محمد الصالح ذنايب رحمه الله قيمة وقامة
محمد بوالروايح

محمد الصالح ذنايب رحمه الله قيمة وقامة

بقلم: محمد بوالروايح-

إن الكبار يعيشون في الظل فلا يدرك الناس قيمتهم إلا بعد فقدهم، ونحسب أخانا الدكتور محمد الصالح ذنايب رحمه الله، أستاذ أصول الفقه بجامعة أحمد دراية بأدرار، من هذا الصنف البعيد عن الأضواء الذي يمقت الظهور والمنافسة فيما هو من متاع الغرور، صنف متعفف لا يأسى على نعيم زائل بل همّه أن يرضي ربه ويخدم أمته ثم يمضي في صمت.

رنّ هاتفي قبل أيام فإذا بمحدثي يخبرني بأن الدكتور محمد الصالح ذنايب قد أفضى إلى ربه فانتابني حزنٌ عميق ليس تبرُّما بالقدر فللَّه ما أعطى وما أخذ وكل شيء عنده بقدر، خلق الخلق فقدَّر لهم آجالا “فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” . لقد انتابني حزنٌ عميق على فقدان قيمة وقامة حازت الإجماع وكان لها فضلٌ عليَّ وعلى كثيرين وعلى جماعة المسلمين.

لم يكن الدكتور ذنايب في مرحلة من المراحل شغوفا بالدعوة ولا مهتمّا بالصحوة لا يختلف في ذلك عن كثير من أقرانه الذين مسَّهم طائفٌ من المدنية الزائفة التي لا ترى التطوُّر إلا سباحة في فلك الشرق أو الغرب. لقد مس الرجلَ طائفٌ من هذا الزيف ولكن لم يُعهد عنه أنه ارتمى في أحضان الإلحاد أو أنه حارب التوحيد أو أنه اتبع فلسفة تروتسكي أو لينين كما حدث لبعضهم قبل أن يشرح اللهُ صدورهم ويبصِّرهم بالحقيقة.

كانت فترة السبعينات فترة عصيبة مليئة بالفتن ما ظهر منها وبطن، وأقصد بالفتن هنا ما يصادم الفطرة ويعارض العقيدة، وكان التدين حينها تهمة جاهزة؛ لأن جدلية ماركس قد طغت على المشهد فلا تجد بين الإبل المائة راحلة، ولا تجد أكثر الشباب في ذلك الوقت إلا سابحا في فلك ماركس أو مسبِّحا بحمد لينين. وكان تيار الصحوة يمتدُّ شيئا فشيئا، ويشتدّ ويعتدّ حتى استوى على سوقه، وبدأت الفكرة الدينية تجرّ إليها كثيرا من ضحايا فلسفة اليمين واليسار. لقد عايش الدكتور ذنايب رحمه الله هذه الفترة التي تركت في نفسه تساؤلات كثيرة، فطفق يحلل أسرار هذا التضاد وتمدد الإلحاد، فأبدع في التحليل والتأصيل، فقد حباه الله بفكر متّقد، فكان لا يكتفي بتقليد الآخرين، بل ينتج من بنات أفكاره ما يراه موافقا للحق وأقرب إلى المنطق.

انخرط الدكتور ذنايب في تيار الصحوة الإسلامية، كان في البدايات من المريدين ثم تحوّل إلى منظر ومفكر، وكانت له إسهاماتٌ مفيدة في إصلاح الدعوة وترشيد الصحوة والنأي بها عن صراع الزعامات والقيادات، فقد كان يرى بأن التمكين للدعوة الإسلامية هو الغاية التي ينبغي أن تعمل لها الحركة الإسلامية بعيدا عن التعصُّب المذهبي والتطرُّف الحركي، ولكن الأمور سارت على خلاف ما أراده الدكتور ذنايب وما أراده رواد الحركة الإسلامية وانقسمت الحركة الإسلامية إلى تيارات، وحرص كل تيار على جرّ النار إلى قرصه وحشد أتباعه وتبدَّد الجهدُ الحركي، واصطدمت الحركة الإسلامية بمعوقات كثيرة من داخلها، فمنها ما تلاشى وانتهى ومنها ما أكمل المشوار حتى أدركها زمنُ التعددية فانخرطت في العمل السياسي ولا تزال إلى الآن.

