قراءةٌ وصفيةٌ تحقيقُ موطأ الإمام المهدي لأبي القاسم الحفناوي الدّيسي
بقلم: محمد بسكر-
يرجع اهتمام الجزائريين بتحقيق المخطوطات إلى حقبة الاستعمار، حيث كان المستشرقون الفرنسيون يشرفون على التراث الجزائري اللّامدي دراسةً وتحقيقًا ونشرًا، ووظّفوا لهذه الغاية بعض الكفاءات العلمية الجزائرية، وكان من أكثر المساهمين في هذا المجال الدكتور محمد بن أبي شنب، الذي حقّق بعض المؤلفات الهامّة، ككتاب”البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” لابن مريم، و”عنوان الدّراية فيمن عرف من العلماء في المئة السابعة ببجاية” للغبريني، ورحلة الشيخ الحسين الورتلاني المسماة ” بنزهة الأنظار”.
ومنهم الشّيخ أبو القاسم الحفناوي المنحدر من بلدة الدّيس، والذي عرفناه مفتيًا للمالكية، ومؤرّخًا خبيرًا بتراجم الرجال، اشتهر بكتابه “تعريف الخلف برجال السّلف”، أحد المؤلفات الهامّة المعرفة برجال العلم فترة العهدين العثماني والاستعماري، وله مؤلفات أخرى معلومة في كتب التراجم، ومن أعماله التي لم تذكرها كتبُ الأَعلام اختصاره لكتاب” الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، لمؤلّفه أحمد بن خالد الناصري، والذي لم يسعفه الزّمن لإكماله، منه نسخة من ورقتين في زاوية الهامل، وله تأليف آخر وهو “شرح الجغرافيا”، ولم يكمله أيضا، منه نسخة في خزانة الأستاذ الباحث بلقاسم ضيف، بحاسي بحبح، ومن أعماله التي لم تتحدث عنها المصادر المترجمة له، إشرافه على تحقيق كتاب” موطأ الإمام المهدي ابن تومرت”.
وابن تومرت هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المنعوت بالمهدي الهرغي، واضع أسس دولة الموحدين التي نشأت على أنقاض دولة المرابطين، عاد إلى المغرب بعد أن أنهى دراسته في المشرق يحمل أفكارا جديدة في أصول الدّين والتشريع، وكان النّاس في ذلك العهد على مذهب السّلف في العقائد، فحملهم على مذهب الأشاعرة المرتكز على التأويل، ونشر بينهم مباحث علم الكلام التي كانت محرمة عليهم من قبل، وبث في وسطهم فكرة المهدي الشيعية.
كان لفكر “ابن تومرت” تأثيره في الحياة الدّينية والاجتماعية من خلال ما خلّفه من رسائل كثيرة لاتزال محلّ جدل بين الدّارسين، أهمها كتابه ” أعزّ ما يطلب”، وهو عبارة عن مجموع رسائل في مواضيع شرعية مختلفة، شملت علم التوحيد والأصول والفقه والسياسة، وعقيدته المسماة ” المرشدة “، عرضٌ موجزٌ لمسائل العقيدة الأشعرية الخالية من البراهين، جذبت إليها اهتمام الباحثين، فشرحها من العلماء الشيخ محمد بن يوسف السنوسي(ت895ه/1489مـ) دفين تلمسان، وابن عباد التلمساني (ت792هـ/1389م).
لم يكن ابن تومرت مالكي المذهب، فقد انتحل المذهب الظاهري وإن لم يظهره، وهو ما أثبته ابن الخطيب في “شرح رقم الحلل في نظم الدول” من « أنّ ابن تومرت كان ينكر كتب الرأي والتقليد»، ومراده بهذا الإنكار أنّه كان ينتحل المذهب الظاهري، كما تنطق بهذا تحلية الونشريسي له في موسوعته الفقهية ” المعيار المعرب” ( 2/361)، ومع نزوعه لمذهبه الذي اختاره، ونحلته التي ابتدعها، وعداوته الظاهرة للفروع والآراء التي لا سند لها، فإنّه اهتم برواية موطأ الإمام مالك، ممّا يدل على ارتباطه بالمصدر الأوّل للمدرسة المالكية، وفكرُ العداء للمذهب المالكي برز أكثر في عهد خَلَفه يعقوب بن أبي يوسف الذي حمل النّاس على المذهب الظاهري، وأمر بتحريق كتب الفروع بعد تجريدها من الأحاديث والقرائن، وقد طال الإتلاف مدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد القيرواني، وكتاب التهذيب للبراذعي وواضحة ابن حبيب…وغير ذلك، وكان كُتّابُ الدّولة الموحّدية تشبّعوا بمذهب ابن تومرت واعتنوا بكتبه في عهد أوّل خلفائه عبد المؤمن بن علي بن مخلوف أبو محمد الكومي، يقول صاحب الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية ص150:« ووقّفَ الحفّاظ لحفظ كتاب الموطأ، وكتاب أعزّ ما يطلب وغير ذلك من تواليف المهدي، وكان يدخلهم كلّ جمعة بعد الصّلاة داخل القصر، فيجتمع الحفّاظ فيه، وهم نحو ثلاثة آلاف كأنهم أبناء ليلة، من المصامدة وغيرهم ».
