشاطها استثناء بل كان إجراء عاماً مس جميع الجمعيات آنذاك. ولكن رجالها وممثليها تولوا مناصب مهمّة في الدولة مثل وزارة الشؤون الدينية والتربية والتعليم، كما شغلوا الوظائف الإدارية المفتوحة للمواطنين.
وكما قلتم لمّا أطلّ عهد التعددية بعد صدور دستور 1989، الذي أقرّ بالتعددية غدت الظروف ملائمة لعودتها إلى نشاطها من جديد فعادت، وقد لقيت كل ترحيب ومباركة وهي اليوم تقوم بدورها بكل ثقة وإيمان.
الجزائر بعد مرحلة الفتنة تعرضت إلى كسر وقتل وقبر المرجعيات الدينية، وتتحمل السلطة جزءًا كبير من ذلك كما يتحمل العلماء الجزء الباقي، فهل تحمل الجمعية على عاتقها مسؤولية إعادة بعث المرجعية الدينية في الجزائر؟
أنا لا أوافقكم على أن السلطة أو العلماء يتحملان مسألة كسر وقتل وقبر المرجعية الدينية على حدّ تعبيركم هذا من جهة، ومن جهة ثانية المرجعية الدينية في الجزائر برغم الفتنة التي ألمحتم إليها لم تضار بل بقيت صامدة في الميدان تعبر عن رأي الإسلام في كل ما كان يعرض للمجتمع الجزائري من مواقف أليمة أو سارة، فلدينا وزارة الشؤون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى وهيئة الإفتاء، وهذه الجهات كانت ومازالت وستظل تعبر عن رأي الإسلام في ربوع الجزائر بصدق وأمانة لا تأخذها في الله لومة لائم. أما عن دور الجمعية فسيظل يركز على إسناد هذه المرجعيات وتعزيز دورها في المجتمع بما يوحد الرأي ويعزز وحدة هذا الشعب.
بالرغم من أن للجمعية دوراً كبيراً في تاريخ الجزائر إلا أن الكتابة حول الجمعية كانت انتقائية وجهودها أصبحت مغفلة اليوم، بل وعليها ركام من الشبهات لاسيما أثناء الثورة. ما رأي الشيخ في ذلك؟
من قال إن جهود الجمعية أصبحت مغفلة؟ فها أنت تقر بأنها كان لها دور كبير في تاريخ الجزائر، فلا شك أنك سمعت أو قرأت عنها. ولو كانت جهودها مغفلة ما كان لها أن تستأنف نشاطها من جديد وتعيد بعث نشاط جميع شعبها في كل ربوع الجزائر. أما الكتابات الانتقائية فذلك يرجع للصراع الاجتماعي الذي لا يخلو منه مجتمع؛ فكل مجتمع تظهر فيه أفكار وأفكار مضادة وتلك سنة الله في خلقه، أما قال سبحانه وتعالى: » ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين« (251) (البقرة). أمّا فيما يتعلق بالشبهات فقد أتينا بالدليل القاطع على أن الجمعية كانت سباقة لتأييد الثورة ومناصرتها بدليل البيان الذي نشره الشيخ الفضيل الورتلاني في الصحف المصرية في نوفمبر 1954 وهو أحد أبرز أعضاء هيئتها الممثلة لها في المشرق العربي آنذاك والذي جاء فيه: "حيَّاكم الله أيها الثائرون وكتب ميّتكم في الشهداء الأبرار وحيّكم في عباده الأحرار".
كيف تتعامل الجمعية مع السلطة والعكس؟ وهل لكم علاقات مع باقي الطبقات السياسية والاجتماعية وما طبيعتها؟
لقد ذكرت آنفاً أننا جمعية فكرية دينية ثقافية لا شأن لنا بالأمور السياسية الحزبية، وعلاقاتنا مع السلطة ومختلف الطبقات السياسية والاجتماعية هي علاقة تعاون وتكامل فيما يخدم قضايانا الوطنية ويكفل لمجتمعنا الجزائري أمنهُ واستقراره وازدهاره، ونحن نضع معارفنا وخبراتنا وتجاربنا في المجال الديني والفكري والإصلاحي في خدمة بلادنا في إطار ما يعزز دور الإسلام والعربية ويحفظ للمجتمع وحدته وتماسكه وانسجامه، والسلطة تقدر ذلك.
تتعرض ثوابت الأمة في الجزائر إلى العديد من التحرشات، الأمر الذي مكّن الأطراف العلمانية. فما مواقفكم من كل ذلك؟
الله يشهد أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد تصدت لمحاولات العلمنة منذ فجر الاستقلال، حيث كان البعض يطالب بلائكية الدستور الجزائري، وهذه مقالاتنا حول قانون الأسرة التي نشرناها في البصائر لسان حال الجمعية تنفي بشكل قطعي تأييد الجمعية لأية علمنة بل أذهب أبعد من ذلك فأقول إن جمعيتنا قد وفقت إلى حد بعيد في كبح جماح العلمنة في بلادنا وإلا لكان الحال غير الحال الذي تراه.
تقفون إلى جانب المصالحة، فكيف تفهم الجمعية المصالحة الوطنية؟ وهل الميثاق كفيل بمعالجة الأزمة الجزائرية؟
لا تستطيع الجمعية إلا أن تقف إلى جانب المصالحة الوطنية؛ امتثالاً، لقوله تعالى: »إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون « (الحجرات 10). وقد أسلفت أن الجمعية تحرص على وحدة وتماسك المجتمع، ومن ثم فمن الطبيعي أن تبارك كل جهد يرمي إلى توحيد الصّف ورأب الصدع، واعتقادنا بأن الميثاق حتى إن افترضنا أنه لا يحل الأزمة الجزائرية كلها ويحسمها بشكل نهائي، فإن ذلك لا يجعلنا نغفل دوره في تعزيز جهود الدولة الرامية إلى تجاوز الأزمة هذا إلى جانب كونه يستجيب لآمال فئة بل فئات كثيرة من هذا المجتمع.