كان الدكتور ذنايب يؤمن بأن الحركة الإسلامية كتلة واحدة في الأساس رغم اختلاف تياراتها، والمهم بالنسبة له هو تحقيق المشروع الإسلامي على يد أي من هذه التيارات. وكان له لقاء مع الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله سنة 1985 وكانت تلك فرصة سانحة لأخينا ذنايب من أجل التعرف على التنظيم الدولي والموازنة بين الحركتين الإخوانيتين واتخاذ القرار المناسِب بعد ذلك، وكان الشيخ نحناح في هذه الفترة حريصا على الاستماع إلى الجميع من أجل وضع الآليات التي تفيد في لمِّ شمل الحركة الإسلامية التي كان ينظر إليها على أنها جزءٌ لا يتجزأ من مشروع كبير يجمع في طياته المكوِّنات الإسلامية والوطنية ويجتمع حوله المخلصون من أبناء الحركة الإسلامية والحركة الوطنية، وكانت قناعة الدكتور ذنايب تصبُّ في هذا الاتجاه، وهو ما عمل له عند التحاقه بجامعة أحمد دراية بأدرار دارسا ومدرِّسا؛ فقد جاء في شهادات بعض تلامذته بأنه كان شخصية متزنة ووسطية، تحمل هموم الدين وهموم الوطن، وتسعى لاستعادة الدور الريادي للأمة الجزائرية، تماما كما حلم بها الشهداء وتمناها الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس.

حدثني أحد الأساتذة بجامعة أدرار لما سألته عن الدكتور محمد الصالح ذنايب رحمه الله فقال إن لهذا الرجل طموحا لافتا للنظر، فهو لا يعرف الفشل ولا يؤمن بأن العمر يصنع الفارق في عالم الفكر وبأن الكبر عائق عن النظر، لم يكن –كما أضاف محدثي- يشعر بعقدة التعلّم على يد من هو في سن ابنه ولا بعقدة الدراسة مع من هم في سن أبنائه، ولكن ما يميزه أنه كان إذا تكلم أنصت الجميع، فقد كان يضيف ويفيض في موضوع المحاضرة ما شاء له ممّا لم يهتدِ إليه الجميع ولا تفسير لذلك إلا بكون ذلك قبسا من النور الإلهي قذفه الله في قلبه.

كان الدكتور ذنايب –كما روى شقيقه في تأبينيته- زاهدا متعففا فكان لا يأخذ من المال الذي تدرُّه الشركة التي كانا يديرانها معا إلا ما يكفيه، وحينما يسأله عن ذلك يقول له “المال فتنة وأخشى أن يشغلني عما هو أهمّ وأبقى”، ولعله رحمه الله يتمثل في ذلك قول الله تعالى: “المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابا وخير أملا”.

لم يكن يرى على الدكتور ذنايب أثر النعمة مع أن هذا لا يتعارض مع خُلق الإيمان والاستقامة فقد جاء في الحديث: “إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده”. لم يكن الدكتور يتفنن في اللباس واقتناء الماركات الجديدة، بل كان متواضعا في ذلك حتى إن الذي يجهله يعتقد أنه لا يملك عقدا على نقد.

الدكتور ذنايب قيمة وقامة فقدته فجّ امزالة وزارزة والجزائر، وفقدته الساحة الدعوية والجامعية، ولكن عزاءَنا أنه ترك علما يُنتفع به وأبناء صالحين يدعون له، وهو ما يبقيه حيا رغم أنه قد أفضى إلى ربه، وأشهد كما يشهد كثيرون بأنه قد خلّف أبناء صالحين لا يهمّهم من تركة أبيهم إلا ما خلّفه من ذكر طيِّب وعلم يُنتفع به، وأتمنى أن يسعوا لطبع كل أعماله ونشرها وتوزيعها مجانا، فإنها ستكون له ولهم نورا يمشون به يوم القيامة.

ينتمي المرحوم إلى عائلة ثورية محبّة للعلم والعلماء فقد كان أبوه “السعيد ذنايب” رجلا محترما مهابا وقاضيا شرعيا، وأبناؤه وأحفاده بين تاجر ماهر وصيدلي بارع وقانوني مبرز وابنته على خطاه بإذن الله وسنراها قريبا باحثة متألقة، تملأ الفراغ الذي تركه والدُها رحمه الله.

مما تميز به الدكتور محمد الصالح ذنايب رحمه الله رحابة الصدر فلم يُعرف عنه أنه كان نزّاعا إلى الخصومات إلا ما أكره عليها، ولم يُعرف عنه أنه هجر أخا أو جهل على أحد أو قبّح أحدا، بل كان يكظم غيظه، ونعرف ذلك من قيامه وانصرافه حتى لا يجعل لنفسه سلطانا عليه. ومما تميز به أنه كان حريصا على قضاء حوائج الآخرين التي يؤثرها على حوائجه، فلا تستعصي لأحد من إخوانه حاجة إلا ويقضيها له باذلا في ذلك جهده وماله، فكم فرّج من كربات وكم قضى من حاجات، نسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناته.

رحم الله الدكتور محمد الصالح ذنايب وأكرم نُزله وجعل مقامه في عليين وجمعنا به في مستقر رحمته “إخوانا على سرر متقابلين”. آمين.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.