نَسبت كتبُ التراجم والتّاريخ تأليفا مخطوطا لابن تومرت بعنوان ” موطأ الإمام المهدي” ، وبعض فهارس المخطوطات ذكرته باسم ” محاذي الموطأ “، كما جاء في فهرس مخطوطات القرويين 33/33، والبعض وصفه بأنّه « شرح لموطأ الإمام مالك برواية يحي المخزومي»، كما جاء في الترجمة التي وضعها له الأستاذ محمد ألوزاد في المعلمة المغربية، وهذا خطأ بيّن يدركه كلّ مطلع على مؤلفاته ورسائله، وفي معجم المطبوعات ذكره باسم ” موطأ الإمام مالك رواية ابن تومرت، ويعرف بموطأ الإمام المهدي”، وهذه عناوين وضعت خطأ، لأنّ ما قام به ابن تومرت أنّه اختصر في تأليفه سند موطأ الإمام مالك برواية يحي بن عبد الله بن بكير المخزومي، فحذف منه الأسانيد واكتفى بالرّاوي الأخير للحديث، مع تقديم وتأخير على أسلوب مفيد وترتيب سديد، أملاه عنه عبد المؤمن « بمراكش يوم الاثنين 3 ذي الحجة سنة 544هـ/1149م، وسنده متصل برواية المهدي بن تومرت إلى أن يصل السند إلى أبي زكرياء يحي ابن عبد الله بن بكير المخزومي عن الإمام مالك».
ونُسخ هذا المختصر الخطّية قليلة، منها نسخة نادرة بالخزانة الوطنية الجزائرية، ملونة بالأزرق والبني، وعناوينها مزخرفةٌ بالذهب، مكتوبة على الرق بخطّ جميل، وهي التي اعتمدها الحفناوي في تحقيقه، قال في مقدمة التّحقيق: « بقي هذا المجلد محفوظا في الخزانة منذ مدة طويلة، بجودة خطّه المغربي أو الأندلسي»، وتمّ طبع الكتاب بمطبعة فونتاتة الشرقية، بإشراف المستشرق قولدزيهر سنة 1905م، طبعة أنيقة بخط مغربي جميل في 764 صفحة، في آخرها جدول لتصحيح الأخطاء، وحافظ المحقّق على اسم الكتاب كما ثبت في النسخة المخطوطة” موطأ الإمام المهدي”، وتوصّل إلى صحة نسبة التأليف إلى ابن تومرت، بعد مقارنة ونتائج وصل إليها منها:
• أنّ الخط الذي كتبت به يشه خطّ رسالته الموسومة ” أعزّ ما يطلب”، المحفوظة في مكتبة باريس.
• قرب تاريخ نسخ ” الموطأ ” من تاريخ نسخ “أعزّ ما يطلب”، فالأول يرجع لسنة 590هـ /1193م، والثاني لسنة 579هـ/1183م.
• تعليق النّاسخ على المخطوط في أوّله وآخره، «من أنّه نسخه أمير المؤمنين أبي يوسف ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين خلّد الله ملكهم».
قام الشيخ أبو القاسم الحفناوي بتحقيق هذه النّسخة وتصحيحها، وساعده في ذلك الفقيه شرشالي مصطفى، والسّيد بوزار محمد، المحرر بجريدة المبشر، وكتب مقدمة للطبعة وخاتمة لها، ولكونه تعامل مع نسخة واحدة فإنّه استعان في ضبط نصّها ومقارنتها بموطأ الإمام مالك وشرح الزرقاني له، للوقوف على الصواب وتدارك بعض الألفاظ غير الواضحة.
رُمت من خلال هذه الأسطر، أوّلا الإشارة إلى هذا الكتاب حتى تلتفت إليه دور النشر الجزائرية، فتعيد طبعه مرة ثانية لقيمته العلمية والتاريخية، وثانيا التنبيهُ لأهمية الجهد الذي بذله الشيخ أبو القاسم الحفناوي الديسي في إحياء التراث، ليستدرك المترجمون لحياته هذا العمل، فيضيفونه لسرد مؤلّفاته حتى لا يبخس حقّه.