لكم حضور مميز في مجمع الفقه الإسلامي الدولي.. هل يمكن أن تحدثونا عن دور هذا المجمع؟
دوره قد حددتْه تسميته، فهو يتكفل بإيجاد حلول فقهية للنوازل التي تعرض للأمة الإسلامية بحكم التحولات المتوالية في عالم السياسة والاقتصاد والفكر، أي التحولات الحضارية برمتها، بما يتيح للمسلم فرداً كان أو جماعة الانتفاع مما يتيح التطور الحضاري من إمكانات ويوفره من منافع، من غير أن يترتب على ذلك تنكره لدينه أو انسلاخه عنه. باختصار جعل المسلم مع كونه كذلك معاصراً أو مسايراً للتطور في جميع مجالات الحياة من غير حاجة إلى تفريطه في قليل أو كثير من عقيدته وشريعتها السمحة تماماً، كما تمنى ذلك الرئيس المؤسس لجمعيتنا الشيخ عبد الحميد بن باديس ودعا إليه طيلة حياته.
تحدثت السلطة عن دار للفتوى ولكن ألغيت من برنامج الرئيس.. ما الخلفيات التي تقف وراء ذلك؟
أولاً أحب أن أشير أنّ آفة الإفتاء بغير علم لا تميز الجزائر وحدها، وهذا أعتبره تحاملاً على الجزائر بل هي بلوى عمّت البلاد العربية والإسلامية قاطبة. ولا أدل على ذلك من أن مفتي الأزهر تقدم هو بذاته بمشروع إلى مشيخة الأزهر لتشكيل هيئة أو لجنة لرقابة الفتاوى التي تقدم على الإنترنت والفضائيات التي شذ فيها أصحابها بطريقة تهدد الدين ذاته وتربك الأمة. فالأمر إذن بلاء عام، وما خصنا وحدنا فقط. أما فيما يتعلق بأسباب إلغاء دار الإفتاء فيُسأل عنها غيرنا.
رحلت عن الجزائر رموز مهمة في الآونة الأخيرة وعلى رأس هؤلاء الشيخ محفوظ نحناح والشيخ أحمد سحنون، والشيخ بوسليماني من علماء الأمة الجزائرية، ما العلاقات التي تربطك بهؤلاء جميعاً؟ وما مستقبل المرجعية الجزائرية؟
رحم الله ثلاثتهم وأسكنهم فسيح جنانه، فقد كانوا نعم الإخوة لي؛ فالشيخ أحمد سحنون كان لي زميل جهاد، وأما الشيخان الآخران فقد كانا تلميذين لي ثم صارا من مساعدي الأصفياء الأوفياء، وأنا لا أوافقك على أن المرجعية فُقدت في الجزائر، بل هي باقية فيها إلى يوم الدين بحول الله ذلك لأنها ولا فخر مازالت تزخر بالرجال من ذوي العلم والخبرة والشجاعة في الحق وحسن التأتي للأمور، بما يجعل مرجعيتنا الدينية باقية فينا بحمد الله.
تعتبرون شاهد عيان على مراحل مهمة من تاريخ الجزائر، كيف تقرؤون ما وصلت إليه الجزائر من محن؟ وكيف تنظرون إلى الأسباب والمستقبل؟
من المعروف أن الأزمة التي اجتازتها بلادنا لها أسباب داخلية وخارجية ترجع للتحولات الجذرية للنظم السياسية العالمية ذاتها، وهي بحمد الله على وشك اجتيازها بسلام نهائياً بحول الله، ولا أرى مستقبل الجزائر إلا زاهرًا مشرقاً ما تمسكت بدينها ولغتها وقاومت دعاة التغريب والتخريب.
الشيخ شيبان في سطور..
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
عينه رئيس جمعية العلماء الإمام الشيخ البشير الإبراهيمي أستاذاً للبلاغة والأدب العربي بمعهد عبدالحميد بن باديس بمحافظة قسنطينة "شرق الجزائر" سنة 1948.
من الأعضاء الناشطين والمجاهدين في المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني في الجزائر.
رئيس تحرير مجلة الشباب الجزائري التابعة للجبهة بتونس في سنوات الثورة.
عين مستشاراً لرئيس بعثة الثورة الجزائرية بليبيا سنة1960.
كان من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي في فجر الاستقلال سنة 1962 مقرراً للجنة التربية.
له إسهامات في جعل "الإسلام دين الدولة" "والعربية اللغة الوطنية الرسمية"، وذلك من خلال عضوية اللجنة المكلفة بإعداد دستور الجزائر في بداية الاستقلال.
عين وزيراً للشؤون الدينية لمدة ست سنوات "19861980"؛ حيث أشرف على تنظيم ستة ملتقيات للفكر الإسلامي منها ملتقى القرآن الكريم والسنة النبوية وكذا ملتقى للاجتهاد والصحوة الإسلامية والإسلام والغزو الثقافي والإسلام والعلوم الإنسانية.
كانت له مساهمة إيجابية في افتتاح جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بمحافظة قسنطينة وتعيين المفكر والمصلح الإسلامي الشيخ محمد الغزالي رئيساً للمجلس العلمي وتمكينه من إلقاء الدروس المتلفزة المشهورة.
كانت له جهود في دمج الشيخ محفوظ نحناح والشيخ محمد بوسليماني رحمهما الله في التعليم بعد مرحلة السجن.
*مجلة المجتمع عدد 1676 بتاريخ 12/11/2005